العرّاف... ديمقراطية الليمون بالنعناع

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ايهما اكثر غرابة، الخيال ام الحقيقة؟ وهل الفن يحاكي الواقع ام ان الواقع اصبح يحاكي الفن؟ سؤالان يحتملان اكثر من اجابة تبعا للمدارس والمرجعيات الفكرية الناظمة لعقل المجتمعات... وهما سؤالان يتفرد الاول بحضوره في كل شؤون الحياة، وينفرد الثاني بمساحة واسعة من نشاط الانسان الفني، في السينما او التلفزيون وبدرجة اقل في الفنون التشكيلية.

كنت استغرب كثيرا ان تلاقي مادة فنية هابطة، وفقا لمقاييسي الفنية التي احاكم على اساسها تلك المادة، من متابعة جماهيرية واسعة، وان تكون محط مشاهدات كبيرة من قبل جمهور لا يستهان بعدده.. وكانت الاجابة التقليدية لمثل ذلك الاستغراب ان (الجمهور عاوز كده)، وهي اجابة تختزن الكثير من الصحة والمصداقية، رغم اصوات الاستنكار والاستهجان لشرائح اخرى من جمهور لا يستطيع ان يستوعب او يفهم تلك الاجابة.

كثير من المسلسلات التي عرضت في رمضان، كانت تتوفر على بنية نصية واضحة المعالم، ومسلسلات اخرى غيرها توفرت على الكثير مما يريده الجمهور (كده) وتراوحت بقية المسلسلات بين الاتجاهين، وهي ايضا حققت مستويات من المشاهدة والمتابعة.

في تساؤل الحقيقة والخيال، لابأس من الحديث عن الثورات العربية، التي قامت ضد انظمة الحكم في بلدانها، والثورات التي قامت ضد الثورات الاولى تحت شعارات التصحيح واعادة المسار.

حفلت تلك الثورات بالكثير من المفارقات، والتي في مجملها اشّرت لحقيقة واحدة، وهي انها (الثورات) استطاعت ان تزيل وجوها حاكمة من سدة الحكم وكراسي السلطة، واستبدلتها بوجوه اخرى كانت تنتمي الى المعارضة السياسية السابقة للانظمة المخلوعة، او انها وجوه جاءت من الصفوف الخلفية لتلك الانظمة، وشاركت الاخرين في الحصول على مغانم العهد الثوري الجديد.

اشهر الامثلة الثورية والتي يمكن ان تدرّس في معاهد السياسة، وان يكتب عنها وعن تحولاتها الكثير من البحوث والدراسات التي تفيدنا في استخلاص الاسباب التي تدعو الشعوب عادة الى الثورة، والنتائج التي يمكن ان تتمخض عنها، هي الثورة المصرية، دون القفز على نتيجة مهمة وهي ان الثورات تأكل ابناءها وان التغيير في بلداننا العربية والاسلامية لا يحدث الا عبر القشور والظواهر دون تغيير حقيقي في الجوهر والمحتوى.

وهذه الحالة تنطبق ايضا على بلد مثل العراق رغم ان التغيير فيه لم يحدث عبر زخم ثوري، بل جاء نتيجة حرب مكلفة ومدمرة، فرضت علينا ديمقراطية حتى الان لا نستطيع تهجئة حروفها التي تكتب بها في تجارب اخرى ناضجة، وهذا النضج المطلوب لسنا في وارد الحديث عنه، بل حديثنا عن التشابه الحاصل بين نتائج الثورات العربية ونتائج ديمقراطية الاحتلال الامريكي للعراق.

عرضت اكثر من قناة فضائية مسلسل (العراف) الذي قام ببطولته عادل امام وعدد من نجوم الدراما المصرية، والذي يحكي عن نصاب محترف يقوم بالايقاع بضحاياه الاغنياء، وكان المشترك للقطات الايقاع بهؤلاء الضحايا هو مشروب الليمون بالنعناع الذي كان يصر على احتسائهم اياه وهو يجلس معهم.

رصد المسلسل زمنين من الزمن السياسي والاجتماعي المصري، وهما زمن حسني مبارك وزمن ما بعد الثورة المصرية.. هناك اكثر من اشارة سياسية رمزية يشير اليها المسلسل، مثل جعل النصاب هو اشارة الى نظام الحكم السابق، وان ابناءه المختلفين توجها وتفكيرا هم المجتمع المصري بتنوعه الكبير، وان هروبه من السجن هو اشارة الى هروب الرئيس الاخواني المعزول محمد مرسي، وغيرها الكثير من الاشارات.

في زمن الثورات يختلط كل شيء، وتكثر التقاطعات والاتجاهات، ولا بوصلة هادية الى الطريق الصحيح.. وهو زمن يجرأ فيه اللصوص والنصابون والمجرمون والانتهازيون وغيرهم على تقمص ادوار ليست من طبيعتهم لكن المجال العام يسمح بذلك ويشجع عليه.

اصبح بطل المسلسل محللا استراتيجيا ومفكرا اقتصاديا تستضيفه القنوات التلفزيونية، واشترى احدى الصحف واصبح صاحب مؤسسة اعلامية يشار اليها.. وهو في كل هذا لا يستحي من ماضيه، فهو يملك المال الذي يتيح له التحرك، ولا يكتفي بهذا بل يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية مستعينا بخدمات سابقة قدمها للاخرين لغرض توفير الاصوات والدعم لترشيحه.

وكان شعار حملته هو الليمون، والذي رفعه الى مصاف مشروب وطني ضمنه في حملته الانتخابية، لما لهذا المشروب من فوائد صحية تعود بالنفع على الشعب المصري.

في ديمقراطيات الثورات وديمقراطية الاحتلال لا احد يستحي من ماضيه، بل هو يفخر منه على اعتبار ان جميع التهم الموجهة اليه هي تهم ملفقة من قبل نظام سابق برع في اتهام وتسقيط معارضيه.

المعارضون الجدد لمثل هذه الشخصيات الوصولية لا يملكون غير الوثائق التي تدين هؤلاء، والوثائق هي مجرد اوراق لا فائدة منها امام من وراءه الناس، وهو جزء من حوار بين البطل النصاب وضابط الشرطة الذي قبض عليه في مرات سابقة، وهي ايضا اشارة رمزية الى ان جميع ما يمتلكه الخصوم ازاء بعضهم لا يساوي التحشيد والتجييش الذي يبرع فيه الساسة في صراعهم مع الاخرين.

كنت اتابع الحلقات الاخيرة من المسلسل، وانا اقارن ما يحكيه بما يحاكيه في واقعنا العراقي.. كم من النصابين ظهروا على شاشات الفضائيات العراقية تحت مسميات (محلل سياسي) و (خبير استراتيجي) و (خبير امني)، وهم كانوا قبل العام 2003 لا علاقة لهم بالسياسة او الاستراتيجية او الامن. وقد عشت تجربة من هذا القبيل حين استضفت في احد ندوات بيت الحوار العراقي احد الاصدقاء وكان مديرا لمكتب مجلة تصدر من لندن، جاء معه احد الاشخاص وقدمه لي بصفته مقاول يحب حضور مثل هذه الندوات.. بعد مرور اشهر على تعرفي على ذلك الشخص استضافته احدى القنوات العراقية تحت مسمى (محلل سياسي)، والامثلة اكثر من ان تعد او تحصى في زمن الاعلام المنفلت والصحف الصفراء والحمراء وجميع الوان الطيف الشمسي.

وفي السياسة كذلك حدث ولا حرج، كم من نصاب وسارق وقاتل نشاهده على شاشة التلفاز، وهو يصول ويجول عبر الاعلام دون ان يستحي من ماضيه او يخجل منه، وهو ماض يعرفه الجميع عنه، لكنه بالنسبة له استهداف وتسقيط سياسي، ولانه نصير الفقراء والمحرومين.

ديمقراطية الليمون بالنعناع هي واحدة، سواءا جاءت عن طريق الميادين او عن طريق الالة العسكرية، الجميع يمتلك حظوظا متساوية للصعود الى القمة، طالما صناديق الانتخاب هي الصورة الوحيدة التي نعرفها عن هذه الديمقراطية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/آب/2013 - 4/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م