الديمقراطية والوعي الشعبي

عزالدين مبارك

 

الكثير منا يستخدم مفردات لغوية مبهمة ولا يعرف مفهومها وكنهها وسياقها التاريخي مثل الديمقراطية والشعب اللتان أصبحتا على كل لسان وفي كل مقام يذكران هكذا بدون مدلول ومعنى.

والكل يتكلم باسم الشعب وكأنه كائن مادي الوجود وماثل أمامنا نصافحه ونتكلم معه ونستشيره ونأخذ منه الحكمة والمعرفة وهو يراقب اعمالنا على أرض الواقع ويمدنا بالنصائح والمشورة.

والجميع يتغنى بالديمقراطية ويلهج باسمها ومفتون بجمالها وعفتها ويلتمس ودها ولا يعرف حتى ملامحها ولم يلتق بها في يوم من الأيام على قارعة الطريق ليبادلها التحية والاحترام.

نحن نسقط في خطاباتنا مفردات ذات مدلول هلامي ورمزي بدون وعي راسخ في ذواتنا وبذلك لا نفارق سطح الأفكار وملامس الشفاه بحيث ليست لنا القدرة الفكرية والعملية في تصور الواقع والالتزام بالمعنى الحقيقي للمفردات التي نتفوه بها كما جاءت حسب السياق التاريخي.

فأهم من المفردات اللغوية التي تسير على شفاهنا كما تسيل المياه في النهر نتيجة اللغط والهرج الذي يحيط بنا هو الوعي التام بها وما تعنيه وهل نحن قادرون على الالتزام بما تفرضه من سلوك.

المشكلة الأخرى التي تعترضنا بعد تحديد المفاهيم هو القياس بالمعنى العلمي للكلمة فليس كل ما نقوله يخضع للضوابط العلمية لأن كلامنا المسترسل يأتي عن خبرة ذاتية محضة لا تعني غيرنا ولا يمكن تعميمها.

كما لا يمكن التكلم عن الديمقراطية في بيئة هشة وغير مستقرة وغير واعية بالمفهوم الحضاري لهذه الكلمة. فالديمقراطية التي تجعل من المواطن سيدا في بلاده وحرا في اختياراته وتصرفاته ومشاركا فعليا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية دون خوف أو وصاية لا يمكن أن تكون واقعا ملموسا في بلاد ما زال أغلب سكانها أميون وجائعون ومهمشون.

فالنخب السياسية هي وحدها التي تتكلم عن الديمقراطية كمفهوم سطحي للكلمة لا يتجاوز حرية الكلام في بيئة مازالت تخشى من النقد والمحاججة والتفكير ورأي السلطة القائمة مقدس لا يمكن القدح فيه ولا التطاول عليه.

وهذه النخب التي هي أيضا من يستعمل كلمة الشعب وكأنها تقوم بقياس الإرادة الشعبية بصفة موضوعية وتنوب عنه وكأنها تملك تفويضا منه بل تتآمر عليه عندما تصل إلى السلطة والحكم وتضربه على قفاه بالعصا الغليظة وتستولي على الثروة لتوزعها على المريدين وأصحاب الولاء وقد حدث هذا مرارا عديدة في تاريخنا المعاصر.

وهذه التلاعبات اللفظية واللغوية تستهوي الكثير من الناس في محيط يطغى عليه الجهل وتنتشر فيه الأمية ونسب الفقر والبطالة فيه مرتفعة بحيث يسهل تزييف الوعي الشعبي وشراء الذمم وخداع المغفلين هذا إذا لم يقع تزوير إرادتهم بصفة بينة وجلية.

فالديمقراطية لا تعني شيئا إذا لم تكن مصحوبة بإرادة شعبية واعية وفي محيط تكون فيه نسبة الفقر ضعيفة ومنسوب الحرية مرتفع بحيث يكون الوعي الاجتماعي لعامة الناس وليس النخب فقط هو المحدد لإرادتهم وتفكيرهم فتكون اختياراتهم مستقلة عن إرادة السلط الحاكمة ومصالح النخب.

فاستقرار الوعي الجمعي لدى الناس والاستقلال الاقتصادي وحرية التعبير يمكن الأفراد من خلق إرادة واعية لتحقيق مبادئ وأهداف الديمقراطية الحقيقية وعندئذ يمكن القول أن هناك وعيا شعبيا متطورا ذا دلالة ومصداقية ونحن في تونس لم نصل بعد إلى هذه المنزلة وبذلك التكلم عن الديمقراطية والشعب محض هراء وترف في القول لدى النخب ومجرد تغريدات شفاهية لدى العامة.

* كاتب ومحلل سياسي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/آب/2013 - 28/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م