التخصيصات التقاعدية والوعي العراقي... اعضاء البرلمان وخيارات الشعب

 

شبكة النبأ: كم هي فرحة عارمة يستشعرها المواطن العراقي وهو يرى نائباً أو اكثر ممن انتخبهم، وهم يتنازلون عن راتبهم التقاعدي، ويكتفون براتبهم الحالي كنواب، بمعنى، أنهم يعودوا مواطنين عاديين بعد نهاية الدورة النيابية، ويبحثوا عن لقمة عيشهم مثل سائر الناس.. نعم؛ انه شعور صادق منبعث من الفطرة الانسانية، ومن حاجة الناس الى من يؤنسهم ويُحاكي أوضاعهم ومعاناتهم، رغم معرفة الجميع أن الخطوة جاءت متأخرة جداً، وبعد عقد من الزمن.. عشر سنوات عجاف عاشها العراقيون، في ظل النظام الجديد. وهو يسمع من خلال وسائل الاعلام، بارقام مذهلة، لرواتب وامتيازات ومخصصات بمليارات الدنانير، لطبقة حاكمة، ربما تشبه الى حد كبير، طبقة الأمراء في البلاد الملكية. فهناك مخصصات للرئاسات الثلاث، وأخرى للنواب ولمجلس النواب، وأخرى للوزراء ولمجلس الوزراء، ولمجالس المحافظات.

هذه المخصصات والامتيازات تحت مسمّيات مثل "المنافع الاجتماعية" وغيرها، امتدت الى شريحة لا بأس بها في المجتمع، فظهرت القصور والسيارات الفارهة الباهظة الثمن، وتعاظمت الأرصدة، والنتيجة انتاج فجوة طبقية عميقة، ففي مقابل التخمة والتبذير بالملايين، ما تزال هناك نسبة كبيرة في المجتمع ممن يواجه مصاعب جمّة ويتحمل أعباء ثقيلة من أجل تأمين متطلبات معيشته البسيطة خلال الشهر الواحد.

ومن أجل ان يمنّي الناس انفسهم بالتغيير نحو الأحسن، أسسوا لقاعدة جديدة في علاقتهم مع الدولة؛ "ليسرقوا ويقبضوا الملايين، المهم أن يفعلوا شيئاً..."! هذا المستوى من الاحباط، جرأ أهل الحكم والسلطة، لأن يبحثوا للناس ما يريح بالهم ويطيب خواطرهم، ما داموا لا يمانعوا من تسلّم الرواتب والمخصصات والامتيازات المليونية التي لا مثيل لها في العالم كله. والتقليعة الجديدة؛ التنازل عن رواتب التقاعد التي سنّها مجلس النواب منذ دورته الاولى عام 2005 وقبل التفكير بالقوانين الكثيرة والعديدة المتعلقة بالقضاء والأمن والعمل والسكن والخدمات والاحزاب و....، والجواب على السؤال الحائر: ولماذا السكوت طيلة الفترة الماضية..؟ "لقد بلغ السيل الزُبى"، ربما يكون المثل ذو مصداقية جميلة لواقعنا، فالمثل، يطلق على الحفرة الخاصة لاصطياد الأسد، تكون على ربوة و أرض مرتفعة، فاذا جائها الماء طُمرت وضاعت. وهكذا بدأ العراقيون أنهم ربما يطوون عقداً آخراً من الزمن، ويجدوا أن الاحتياطي النفطي تحت أقدامهم سيصل الى نهايته، بسبب تحوله الى دولارات وامتيازات لفئة قليلة من الناس، فيما هم يقومون بالعمل نفسه، عندما ينفقون رواتبهم ودخلهم الى السلع والمواد الاساسية المستوردة، فلا سلعة غذائية او بيتية او غيرها، من صنع عراقي إلا ما ندر. والنتيجة؛ الاستهلاك، والاستنزاف المستمر، والى مصير مجهول، وإذن؛ لابد من عمل شيء لتفادي المخاطر المستقبلية.

السؤال هنا؛ هل المشكلة بين الدولة والمجتمع في العراق، منحصرة حالياً في الرواتب التقاعدية؟ وهل يتصور الناس ان النائب الذي تنتهي مدة صلاحيته بعد أربع سنوات، سيعود الى ما كان عليه قبل أن يفوز بمقعد النيابة، سواء في مجلس محافظته او في مجلس النواب ببغداد؟ وهكذا الحال بالنسبة للوزراء والمدراء والمسؤولين الذين خاضوا التجربة اللذيذة في الحكم، حيث جنوا المليارات، ليس فقط من رواتبهم، إنما من الامتيازات والمقاولات والمحاباة لهذا وذاك، في مشاريع فاشلة، وحتى بعضها وهمية، ولا أدلّ على ما نذهب اليه، من صفقة أجهزة "السونار" المزيفة والمخزية، التي أثبت البريطانيون أنفسهم أنها أجهزة فاشلة وغير مجدية، بينما نرى الناس يقفون بسياراتهم حتى اليوم، في طوابير وباحترام كامل، عند نقطة التفتيش بواسطة جهاز "السونار" هذا.

إن العراق؛ بلد الخير والعطاء، منذ كان وما يزال، وربما هذا ما عرضنا لحسد الحاسدين وكيد الطامعين، على مر الزمان. فالارض الخصبة المعطاءة، والناس طيبوا النفس، جعل هذا البلد، وبالرغم من السرقات الهائلة من الداخل، والطعنات الغائرة والغادرة من الخارج، يحافظ على توازنه واستقراره الاجتماعي والسياسي، لأنه بلد فيه شعب حيّ ومكافح وصامد، يعتز بهويته وتاريخه. وفي نفس الوقت يقف على مستوى عال من الثقافة والوعي، ربما يفوق سائر الشعوب في المنطقة والعالم الاسلامي، لذا ليس من حق أحد، أن يتجرأ لاستغفال الناس والعبث بمشاعرهم، بالإعلان عن تنازل هذا المسؤول أو ذاك عن راتبه التقاعدي. فهل يطلب المسؤولون من الشعب العراقي أن يصدق النوايا، بعد أن أعلن أعضاء مجلس محافظة في أحدى المحافظات، تراجعهم عن قرار اتخذوه بالإجماع بشراء سيارات مصفحة للأعضاء الجدد بقيمة إجمالية تصلى الى أربعة مليارات دينار. وما يثير العجب حقاً، أن يستخدم هؤلاء "قوانة مشخوطة" حسب المصطلح العراقي القديم، فقد سبق وأن أعلن نواب البرلمان في وقت سابق عن تراجعهم عن هكذا مشروع لنفس الهدف، وهو كسب ود وثقة الشارع.

من هنا يمكننا القول: أننا ومن خلال الضجة الاعلامية و (الفيسبوكية) حول رواتب التقاعد للمسؤولين، أخذنا الجزء الأصغر من العبء المالي على الاقتصاد العراقي، وتركنا الجزء الأكبر جاثماً على جسد العراق المنهك أساساً بالتضخم والغلاء والتبعية للخارج. وهنا تحديداً يكمن دور النخبة الواعية والثقة في أن تقترح المشاريع وتبدع الحلول للأزمة الاقتصادية الخانقة والقاتلة على المدى البعيد، من خلال البحث عن الرقم الحقيقي لوارد العراق من النفط يومياً، أو شهرياً أو سنوياً، ولن نكون بحاجة للجري خلف هذا المسوؤل أو ذاك، ومراقبة راتب ومخصصات هذا المسؤول او تلك المؤسسة، فهذا أشبه ما يكون بالحقيقة، الى لعبة "المتاهات"، وهي مضيعة للوقت واستهلاك للجهد العضلي والذهني بلا طائل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/آب/2013 - 27/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م