الأوطان بين سندان الحرية ومطرقة والأمان

محمد بن سعيد الفطيسي

 

 حالة من الاحتقان والامتعاض وانعدام الثقة وتصاعد وتيرة الخلافات والتوترات تعيشها معظم الشعوب العربية وحكوماتها بشتى ألوانها وأطيافها السياسية اليوم، بغض النظر عن الأسباب والدوافع والأهداف، او كبر وصغر حجم تلك الدولة او قوتها او عدد سكانها، وقد نتج عن ذلك الوضع انفلات في مستوى الأمن وتدهور حالة الاستقرار في معظم أرجاء المنطقة، وهو وضع لا يجب نكرانه او تلميع وتزيف الحقائق حوله او الاستهانة بمستوى قوته وتأثيره بين دولة وأخرى، ما يعني ان التهديد هو التهديد مهما اختلف حجمه ونتائجه او قوة تأثيره على ارض الواقع.

 والمتمعن في ذلك الوضع يجد انه نتاج مباشر لعمق الهوة الفكرية والخلافات الأيديولوجية التي لازالت في اتساع بين أفكار ومرئيات وطموحات الجماهير تجاه عدد من القضايا الحساسة التي تلامس حياتهم ومستقبلهم الوطني كالحرية والديمقراطية وحقوقهم المدنية والطريقة التي ينظرون بها الى المؤسسات والقائمين على إدارة شؤون معيشتهم اليومية في الأجهزة الإدارية لبلدانهم، ومرئيات وتوجهات الحكومات تجاه نفس المسار والقضايا الوطنية التي يفترض بهم إعداد الأرضية القانونية والإدارية المناسبة لتنظيمها وتوفير الوسائل المناسبة لتعديلها بما يناسب المتغيرات الخارجية والتطورات الداخلية للمجتمع، بهدف تحقيق الأمن والاستقرار الوطني من جهة، وإكمال مسيرة البناء والتنمية وتطوير كيانات وهياكل الدولة من جهة أخرى، و- بمعنى آخر – الخلاف الواضح بين الشعوب وحكوماتها حول تطبيق مفهومي الحرية والأمن في المجتمع والدولة، نظرا للعلاقة العميقة والجوهرية التي تربطهما معا ولا يمكن بحال من الأحوال فصلهما او الاستغناء بأحدهما عن الآخر.

 إلا انه – وللأسف الشديد – لازالت حتى اللحظة الراهنة معظم الحكومات العربية غير قادرة على صناعة وإيجاد تلك المقاربة الوطنية والإنسانية التي تمكنها من التصالح مع تلك الحالة الجماهيرية المتشنجة والمحتقنة، والتي أجد أنها من وجهة نظري غير قابلة للحل ما لم يتنازل كلا الطرفين عما يرونه من وجهة نظرهم مبدأ او قيمة ثابتة لا يمكن بحال من الأحوال التفاوض عليها او حتى الجلوس مع الآخر على طاولة الحوار للتباحث حولها، والملاحظ حيال الأسباب التي أدت لوصول الطرفين الى هذه المرحلة المتأخرة من الخلافات والشقاقات هو افتقادهما القدرة على الثقة في أفكار ونوايا الطرف الآخر، فالطرف الجماهيري من جهته ينظر الى معظم القائمين على إدارة مؤسسات دولهم ومعيشتهم اليومية على أساس ان كل همهم هو مصالحهم الشخصية واستقرار حياتهم وراحة بالهم ورضى من هم أعلى منهم لا أكثر ولا اقل، وان مسالة الأمن والأمان والاستقرار الوطني الذي طالما روجته العديد من المؤسسات ذات الصلة ليست سوى شماعة تختفي وراءها وسائل القمع وكبح الحريات وما تبقى من العجز الرسمي وضعف الأداء الحكومي وانتشار الفساد ونهب الممتلكات وغير ذلك من التهم المعلبة.

 في وقت ينظر فيه الطرف الآخر-أي- المسئولين أو النافذين الرسميين القائمين والمكلفين على إدارة المؤسسات والجهات الرسمية وحياة المواطنين ومعيشتهم سواء كانت مدنية او أمنية الى ان اغلب الجماهير هم شخوص لا هم لهم سوى البحث عن الوسائل والطرق التي تمكنهم من الحصول على مصالحهم وأهواءهم وأهدافهم الشخصية سواء كانت مادية او معنوية، دون النظر الى ان تلك الرؤية وبتلك الطريقة الفوضوية تؤثر كثيرا على الأمن الوطني واستقرار الدولة وسلامة مقدراتها وممتلكاتها الوطنية.

 وما يثير الدهشة في الأمر هو العناد المستمر والنظرة العدائية من كلا الطرفين حيال أفكار الطرف الآخر، وتحول مسالة الاختلافات في وجهات النظر على تلك القضايا بينهما-أي- قضية الحرية والأمن خصوصا الى مسالة تحدي وغالب ومغلوب او منتصر ومهزوم، بل والكيد والاقتصاص من بعضهما بمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة، فنلاحظ الاعتداء على الممتلكات الوطنية وكأنها ممتلكات لأفراد وشخوص لا لوطن وأمة، وكذلك الاغتيالات والتفجيرات وإحراق المؤسسات الرسمية وقطع الطرق وعرقلة السير وما الى ذلك من وسائل تعطيل الحياة المدنية والاعتداء على حقوق الآخرين، كما نجد في الجهة الأخرى استخدام مختلف وسائل التنكيل والتعذيب والسجن وقمع الأصوات المعارضة لكل ما هو رأي رسمي وحكومي، وكان هذا الأخير هو الرأي الوحيد الذي لا بجانبه الحق والصواب، والخاسر في كل ذلك الصراع بين الطرفين هو أوطانهم وهم معها في نهاية المطاف.

 وهكذا تتحول الأوطان المستقرة والدول المطمئنة الى مرتع خصب للفوضى والفوضويين والقمع والقمعيين، فتصادر الحريات وتعطل القوانين المنظمة للحياة العادلة والآمنة في وقت كان يفترض بهم-أي- طرفي الصراع على المصالح التاريخية في الوطن الواحد التريث والتفكير في عدم التمادي في جر أوطانهم الى ذلك النفق المظلم، ومحاولة الاتفاق على نقطة التقاء والبحث عن مقاربة وطنية تمكن الطرفين من العمل على مصلحة أوطانهم ومصالحهم لا العكس من ذلك، على ان ذلك وكما سبق وأكدنا لابد له من الفشل في حال أصر الطرفين على إتباع أهواءهم وأفكارهم ومصالحهم، واعتقاد كل طرف على ان الحق معه وان الآخر على باطل، والتمسك بمرئيات لا يمكن القبول بإطلاقها هكذا دون قيود او غربلة لمواكبة المتطلبات الفردية والمجتمعية والوطنية او إخضاعها للقوانين المنظمة للحياة والمحافظة على مصالح الجماعة، كالحرية والديمقراطية والأمن والأمان والاستقرار الوطني، بحيث لا يجب ان يطغى جانب او جزء على حساب آخر، او ان يعد شماعة لإخضاع حقوق الطرف الأضعف في معادلة التدافع الايجابي الذي هو أساس قيام وتقدم الحضارات والأمم والشعوب عبر التاريخ.

 إذا وكما يؤكد ذلك سبينوزا في كتاب رسالة اللاهوت والسياسة انه (كان عليهم لزاما ان يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم وتعاهد حاسم على إخضاع كل شيء لتوجهات العقل وحده، وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين، وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون ان يعاملوا به، وأخيرا على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم الخاص، ولكي يكون هذا التحالف – الوطني - متينا ومضمونا وجب إبرامه بشروط معينة، انه لقانون شامل للطبيعة، ان أحدا لا يترك ما يعتقد انه خير إلا أملا في خير أعظم، او خوفا من ضرر اكبر، ولا يقبل شرا إلا تجنبا لشر أعظم منه، او أملا في خير اكبر، و- بعبارة أخرى – يختار كل فرد ما يبدو له أعظم الخيرين واهون الشرين).

 من هذا المنطلق يمكن للجانبين النظر الى بعضهما حينها نظرة تشارك وتكامل وطني لا نظرة عداوة وصراع داخلي، وقد كانت عبر التاريخ القوانين وحدها – ونقصد بها – القوانين الدستورية العادلة والقائمة على إخضاع الجميع لسلطتها الكاملة دون تمييز او استثناء، والتي تنظم تداخل الحياة الفردية بتلك الجماعية والجماعية بتلك الرسمية، وتحقق التوازن ما بين مفهومي الحرية والأمن في الدولة والمجتمع، وتوضح واجبات وحقوق كل طرف، وحدها قادرة على تحقيق الحرية والديمقراطية الإنسانية السليمة وتوطيد الأمن والأمان وتحقيق الاستقرار للأوطان والشعوب في وقت واحد، فالقانون بوصفه شعورا ملائما، هو سبب صحيح للتوافق مع الطبيعة البشرية السليمة، وانه ينتشر من خلال كل التجمعات الإنسانية، وهو يخاطب الناس بصورة أبدية وغير متغيرة للقيام بواجباتهم، وذلك عن طريق أمرهم، وردعهم من القيام بالأعمال غير الصحيحة منها.

 عليه فان مشاعر الحنق والامتعاض وانعدام الثقة بين الجماهير والحكومات نتيجة اتساع دائرة المصالح التاريخية والسياسية المتعارضة بينهما والتي نجدها اليوم قد جرفت الكثير من الأوطان الى الفوضى والصراعات الداخلية، ما نتج عنه بدوره انعدام الأمن والاستقرار الوطني وقمع الحريات وحقوق الإنسان المستحقة لا يمكن معالجتها بقوة العضلات وإخضاع الآخر بقوة القمع او الأمر الواقع او سلطة العصا الأغلظ، او من خلال المعالجات الأمنية وحدها، كما لا يمكن للمجتمع ان يخضع لسلطة الفوضى والبغي ليحقق أهدافه وحقوقه، وبالتالي فان وقوع الشعوب والحكومات بين مطرقة الأمن وسندان الحرية في التعامل مع بعضها البعض ليس سوى نتيجة حتمية لتلك الحالة الطبيعية لتجاذب المصالح بين أطراف الحياة الوطنية والتي يجب ان تهذب بالقوانين الإنسانية الشاملة والعادلة.

 (وعلى ضوء هذه الرؤية هناك علاقة عميقة وجوهرية تربط بين مفهومي الأمن والحرية، بحيث أن المجتمع الذي يتوفر على حريته وحقوقه هو ذلك المجتمع الذي يمتلك عوامل أمنه واستقراره، أما المجتمع الذي تمارس سلطته السياسية التمييز والإقصاء لقوى المجتمع، فإنه يتوفر على وقائع وحقائق تهدد أمنه الراهن والمستقبلي، وعليه فإننا مطالبون بتجلية العلاقة العميقة التي تربط بين مفهومي الأمن والحرية، وذلك لأن هذه العلاقة تضعنا جميعا أمام حقائق موضوعية جديدة، من أهمها: أن حماية المجتمع والدولة من المخاطر وتهديدات، تقتضي توفير قانون وإرساء دعائمه لممارسة الدولة، والسماح لقوى المجتمع بالقيام بدورها في إطار الدولة والمجتمع.. فالإجراءات الأمنية وفق هذه الرؤية، ليس المنع والاعتقال والتعذيب والتضييق التعسفي على الإنسان، وإنما هي تنمية الوعي والمعرفة، وتطوير مستوى المسؤولية والشعور بها في الواقع المجتمعي، وإرساء دعائم وأطر المشاركة في الشأن العام، وذلك لأن الأمن في حقيقته وجوهره، هو الشعور بالتجانس والمشاركة مع الآخرين في الحقوق والواجبات، ولا تجانس فعال ومشاركة مستديمة بدون الوعي والمعرفة والمسؤولية ومؤسسات المراقبة والمشاركة، حينذاك يتحرر كل إنسان من هواجسه ومخاوفه، وينطلق في رحاب البناء والتنمية بدون مخاوف تكبحه أو هواجس تقلقه أو تمنعه من التكيف الايجابي مع الآخرين).

 لذلك نرى ان توطيد الاستقرار وتحقيق الأمن والأمان الوطني لمختلف الدول اليوم لا يمكن ان يتحقق سوى بتفهم الحكومات لمطالب ومتطلبات الشعوب من الحريات والديمقراطيات والحقوق الإنسانية المتطورة كل يوم مهما كان نوعها او لونها، وان يتم الاستماع لمطلق وجهات النظر الجماهيرية حتى تلك التي تختلف فيها الحكومات وشعوبها بشكل كامل ومحاولة السعي لإيجاد صيغة او مقاربة قابلة للتحقيق على ارض الواقع، كما يجب على الشعوب ان تدرك بكل وعي ومسؤولية خطورة جر أوطانها الى الفوضى والصراعات الداخلية مما يؤدي الى نزع الاستقرار والأمن الوطني، وهما هدفان رئيسيان لهما أولوية قصوى لتحقيق التنمية الإنسانية والوطنية ولهما تأثير كبير ورئيسي في توفير الحريات نفسها التي تطالب بها الشعوب وكانت السبب في التحول عنها للفوضى، وان تتعلم الشعوب والحكومات معا ان المجتمع والوطن الديمقراطي هو ذلك البناء الوطني الذي تتغلب على مصالحهم فيه مصالح أوطانهم، وترتفع فيه أصوات الحكمة والحب على أصوات العاطفة والكراهية، و(يشترك فيه اكبر تنوع ثقافي ممكن مع أوسع استخدام ممكن للعقل) بين أطرافه الوطنية.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/آب/2013 - 27/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م