فضيحة التجسس الأمريكية على العالم

علي الأسدي

 

زعيمة العالم الحر صفة خص بها الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي، تزامنت مع حملة معاداة الشيوعية التي استعر أوارها في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. كانت تلك الحرب من نوع مبتكر جديد أقل سخونة وضجيجا من سابقتها تعارف على تسميتها بالحرب الباردة، حربا أكثر سرية وخبثا وأطول مدى زمنيا، وأوسع مدى جغرافيا، بعبارة أخرى شملت العالم كله.

كانت تلك الحرب موجهة ضد الاتحاد السوفييتي الحليف الذي يعود له الفضل الأول في هزيمة ألمانيا النازية وحليفاتها في المحور الذي أبعد خطر هجوم الماني على بريطانيا. كان ذلك بعد أن دحر العدوان النازي على الاتحاد السوفييتي عام 1943 ومن ثم ملاحقته حتى العاصمة برلين.

الحرب الباردة التي بدأتها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات تحت ستار وقف الامتداد الشيوعي الى دول وشعوب خارج المنظومة الاشتراكية في أوربا وآسيا، لم تكن باردة تماما. لقد كانت في بعض مراحلها أكثر سخونة وأشد خطرا من الحرب العالمية الثانية، حيث تخللها خططا أمريكية بهجوم نووي على الاتحاد السوفييتي. كان ذلك في عهدي الرئيسين ترومان وأيزنهاور سيجري الحديث عنها في مقال أخر مخصصا للحديث عن الحرب الباردة.

بدأ الحرب الباردة الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي خلف الرئيس فرانكلن روزفلت بعد وفاته خلال فترة ولايته الثانية منتصف الأربعينيات. منذ ذلك الحين ولفترة طويلة بعد ذلك احتلت الولايات المتحدة الصدارة في الاعلام العالمي بكونها نموذجا للدول الحرة الديمقراطية في مقابل ديكتاتورية شمولية هي الشيوعية.

لقد استمر طرح العالم الحر كنقيض للشيوعية في كل أوجه الحياة، وعندما كان يوجه النقد للولايات المتحدة كزعيم للاستعمار الجديد كان الجواب " انها دعاية شيوعية " ولا مجال عندها للاستماع للحجج الدالة على استعمارية رأس المال الأمريكي.

اليوم نواجه حقائق لم تخطر ببال أولئك المعجبين بمبادئ ذلك العالم الحر قبل أن يظهر المواطن الأمريكي نفسه ليفند ذلك ويكشف حقيقة تلك الحرية وذلك العالم الحر. انه ادوارد سنودين، الرجل الذي قال الحقيقة عن العالم السفلي لدولة لم يظهر منها غير تلك الشعلة المرفوعة بمعصم تمثال الحرية في واشنطن.

لقد أزاح سنودين الغطاء عن جبل الجليد من تحت ذلك التمثال الأصم، انه لم يكذب، لم يفتعل ما ادعى به، لم يبالغ فيما قاله، لقد كان صادقا تماما الصدق فالأدلة التي ساقها مادية لم يستطع انكارها أو حتى التشكيك فيها أي مسئول بما فيهم رئيس الدولة باراك أوباما.

كل ما حاولت السلطات الرسمية قوله هو أن كل دولة تحاول التجسس على غيرها، ولم يستطع الرئيس الأمريكي بكل ما يملك من بلاغة الخطابات أن يبرر هذا الاضرار الفاضح بعلاقة الثقة بين الأوثق من الحلفاء والأصدقاء. حاول أن يسوق فكرة أن الولايات المتحدة تحاول التعرف أكثر على الآخرين، لكنه عجز تماما عن تسويغ فعل لا يقوم به غير اللصوص.

كان وزير الخارجية البريطاني وليام هيك الذي حاول ان يظهر براعة دبلوماسية لتلافي الفضيحة التي شكلت بريطانيا فيها الخادم الأمين للولايات المتحدة قائلا لا داعي للقلق فان الغرض من عملية التجسس هو فقط العناصر الارهابية. لكنه لاذ بالصمت بعدما كشفت صحيفة الغارديان البريطانية أن التجسس شمل سفارات ومكاتب الدول الاعضاء في الحلف الأطلسي، ومكاتب الاتحاد الأوربي في الولايات المتحدة وأوربا.

وحتى يتحاشى المسئولية القانونية عن فعل شنيع كهذا سارع لطمئنة نفسه أولا ومن لا يعلم أن العملية تمت بمعرفة واشراف الجهات القانونية المختصة بالتنسيق مع اللجان البرلمانية ذات الصلة بموضوع النشاط الاستخباراتي والأمني. شعور الثقة بالجواسيس الأمريكان الذي عبر عنه هيك لم يكن غريبا بالنسبة له فهو كوزير للخارجية يعرف جيدا ان بلاده هي الأخرى تتجسس على مواطنيها وعلى الدول الأخرى.

فالديمقراطية التي يفتخر بها هي الوجه الآخر للرأسمالية رضي بها غيره أم لم يرض فهي هكذا، لا ديمقراطية بدون رأسمالية، ولا رأسمالية بدون تجسس، وبدون الاثنين لا يستقيم الاستقرار السياسي الضروري لنشاط رأس المال وتحقيق التراكم الرأسمالي.

بعض رؤساء الدول الأوربية وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عبروا عن غضبهم لتجسس الولايات المتحدة على بلادهم، معلنين استغرابهم عن تجسس الأصدقاء على بعضهم البعض. لقد ادعى الأوربيون بانهم صدموا حال ظهور الحقائق التي كشف عنها أدوارد سنودين، فهل حقا هم أبرياء للدرجة التي صدمتهم الحقائق المعلنة..؟؟

فقد نشرت صحيفة لوموند الفرنسية بالأمس 4\7\2013 تقريرا ليس فقط صادما بل ومخزيا لممثل الاشتراكيين الفرنسيين فرانسوا هولاند ومن صوت لصالحه في انتخابات عام 2012. التقرير يفضح الادعاء الزائف بالنزاهة التي عبر عنها الرئيس الفرنسي، وبذلك يكون قد منح أدوارد سنودين دون رغبة منه المزيد من التقدير والاحترام للتصرف النبيل الذي قام به.

حيث جاء في تقرير اللوموند أن هناك أدارة تجسس تعمل في بناية من ثلاثة طوابق تعمل تحت الأرض في باريس، حيث تتلصص على وتحتفظ بتسجيلات لعشرات الملايين يوميا من المحادثات التلفونية والمراسلات الخاصة ومحادثات التحاور الاجتماعي على الفيس بوك وما شابهه وكل ما يحدث على الانترنيت.

ما فعله المواطن أدوارد سنودين انه كشف حقيقة الدول الرأسمالية للعالم، حيث قال: أنا لا أرغب أن أعيش في عالم يخضع كل سكانه للرقابة، وبكشفه تلك الحقيقة للعالم ليشعرهم بأنهم وان اغلقوا مكاتبهم وابواب ونوافذ بيوتهم فانهم تحت المراقبة المباشرة لموظفي التجسس الأمريكيين.

كانت السلطات الأمريكية راغبة في ابقاء تلك المهمة القذرة بعيدة عن علم ضحاياها سواء كانوا مواطنيها أو مواطني العالم، لكنها وبعد ان افتضح أمرها راحت تصب جام غضبها على الشاب النزيه الذي لم يرضى لبلاده ممارسة التلصص على العالم، العالم الذي اراده حرا بالفعل وديمقراطيا بالفعل.

لقد أوشك الرئيس الأسبق للولايات المتحدة ريتشارد نيكسون أن يجرم ويدخل السجن لمسئوليته في فضيحة ووتركيت التي حاول فيها التجسس على منافسه في انتخابات الرئاسة الأمريكية حينها الرئيس جيمي كارتر، فاضطر بسببها للاستقالة بعد أن تلطخت سمعته وتاريخه السياسي بالوحل. فكم فضيحة من وزن وتركيت تعادل فضيحة التجسس التي كشفها أدوارد سنودين للعالم..؟

السيد سنودين مطارد الآن عالميا من زعيمة العالم الحر النموذج الديمقراطي لذلك العالم، لا يستطيع مغادرة مطار موسكو الى دولة مستعدة لحمايته، أو لإتاحة الفرصة له ليعيش بأمن وأمان بعدما أدى ما أوحى به له ضميره. انه لم يقم بما قام به مقابل منفعة شخصية خدمة لدولة بعينها حتى يتهم بالخيانة أو التجسس لحساب دولة معادية. لقد أعلن الحقيقة للعالم أجمع دون تمييز، أعلنها بنفسه طوعا وتحمل المسئولية الشخصية عنها، فجازف بحريته وحياته الخاصة بما فيها دخله وامتيازاته وموقعه الاجتماعي والوظيفي.

لقد وضعت جميع الطائرات المغادرة لمطارات روسيا تحت المراقبة، وتخضع لأوامر صادرة من السلطات الأمريكية بإجبار أي طائرة يشك في وجود سنودين على متنها على الهبوط في مطارات محددة.

لقد حصل هذا لأول مرة مع الطائرة الخاصة برئيس جمهورية بوليفيا، حيث أجبرت على الهبوط في مطار فيينا بعد أن رفض طلب قائد الطائرة بعبور الأجواء الفرنسية والاسبانية والبرتغالية والايطالية للشك بوجود سنودين على متنها. تسبب الحادث بأزمة دبلوماسية بين بوليفيا والولايات المتحدة والدول الأربع اضطرت لحفظ ماء الوجه للاعتذار.

فالحادث يعتبر واحدا من أعمال القرصنة الدولية، لكن أن تقوم به الولايات المتحدة فهو ليس الا التعبير الحقيقي عن الانتهاك الصريح لحقوق الانسان ولحرية الملاحة وللأصول الدبلوماسية السائدة بين الأمم المتحضرة.

ما كشفه المواطن الأمريكي الحر وضعنا نحن مواطني العالم بجميع خصوصيات حياتنا رهنا لوكالة التجسس الأمريكية والبريطانية، فجعلت الولايات المتحدة من تلك الخصوصيات مادة لتوجيه الاتهام لأي مواطن من أي بلد كان، فلا أحد مستثنى أبدا من تهمة الارهاب، فأحاديث الناس جميعها تسجل وتحلل وتفرز خلال ثوان معدودات. وهناك في الانتظار طائرات مروحية وطائرات هجومية وأخرى بدون طيار، وفرقا أمنية وعسكرية متأهبة لتنفيذ الأمر بالفعل في كل أنحاء العالم.

لايجب أن نستغرب أن نسمع في المستقبل القريب أن طائرة بدون طيار قد اغتالت أدوارد سنودين دفاعا عن العالم الحر.

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/alialasidy.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/تموز/2013 - 5/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م