لا تذهبوا بعيدا... العراق ليس مصر

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: فرضت الاحداث التي جرت في مصر، والتي اسفرت عن عزل الرئيس المصري محمد مرسي، ان يطرح العراقيون على انفسهم هذا السؤال: لماذا لانستطيع ان نكون مثل المصريين؟ وهو سؤال مشروع يضمر التمني والرجاء بالتخلص من حكامهم مثلما فعل المصريون.

لم يجرب العراقيون التظاهر بحرية الا بعد العام 2003 ، وهم الذين عاشوا طيلة خمسة وثلاثين عاما لايتظاهرون الا تاييدا واستنكارا لما يؤيده ويستنكره الحزب والقائد الضرورة.. وقد خرجت الكثير من التظاهرات منذ ذلك الحين ولازالت تخرج، للكثير من الاسباب والدواعي.

فهناك تظاهرات ضد وزارة الكهرباء، وهناك تظاهرات المفصولين من وظائفهم بسبب تزوير الشهادات، وهناك مظاهرات العمال والحراس بالعقود، ومظاهرات عمال التنظيف، ومظاهرات المؤيدين لقادة الاحزاب والكتل السياسية، ومظاهرات المدافعين عن منع غلق بار اتحاد الادباء، وتظاهرات المدافعين عن ملاهي وبارات شارع ابي نؤاس، وتظاهرات النفط والغاز، وغيرها الكثير من التظاهرات التي لا يكاد يمر يوم الا وفيه تظاهرة  في اكثر من مكان في العراق.

هذه التظاهرات السابقة لم تحقق مطلبا من المطالب التي خرجت لاجلها، وعاد المتظاهرون الى منازلهم وهم يحملون راياتهم المنكسة من الخيبة والخسران، وعاد من اوعز بتلك التظاهرات الى مقاعده في البرلمان وامام عدسات الكاميرات يهدد ويتوعد بان مطالب الشعب المشروعة يجب ان تتحقق.. ربما هذه التظاهرات كانت صغيرة في اعدادها، او لم تكن هناك تهيئة مناسبة لها، وسنذكر مناسبتين من التظاهرات الكبيرة التي حدثت في العراق.

الاولى تظاهرات ساحة التحرير، والتي تزامنت مع الكثير من تظاهرات عدد من البلدان العربية، وكانت لها عدة مطالب، تغيير الحكومة وتوفير الخدمات ومحاسبة الفاسدين، وغير ذلك من مطالب تتداخل مع المطالب الرئيسية تلك.

من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، استطاع القائمون على دعوات التظاهر من حشد اصوات كثيرة داعمة لها، كان الكثير من تلك الاصوات يشي بانتمائه الى حزب البعث والى مؤيدي القائد الضرورة صدام حسين، والى جهات مدنية، وشخصيات اجتماعية، وغيرها من انتماءات.

خرجت التظاهرات تلك وهي ترفع شعاراتها العديدة، وحدث كر وفر بين المتظاهرين وقوات الشرطة والجيش، وتم تغطية تلك التظاهرات تغطية فضائية واسعة، خيّل لكاتب السطور وهو خائف قد حزم امتعته، ان هذا النظام الجديد زائل وان صدام حسين والبعثيون سيعودون من جديد الى حكم العراق، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، واخذت الاصوات يوما بعد اخر تخبو، واصبح الكثير من المتظاهرين يعودون الى بيوتهم، واختفت العشرات من صفحات التواصل الاجتماعي التي ظهرت لهذه الغاية، ثم جاءت مهلة المائة يوم الحكومية لتقضي على من تبقى في ساحات التظاهر، وهي بالمناسبة تظاهرات اسبوعية وليست يومية.

الثانية تظاهرات المحافظات السنية، والتي مضى عليها الان اكثر من ستة اشهر، واندلعت بسبب القبض على حماية وزير المالية رافع العيساوي المتهمين بالقتل، ولاسبب مباشر غير ذلك، ولو انها بعد مرور تلك الفترة، اصبحت اسبابها غير التي نعرفها ويعرفها المتابعون.

تلك التظاهرات وبالحجم الذي انطلقت فيه، وبالتوجه الى مكان محدد في تجمعاتها لم تكن وليدة الصدفة كما يخيل للبعض، بل كانت وليدة ترتيبات سابقة انتظرت تلك المناسبة لانطلاقها.

رفعت تلك التظاهرات التي انطلقت في محافظة الانبار لتمتد الى محافظات ذات غالبية سنية كبيرة فيها، وحملت عدة مطاليب عرفت بالمطاليب الثلاثة عشر.. شعارات المتظاهرين عبر المنصات لم تقدم خطابا اصلاحيا وطنيا بل نادت بالويل والثبور وبالغزو والفتح والتحرير، تحرير الحكم والنظام والعاصمة من احتلال الشيعة، وهؤلاء في عرف المتظاهرين، (صفويون - مجوس –انجاس – وخنازير).. تم استعداء الشيعة في هذه الخطابات، عاد المتظاهرون الى رشدهم، واصبحت شعاراتهم مطلبية مناطقية، ووجهوا اصابع لومهم الى مابات يعرف بادبيات التظاهر ب (المندسين) وهم افراد يدخلون التظاهرات ولا احد يعرف من اين يدخلون ولايمكن رؤيتهم او تحديد هوياتهم، لكنهم يندسون بسهولة وهم يرفعون شعاراتهم ويلوحون براياتهم واسلحتهم، ولا احد يراهم او يحدد هوياتهم لانهم (مندسون).

هذه التظاهرات رفعت من ميزان الازمات العراقية الى معدلات غير مسبوقة من التحدي والتحدي المقابل، ومن التخوين والتخوين المضاد، وسارع الكثيرون الى ركوب موجتها، ليس دفاعا عن الشعارات والمطالبات، بل نكاية بشخص واحد يتربع على دكة الحكم التنفيذي وهو رئيس الوزراء نوري المالكي، فاجتمع على تاييد التظاهرات التحالف الكردستاني وتيار الاحرار والمجلس الاعلى والقائمة العراقية، وغيرها من تجمعات حزبية او مدنية او عشائرية او دينية، ظهرت الكثير من الاسماء واختفت بعد ان ادت ادوارها المرسومة لها، وظهرت اسماء جديدة، لكن لا احد منا يعرف رأسا قياديا منها، فقد توزعت الرؤوس القيادية، واصبحت لكثرتها تتصارع وتتقاطع، فما يريده اهل الانبار يختلف عما يريده اهل الموصل، وما يريده اهل سامراء يختلف عما يريده اهل الحويجة، الا انها جميعها اتفقت على مطلب واحد، وهو ازالة نوري المالكي من راس السلطة التنفيذية في الحكومة العراقية.

حتى اللحظة لم تحقق التظاهرات جميع ماخرجت من اجله ولم تسقط الحكومة ولم يقدم نوري المالكي استقالته.. بين التظاهرتين، حدثت حركة اخرى لكنها هذه المرة سياسية بامتياز وعبر الكتل السياسية التي تشكل الحكومة، واقصد بها حركة سجب الثقة عن رئيس الوزراء نوري المالكي، وتداعى اليها الفرقاء السياسيون من التحالف الكردستاني والقائمة العراقية وتيار الاحرار وجماعات اخرى، الا انها توقفت في منتصف الطريق بعد تقاطعات عديدة بين المتقاطعين اصلا، ولم تثمر تلك الحركة عن شيء يسجل لها، بل على العكس سجلت عليها الكثير من النقاط، وعانت من التصدعات والانشطارات.

هذه الايام يشاهد العراقيون تظاهرات المصريين ويقارنون بين تظاهراتهم التي لم تحدث الفرق في حياتهم وتظاهرات المصريين التي اسقطت الرئيس المصري بزمن قياسي بلغ خمس او ست ساعات ويتساءلون لم لايحدث لدينا مثل ماحدث مع المصريين؟

الاجابة على السؤال يستدعي الوقوف على بعض النقاط التي هي محل اختلاف شديد بين الشعبين المصري والعراقي، وبين تفكيرين سياسيين هما التفكير السياسي المصري والتفكير السياسي العراقي.

يمتلك المصريون تراثا كبيرا من فكر الدولة وممارستها يعود الى زمن محمد علي ودولته، في حين يمتلك العراقيون تراثا مضطربا من فكر السلطة وممارستها، وهناك فرق كبير بين فكر الدولة وفكر السلطة.

عطفا على النقطة الاولى، هناك نوع من التجذر للمؤسسة في الحياة المصرية واستقلاليتها، فالمؤسسة القضائية تمتلك استقلالية كبيرة في حركتها وفي اصدارها للتشريعات وفي أحترام تلك التشريعات، والمؤسسة العسكرية تمتلك استقلالية خارج الاطار السياسي للحكام، رغم ماشابها القليل من التدخلات، وهي مؤسسة يحسب لها الكثير.

النقطة الثالثة، ان المصريين لهم هوية واحدة جامعة، وهي عابرة لكل الهويات الفرعية الاخرى، وهي الوطنية المصرية، في حين ان العراقيين تتوزعهم اكثر من هوية، مذهبية وعشائرية لاتستطيع ان تجمع، وليست لديهم هوية عراقية واضحة، وهي التي تظهر  في لقاءات المنتخبات الكروية العراقية، في حين تختفي عند المحطات والتحديات الكبرى، بسبب تقدم تلك الهويات الفرعية عليها.

النقطة الرابعة، قابلية العراقيين على الرشوة واسكات اصواتهم، من خلال الوعود التي يطلقها الساسة لامتصاص زخم التظاهرات، فتظاهرات ساحة التحرير، اوقفتها وعود المائة يوم، وتظاهرات المناطق الغربية، افقدها زخمها شعاراتها التي رفعتها في البداية، اضافة الى اللجان واللجان الفرعية، تشتيت المطالب على اكثر من جهة، مناطقية بعض المطالب وطائفيتها، التي جعلت الكثير من الداعمين لها يعيدون حسابات دعمهم بعد ان رأوا دعوات الاحتراب في الكثير من تلك الشعارات.

النقطة الخامسة، عدم الاقتناع باهداف عليا، يمكن التظاهر لاجلها، مثل المجتمع المدني او سيادة القانون او الاحتكام الى الدستور، بل هي اهداف انية لاتتعدى الغضب من تردي الخدمات او المطالبة بالوظائف، وعادة ماتكون شخصية وليست عامة، فبمجرد مايحصل قسم من المتظاهرين على بعض مطالبهم ينفض المولد وكانك ياأبا زيد ماغزيت، ويعود كل الى داره، رغم بقاء الكثير من الاسباب التي دعت الى التظاهر، مثل الفساد المستشري او الخلل في النظام السياسي او الاقصاء والتهميش.

ربما يرد البعض على بعض الافكار الواردة في هذه السطور بالقول ان هناك ضوءا اخضر من جهات خارجية، مثل امريكا او السعودية والامارات، قد ساهمت الى حد كبير في الدفع بهذا الاتجاه، وهو رد قريب من الحقيقة في بعض جوانبه، وهو جانب النتيجة التي الت اليها الامور في مصر.. الا ان النظر للوحة كاملة وبتفاصيلها التي شاهدناها ونشاهدها لاتمنع من وجود تلك الاسباب الكثيرة للتفارق والتقاطع بين المصريين والعراقيين.

لن يحدث في العراق مثلما حدث في مصر، الا اذا اقتنع العراقيون بان هوية واحدة تجمعهم على اختلاف طوائفهم وهي الهوية العراقية، التي لاتتحدد بمكان جغرافي او علم او نشيد وطني او فريق كروي، بل هي اكبر من ذلك، وتحتاج الى اجيال من البناء، بناء الانسان، والى بناء الانتماء على اسس صحيحة يكون العراق في هذا البناء هو الاول، وهو الهوية الجامعة، وتكون الطائفة والعشيرة هي الهوية الفرعية التي تستمد قوتها من الهوية الام، ولاتتقاطع معها..

بذلك وحده يمكن للتظاهرات العراقية ان تقيل وزيرا او تسقط حكومة، وما عدا ذلك فلا تذهبوا بعيدا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/تموز/2013 - 2/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م