اردوغان وقطار الديمقراطية

حاتم حميد محسن

 

ان مشاهد الغازات المسيلة للدموع ومدافع المياه والرصاص المطاطي يدفعك للتصور كأنك في القاهرة او طرابلس او غيرها من العواصم الدكتاتورية . غير ان هذه ليست ساحة التحرير وانما ساحة تقسيم في إسطنبول العاصمة الاقتصادية لتركيا الديمقراطية واكبر مدينة اوربية.

الاحتجاجات هي مؤشر لتصاعد الاستياء من حكومة رجب طيب اردوغان، اكبر الزعماء الاتراك منذ حكم اتاتورك. أعمال الشغب انتشرت كالنار في الهشيم في عموم البلاد. اكثر من 4000 شخص اصيبوا بينما اُعتقل اكثر من 900 شخص وتوفي ثلاثة محتجين.

شرارة الاحتجاجات اندلعت بسبب إقدام الحكومة على تنفيذ خطة لتطوير حديقة غازي في العاصمة استنبول. الاستياء تصاعد ضد مشاريع البناء الكبرى للحكومة المتراوحة من بناء جسر ثالث فوق البوسفور الى قناة كريزي الممتدة الى البحر الاسود. وبعد التعامل العنيف للشرطة مع اول المحتجين انتقلت الاحتجاجات عبر التويتر ووسائل التواصل الاجتماعي الاخرى. النزاع المحلي تحول الى نزاع قومي لأن عناصره – السلوك الوحشي للشرطة واصطدام مشاريع البناء الضخمة بالرفض لعدم استشارة الناس- اعطى مثالاً للطريقة الاستبدادية التي يدير بها اردوغان بلاده حاليا.

بعض المراقبين يعتبرون اضطرابات تركيا دليلاً جديداً على صعوبة التعايش بين الاسلام والديمقراطية. الدرس الحقيقي لهذه الاحداث هو حول الاستبداد: تركيا سوف لن تسمح للطبقة الوسطى الديمقراطية التصرف كسلطان عثماني.

النزول من قطار الديمقراطية

ربما بطريقة ما عمل اردوغان جيداً. النمو في الناتج المحلي الاجمالي بلغ اكثر من 5% سنويا منذ ان استلم حزب اردوغان الحاكم (التنمية والعدالة) السلطة عام 2002. كذلك قامت الحكومة بإصلاحات واسعة كي تنال العضوية في المحادثات مع الاتحاد الاوربي عام 2005، وهي الجائزة التي استعصت على تركيا منذ اربعين عاما. قام اردوغان اكثر مما قام به اي من اسلافه لتسوية اوضاع الكرد المضطهدين الذين يقدر عددهم بـ 15 مليون كردي. تركيا اصبحت يُنظر لها كنموذج للدول الصاعدة من الربيع العربي.

هذا السجل يوضح لماذا ربح حزب التنمية والعدالة ثلاث دورات انتخابية كان آخرها في حزيران 2011. بقي اردوغان مرغوباً خاصة بين مالكي الاعمال الصغيرة وجماعات الفلاحين المحافظين في اقليم الاناضول الذي انطلقت منه ملايين المهاجرين الى المدن مؤخراً. وفي مواجهة المعارضة الكسولة ربما سيربح حزب العدالة والتنمية مرة اخرى.

غير ان المخاوف تجاه اردوغان نشأت منذ فترة طويلة. هو أطلق ذات مرة على الديمقراطية وصف القطار الذي ستغادره حالما تصل الى المحطة. هو كان يحتقر البرجوازية الكوزموبلتية في إسطنبول وازمير. الاصول الدينية لحزبه دفعت العديد للخوف من أسلمة دولة اتاتورك العلمانية الرائدة: القانون الجديد الذي يضع القيود على بيع الكحول اعطى مصداقية لتلك المخاوف. البعض يتهم حزب العدالة والتنمية الذي رفع شعار الديمقراطية الاسلامية بانه يستخدم عبارات مضللة ومتناقضة.

مع ذلك، هناك العديد ضمن حزب اردوغان مثل الرئيس التركي عبدالله غول لا يوافقون على السياسة الاستبدادية لرئيس الوزراء ويعتبرون تفسيراته للديمقراطية ضيقة الافق. المشكلة ليست مع الاسلام وانما مع اردوغان. هو تتحكم به فكرة الاكثرية في السياسة: لو ربح اردوغان الانتخابات سيظن انه مؤهل للقيام بما يرغب لحين موعد الانتخابات القادمة. احيانا، وكما في حالة الجيوش المعرضة للانقلابات هو استخدم القوة ايضا. ولكن بمرور الزمن اصبحت إمكانات كبحه ضعيفة. مرشحو حزب العدالة والتنمية يشغلون القضاء ورجاله يديرون المحافظات، اصدقائهم يربحون العقود الكبيرة. اردوغان أرهب وسائل الاعلام وفرض عليها الرقابة: حين كان المحتجون يختنقون بالغاز المسيل للدموع كانت شبكات التلفزيون تنقل برامج عن الطبخ وطيور البطريق.

عدد الصحفيين الذين في السجون اكثر عدداً من اقرانهم في الصين. اردوغان سجن جميع ضباط كليات الاركان. وضمن اوساط حزبه، كان الناس يخشون من الوقوف امامه. عقيدته الذاتية تضخمت الى درجة من التعصب. محافظته الاجتماعية تحولت الى هندسة اجتماعية.

الخطورة هي ان اردوغان يمسك الآن في السلطة بقوة متزايدة. في ظل قواعد حزب التنمية والعدالة يُسمح للنواب بثلاث دورات في البرلمان، هو يجب ان يتخلى عن رئاسة الوزراء في الدورة القادمة عام 2015. وربما يحاول تغيير الدستور كي يصبح رئيساً تنفيذياً قوياً، او يدير حزبه من القصر الرئاسي او ببساطة يغير القواعد كي يتمكن من البقاء في السلطة.

العثمانيون بحاجة ليُكبحوا اليوم

يجب على اردوغان التخلي عن هذه الافكار ويستعد لتسليم قيادة الحزب والسلطة التنفيذية الى رجل دولة مثل غل في الانتخابات القادمة وذلك لسببين . السبب الاول هو ان العديد من الاتراك يشعرون بالانهاك منه – تماما كأعمال الشغب في بريطانيا عام 1990 التي عكست حالة الاحباط من مارغريت تاتشر، او رفض الفرنسيين لشارل ديغول بعد عام 1968. لو أصر اردوغان على البقاء فسوف يجد من الصعب حكم البلاد.

هو ايضا يحتاج للمحافظة على منجزاته التي هي هشة سلفاً وعرضة للتفكك. الاقتصاد يتباطأ بحدة، بسبب الركود في منطقة اليورو، اكبر منطقة للسوق التركي. المحادثات مع الاتحاد الاوربي توقفت ويبدو ان اردوغان فقد الاهتمام بها. المفاوضات مع الاكراد خاصة مع عبد الله اوغلان القائد السجين لحزب العمال الكردستاني، هي في وضع حرج.

يمكن لاوردغان استخدام الوعد بحكومة منظمة ليضع تركيا في الاتجاه الصحيح. البلاد تحتاج الى دستور جديد يحل محل دستور عام 1982 الذي سنّه الجيش، ولكن يجب ان يتم ذلك بالاجماع من جميع الاحزاب ويجب ان يفوض السلطات بدلاً من تركيزها. سوف يتمكن اردوغان من ضمان مكانه في التاريخ التركي لو انه خصص وقته الباقي الى الاصلاحات الدستورية وايجاد حلول للأكراد واستخدام المحادثات مع الاتحاد الاوربي لوضع الديمقراطية والاقتصاد في المسار الصحيح.

لم تكن احتجاجات الاسبوع الماضي فقط غازات مسيلة للدموع . الناس العاديون في الاحياء البسيطة كانوا يقرعون القدور والقلايات ويرفعون الاعلام ليُسمعوا صوتهم للآخرين. العديد من الاتراك وجدوا احساساً جديداً بالوحدة والانسجام الذي من شأنه تعزيز ديمقراطية تعددية حقيقية فقط عندما يستمع السلطان. الكثير يعتمد على كيفية التعامل مع المحتجين في ساحة تقسيم.

........................................

الايكونومست عدد الاسبوع الماضي 8 حزيران 2013.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/حزيران/2013 - 7/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م