الربيع العربي يأكل شعوبه... ليبيا مثالاً

 

شبكة النبأ: دائماً يُقال: "الثورة تأكل أبنائها"، بدعوى أن الأبناء او الثوار هو الذين ينهضون بمهمة الإعداد والتعبئة وإطلاق الشرارة، ثم الخوض في أتون المواجهات العسكرية والسياسية. لكن بسبب انحراف الثورة عن الطموحات والأهداف المرسومة، تتحول هذه الثورة الى مارد يلتهم جميع من تسبب في إخراجه من قمقمه..

أما في بلادنا التي شهدت التغييرات الكبيرة، أشبه بالمارد الذي يخرج فجأة من قمقمه، فان الشعوب التي تضحي في الشوارع وفي السجون والمعتقلات، وأول من يدفع الثمن، تكون آخر من يقطف الثمر، هذا إن كان هنالك من ثمرة تتطابق مع الطموح والتطلّع، بينما ما نلاحظه اليوم في البلاد التي شهدت ما يسمى بـ "الربيع العربي"، هو انهيار الأنظمة الديكتاتورية وسقوط جنرالات الحكم المعتّقين، تبعه انهيار أو لنقل تصدّع شديد في جدار الأمن الداخلي.. فلا الناس عادوا الى أعمالهم وحياتهم الطبيعية، ولا المسلحين تخلّوا عن السلاح واندمجوا في المجتمع، ولا الحكومات الجديدة اتخذت اجراءات سريعة للتحول من الثورة والفوضى على السلم والاستقرار، ثم البناء والتعويض عمّا فات من الحرمان والتخلف والدمار.

مثالنا في ذلك؛ ليبيا التي شهدت انتفاضة مسلحة عارمة أطاحت بنظام حكم القذافي في شهر آب عام 2011، ولكن نفس السيارات الصغيرة التي تحمل المدافع الرشاشة، ونفس المليشيات المسلحة التي شكلت كتائب الثورة على القذافي، هذا هي تجوب  الشوارع، مع قرب الذكرى الثانية لغياب الديكتاتورية القذافية من ليبيا. فهي جاهزة بكامل عدتها وعددها لأن تقتحم الدوائر وتحاصر الوزارات والمؤسسات إذا ما حصل انحراف في السلوك السياسي أو طرأت مشكلة معينة..! كما حصل بمحاصرة وزارة الخارجية من قبل جماعة مسلحة بمدافع رشاشة بدعوى أنها تضم موظفين من عهد النظام السابق، وربما كانوا يتوقعون أن الثورة سوف تستبدل كل الموظفين السابقين بجدد، أو من الموظفين الثوريين..!

هذا الوضع ترك آثاره على الوضع الاجتماعي والسلم الأهلي في ليبيا، فكان لابد من إطلاق الكلمة الحرة والمطلب الحقيقي المنبعث من أعماق الجماهير، بأن عهد المليشيات، انقضى بعد انتهاء دوره في الثورة. وربما الاحداث الدموية الاخيرة التي وقعت في مدينة بنغاري، ثاني أكبر مدينة في ليبيا، تكون حلقة في سلسلة أحداث ما يمكن تسميته بـ "الارتداد الثوري"، حيث خرجت الجماهير هناك في تظاهرة حاشدة، باتجاه مقر ثكنة مليشياوية تحمل اسم "كتائب درع ليبيا"، للمطالبة برحيلهم من المدينة، وكان الرفض القاطع هو الرد السريع، إلا ان المطالبة الجماهيرية كانت أقوى و أشد، فوقعت اشتباكات، تحولت الى نزاع مسلح بين الجانبين، سقط على أثرها العشرات بين قتيل وجريح. وحسب مصادر صحفية فان ما لا يقل عن (11) قتيلاً سقط في الاشتباكات، واصيب (58) آخرون بجروح. وقد صرخ المتظاهرون عالياً بهتافات تطالب بطرد عناصر الكتيبة من المكان، وإحلالها بقوات نظامية. وهذه ثاني محاولة لسكان بنغازي، بعد محاولتهم الناجحة بطرد مليشيات في مدينتهم في شهر تشرين الاول من العام الماضي.

إن المثال الليبي ربما يتكرر في بلاد أخرى، يكون للمليشيات المسلحة دورٌ مهم في التغيير السياسي، في غياب خطط ومشاريع سياسية على الأرض من قبل رجال المعارضة، الذي نجدهم في معظم دولنا، ليس بين مجتمعهم، إنما بين العواصم ذات التأثير، وفي الفنادق وصالات المؤتمرات، يتحدثون ويصرخون ويصرحون، تماماً كالناقش على الرمال المتحركة.. لذا بعد الانتهاء من أمر الديكتاتور المنتهية صلاحيته، يعمدون للاستعانة بجماعات مسلحة تحترف القتال والعنف، وتعد من عناصر الثورة، أو ربما توصف بأنها الأكثر حرصاً على مكتسبات الثورة، ولنقل أنها أشبه بـ "حرس الثورة".. فهكذا قوة تمتلك المؤهلات الثورية والعسكرية، تفتقد في الوقت نفسه للضوابط الاخلاقية والمهنية وحتى الانسانية، فهي تعشق الفوضى والانطلاق بعيداً عن القانون، وربما يصل بها الجموح أن تتبنى "الغاية تبرر الوسيلة". وباعتقاد الساسة الجدد، فان هكذا قوة يمكنها العمل بدلاً من القوات النظامية لفترة من الزمن. ولإضفاء غطاء شرعي على هذه التشكيلات المليشياوية، يجعلونها تابعة لوزارة الدفاع، كما هو حال "كتيبة دفاع ليبيا"، لذا نجد أنه ليس المتحدث باسم الكتيبة من دافع عن الثكنة وأدان المتظاهرين ومن وصفهم بـ "المندسيّن المسحلين الذين أطلقوا النار علينا..."، إنما المتحدث باسم قيادة الاركان العقيد "علي الشيخي"، صرح أن الكتيبة هي "قوة احتياط للجيش الليبي" وان مهاجمتها توازي "الاعتداء على قوة شرعية"!

إن عجز الساسة في بلاد التغيير العربي عن تشكيل الاجهزة الأمنية والعسكرية للحفاظ على  السلم الأهلي وإعادة الامن والاستقرار الى البلاد، يجعل المجتمع برمته على كف أمواج عاتية من الاحداث والمفاجآت تفجرها تارةً أحزاب وتيارات متطرفة وإرهابية في الداخل، وتارةً أخرى توظفها أجندة خارجية اقليمية ودولية للعبث بمصائر الناس بحثاً عن المصالح القذرة التي نرى اليوم في غير بلد عربي أن الشعوب تدفع الثمن بدمائها و أموالها وقدراتها، فالنزيف يحصل في من كل كيان الشعب والأمة.

ومن المؤكد أن عدم الاستقرار الأمني يلقي بظلاله على الوضع الاجتماعي، وايضاً على عجلة الاقتصاد، حيث تخيم الكآبة والتأزم النفسي، وفقدان الثقة بكل شيء. فاذا تفقد اليد العاملة ومعها رأس المال، الثقة بالوضع القائم، كيف يسنّى للاقتصاد أن تقوم له قائمة..؟ والسؤال الآخر: كيف تتخلّى الدول ذات الشأن والتأثير، عن هكذا بلاد مهزوزة وعائمة فوق الأمواج، دون أن تستثمر كل طاقاتها للاستفادة من هذه الفرصة التاريخية، بالسيطرة على الاسواق وعلى حاجة الناس في مختلف شؤونهم؟ فالبلد الغني والثري مثل العراق وليبيا، يكون استنزافه بأمواله، أما الدول الفقيرة مثل مصر وتونس واليمن وايضاً سوريا، فان استنزافها يكون بالقدرات الانسانية، حيث يجد الانسان نفسه مستأجراً للعمل ليل نهار حتى التخلّص من وطأة التضخم الاقتصادي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/حزيران/2013 - 1/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م