الرحمة المحمدية... أسهل الطرق لعبور الأزمات

 

شبكة النبأ: بين أمواج الأزمات والاضطرابات التي تعيشها شعوبنا؛ سواء في الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة، أو الأمن، ما هو الطريق الخلاص والنجاة بأقل الخسائر الممكنة؟ في الوقت الحاضر، البعض يتوجه الى العنف والدموية لحل مشكلة سياسية مع نظام الحكم، والبعض يرى الحل في المساومات والتنازلات لحل مشكلة أمنية، والبعض يرى الحل في الضغوطات والاجراءات الاستفزازية لحل مشكلة اجتماعية.. ربما تؤتي بعض هذه الخيارات نتائجاً ملموسة لفترة معينة، لكنها لا تخرج الناس من الزوبعة ودوامة الأحداث المريرة، إذ يصدق عليها، أنها في "أزمة تلد أخرى".

ومع حلول الذكرى العطرة والسعيدة للمبعث النبوي الشريف، حريّ بنا أن نستطلع الاوضاع التي عاشها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، في الأيام الاولى من دعوته الى الإسلام في وسط مجتمع أطبقت عليه الجاهلية. فقد كان المجتمع في مكّة المكرمة آنذاك، يعيش أزمات كبيرة في القيم الأخلاقية والمفاهيم الانسانية وفي العقيدة، فكيف تعامل الرسول الأكرم مع هذه الأزمات المتشابكة والمعقدة، فكانت – مثلاً- قسوة القلب المتجسّدة في وأد البنات، ترتبط مباشرة بمسألة "العار"، أو ظاهرة الرقيق واستعباد الرجل والمرأة، ترتبط بمسألة سياسية، وهي الحروب ومن ينتصر فيها، كما هي تجارية، حيث يعتمد اصحاب الرساميل والأثرياء، على هذا القطاع لكسب المزيد من المال والثروة.. وهكذا؛ سائر الأمور في المجتمع الجاهلي آنذاك.

ولكن؛ قطرة واحدة من ذلك الفيض المبارك، حلحل كل تلكم الأزمات والعقد النفسية والاجتماعية، حتى أن القرآن الكريم صرّح بذلك، فتحول الى شعار كبير لامع في ناصية الحضارة الاسلامية، تقول الآية الكريمة: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين". وفي السيرة المطهّرة، الكثير من الأمثلة والشواهد على أن النبي الأكرم مثّل الرحمة الإلهية للناس منذ بدايات بعثته الشريفة. فقد واجه قسوة القلب متمثلاً بوأد البنات، بفيض من العاطفة والحنان على من حوله، لاسيما الاطفال، فكان تلطّفه بذلك الطفل الذي بال في حظنه. كما واجه الغلظة والفضاضة من ذلك الأعرابي بالابتسامة واللين، وواجه الرقيق والاستعباد بتحرير الرقبة والعتق وتقليل نسبة العبيد في المجتمع. وبلغت "الرحمة"، في مفهومها وتطبيقها لدى الرسول الأكرم، منزلة رفيعة من الصعب أن يبلغها أحد، وهي الرحمة بالأعداء، حيث تُعد من أصعب حالات الرحمة والعفو، وتتأكد الصعوبة مع توفر "المقدرة"، فربما يكون الانسان في موقف لا خيار له سوى اللين والعفو عن الآخر، لكن الأمر يختلف اذا كان الموقف هو الانتصار في ساحة المعركة مع أعداء ألدّاء، فقد عرضه المشركون في مكة وأماكن أخرى لمختلف أنواع الأذى والمعاناة والاضطهاد. وفي مقدمتهم "أبو سفيان"، لكنه قال لدى دخوله مكّة فاتحاً: "من دخل دار أبو سفيان فهو آمن"، والأكثر من ذلك مع قاتل عمّه حمزة بن عبد المطلب، وكانت قصة استشهاده من اللحظة الاولى وحتى ما بعد انتهاء حرب "أحد"، في غاية المرارة على قلب النبي، حيث لم تكتف "هند" زوجة أبو سفيان، باغتياله بواسطة "وحشي" وسط المعركة بطريقة جبانة، إنما عمدت الى التمثيل بجثته، وكانت أول عملية تمثيل بجثة ميت تقع في تاريخ الإسلام، وبذلك ثبتت تلك المرأة أول وأبشع صورة للقسوة والدموية في العالم، لكن في المقابل، ثبّت نبي الإسلام أول صورة مشرقة للرحمة والشفقة في العالم، بعفوه عن قاتل عمّه وناصره، وكان أحد رموز القوة والاقتدار لدى المسلمين.

تقول كتب السِير؛ أنه بعد فتح مكّة؛ كان هنالك أربعة من المشركين فقط في قائمة صغيرة لمهدوري الدم من قبل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فيما شمل العفو جميع أهل مكة، بمن فيهم كبار قريش، وكان بين الأربعة شخص يُدعى "عكرمة"، وهو ابن الطاغية المعروف "أبو جهل"، وبعد استتباب الأمر للمسلمين وأخذهم بزمام الأمور، لاذ بالفرار بعيداً عن المدينة حتى بلغ البحر، فركب قارباً وهو يحاول الابتعاد ما أمكنه من النبي الأكرم لعلمه بما صنع وارتكب من فضائع وجرائم. وقد توسطت زوجته لدى النبي الأكرم، بأن يعفو عنه، فعفى عنه بكل سهولة ودونما مفاوضات او مطالبات معينة، سوى القبول بشروط الإسلام.

ولم تتوقف الرحمة الى حدّ العفو عن إنسان وإنقاذه من الموت، إنما مراعاة مشاعره، فعندما جاء "عكرمة"، الى مسجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وقبل أن يبدأ النبي بالصلاة، توجه الى أصحابه وقال: لا تشتموا أباه عندما يقبل علينا، فان سبّ الميت يؤذي الحي"، علماً أن للنبي قولٌ مشهور في "ابو جهل" حيق قال: "إن هذا الرجل – والد عكرمة- أعتى على الله من فرعون"! لأن فرعون آمن بالله عندما أدركه الغرق وقال: "آمنت"، ولكن هذا الرجل عندما أدركه الموت قال: "واللات"! أي انه أقسم بالأوثان في اللحظات الاخيرة من حياته.

تُرى؛ لماذا هذه الدرجات الرفيعة والمنازل العالية من الرحمة يرسمها لنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله؟ هل هي من باب المجاملة والمباهاة أمام المهزومين والخاسرين، وإظهار القدرة والمكنة أمام الآخرين بأنه قادر على فعل ما يريد..؟! ربما يفعل ذلك البعض في حالات معينة. إلا أن نبي الإسلام وظّف هذه القيمة الإنسانية لخدمة الإنسان نفسه، ولأجل أن يتغير من حالة التخلف والاقتتال والدمار، الى البناء والتقدم. وهكذا كان "عكرمة"، عندما طلب من النبي القيام بأفضل عمل يكفّر عن ذنوبه، فأمره بالجهاد، فخاض مع المسلمين المعارك والغزوات، وكان في طليعة المجاهدين والضاربين لنصرة الدين.

من هنا نعرف بوضوح أحد أهم أسباب تخلفنا وانهزامنا أمام الأمم، فالقضية ليس في الامكانية المالية أو العسكرية أو حتى البشرية، إنما هي في البنية التحتية لكيان الإنسان. فالذي يفقد الرحمة في قلبه، ويتحول ظالماً، وقاسياً، وعنيفاً، فانه لن يكون مؤهلاً للبناء والإعمار وخدمة مجتمعه وأمته، بقطع النظر عمّا اذا كان الحق أم على الباطل، أو كان في موقف القوي، أم الضعيف.

وهذا تحديداً ما يفسّر حرص المسيحية في عالم اليوم على تكريسه ونشره، إذ تجري المحاولات في وسائل الإعلام على الترويج لكون المسيحية تمثل وتجسّد مفهوم "الرحمة"، بالانسان وكذلك بالحيوان والجماد وهي البيئة.. وفي الميدان السياسي نلاحظ شعار "حقوق الإنسان" ترفعه المنظمات الدولية وأنظم الحكم في الغرب، بل نرى المتاجرة والمزايدة على حقوق الطفل والمرأة على قدم وساق، ويكفي للغرب حالة انتهاك لحقوق فتاة أو طفل مريض أو غير ذلك، حتى تقيم الدنيا على دولة اسلامية وتمارس ضدها شتى أنواع التشهير والضغط والمقاطعة. وليس أدلّ على الانهزامية النفسية التي يعيشها المسلمون أن بات معظمهم يؤمنون أن الرحمة متوفرة في بلاد الغرب وليس في بلاد الإسلام، والدليل الملموس على ذلك ، التعامل الذي يلقاه المسلمون هناك، فقد تضم بلاد الغرب، المطلوبين للإعدام والمضطهدين من شتى بقاع العالم الاسلامي، وليس هذا وحسب، بل إن بعض هذه البلاد تفسح المجال لأن يواصل البعض من المسلمين نشاطه السياسي والثقافي بكل حرية ويعلن عن آرائه وأفكاره حتى المتطرفة والخاطئة منها، والتي لا يحلم بها في بلده.

ولا يماري أحد، حتى ما هو في بلاد الغرب، أن "الرحمة" الموجودة هناك، إنما للمتاجرة بها وتحسين الوجه القبيح للممارسات اللاإنسانية التي قام بها الساسة، منذ عهود الاستعمار، وما يزالون في تدمير البنى التحتية للبلاد الاسلامية، ونهب الثروات وتكريس التخلف والحرمان. لكن؛ لنلاحظ قوة تأثير "الرحمة" وسحرها في القلوب، بحيث أنها تنسي البعض من يكون صاحبها..! وإلا من يجهل ما فعله البريطانيون في العراق وايران والهند وافغانستان وغيرها من بلاد المسلمين..؟ وفي نفس الوقت، من يجرؤ على اتهام الحكومة البريطانية بعدم استقبالها لاجئ سياسي مطلوب لحكم الإعدام؟!

إن "الرحمة"، كمفهوم وتطبيق عملي، لم يأت به نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، على شكل قصص وحكايات نقرأها في كتب السير والتاريخ، والى جانبها طبعاً؛ ما قدمه لنا الأئمة الهداة المعصومون عليهم السلام، إنما قدم لنا أيضاً القانون والدستور الذي يشرّع "الرحمة" ويكرسها في الواقع الاجتماعي، قبل العقاب والجزاء، ولعل هذا يكون بالحقيقة؛ هدية عظيمة وحضارية لا تعوّض للمسلمين على مر الزمن. فمن يطالع نظام العقوبات الجزائية في الإسلام، يجد أن تطبيقه مقيد بظروف اجتماعية خاصة، مثال ذلك؛ حكم قطع يد السارق.. حيث يفترض أن تتوفر كل الشروط الموضوعية التي تدين السارق على فعلته، بوجود فرص العمل والمال لديه، لذا يمكن القول: أن "نظام العقوبات لا يمثل الإسلام ككل، إنما يمثل جزءاً محدوداً من النظام الإسلامي، فحجم النظام الجزائي لا يشغل حيزاً كبيراً في التشريع الاسلامي.." .

ولعل أجمل وأعمق التفاتة في هذا المجال، كانت لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- حيث قال: "أن نظام العقوبات لا يجري إلا إذا طُبق الإسلام كاملة، فاذا طبق النظام الإقتصادي، وطبق النظام السياسي وطبق النظام الاجتماعي، حينئذ أقطعوا يد السارق" .

من هنا يبدو أن مسؤولية تجسيد وتكريس مفهوم "الرحمة" لا يقتصر على الحاكم والنظام السياسي، ليكون رحيماً، عطوفاً مع الناس حتى يعيشوا الهناء والرفاهية، إنما على الناس ايضاً مسؤولية مباشرة، فالظلم والقسوة والعنف، من الأمور التي يعيشها كل فرد المجتمع والأمة، فعندما انعدمت الرحمة في الأمة وشاع الظلم والتعسف الطبقية، ظهرت السرقة والاختلاسات والظواهر الاقتصادية الشاذّة مثل الاحتكار وغيرها، وهذا ما يدفع الحكومة نحو الاجراءات الترقيعية السريعة للتخلص من هذه الظواهر، وهذا ما ابتليت به الأمة منذ عصورها الأولى، حيث كانت الحلول تظهر بعد ظهور الفساد الأخلاقي والمالي وحتى الانحراف الفكري والعقائدي.

إن الإسلام الذي جاء به نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، تجسيد للرحمة الإلهية، وليس للسطوة والنقمة والتعالي وغيرها من النزعات الإنسانية السيئة، التي ما غرزها الله تعالى في نفس الانسان إلا لأن يكافحها ويقوّم بها نفسه الأمارة بالسوء، لا أن يستجيب لها، كما نلاحظ ذلك في واقعنا الاسلامي، سواءً في الوسط الاجتماعي أو الوسط السياسي الحاكم. لذا يمكن القول بكل ثقة واعتداد؛ أننا قادرون على التعويض عمّا فات من التخلف والحرمان والتبعية، بإحياء هذا المفهوم الى جانب مفاهيم وقيم أخرى عظيمة وحضارية في الإسلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/حزيران/2013 - 29/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م