الطبقة الرائدة وصناعة الحياة

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: يُقصَد بالطبقة الرائدة، تلك التي تتحصل على درجة وعي متقدمة عن سواها، وتأخذ على عاتقها زمام المبادرة في تطوير الوعي الجمعي لمكونات المجتمع كافة، من خلال دراسة الواقع ومعرفة خصائصه من حيث الاشكالات والاسباب والمعالجات، ثم الشروع بعملية اصلاح حقيقية مستمرة، تتصدى لها الطبقة الرائدة، كونها المسؤولة عن صناعة الحياة الافضل، تلك الحياة التي تليق بمكانة الانسان وقيمته، وتحفظ حقوقه وتصون كرامته من الامتهان والتجاوز، لاسيما من لدن سلطات الطاغيان بأشكالها كافة.

وغالبا ما يكون الوعي متدنيا لدى الطبقات الاقل وعيا، والاقل شعورا بالمسؤولية، بسبب عدم قدرتها على قراءة الواقع والمستقبل بالصورة المطلوبة، لذلك تحتاج الجماهير او الطبقة الشعبية الى عمليات دعم فكري عملي تخطيطي تنظيمي متواصل، من اجل تحقيق الاهداف المرسومة سلفا من لدن الطبقة الرائدة، كالمفكرين والمثقفين والمصلحين، وجميع المعنيين بتطوير القدرات الجمعية، وتحويلها الى منتَج ملموس يصب في صالح المجتمع.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه الموسوم بـ (فقه المستقبل)، في هذا المجال: (من هنا جاءت مسؤولية الطبقة الرائدة في المجتمع في توعية الناس، وفتح عيونهم لحقائق المستقبل؛ لأنهم بذلك سيمنحونها الثقة وسيصنعون فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل. وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف، والفزع وتوتر الأعصاب التي يعيشها كل إنسان يجهل مستقبله).

فك رموز المستقبل

عندما يواجه الانسان مصيرا مجهولا، سيعيش في حالة دائمة من القلق والاضطراب، فضلا عن حالة الانكماش واليأس التي تسيطر عليه، وتسلب قدراته في التفكير والتخطيط والتنفيذ معا، لهذا يحتاج عامة الناس الى نوع من التوجيه والريادة، تأخذ طبقة المتعلمين المفكرين والمصلحين زمام القيادة والمبادرة والتوجيه على عاتقها، إن النسبة الساحقة من المجتمع تنحو الى السكون وعدم ابداء المبادرة خاصة اذا كان الامر يتعلق بمصير الجماعة، لذلك يبقى هؤلاء بحاجة الى القيادة، نحو الافضل دائما، لأن الغموض يجعل الاكثرية في حالة من التردد، وعدم اتخاذ الخطوات اللازمة للتغيير نحو الافضل، بسبب مخاوف كثيرة مصدرها عدم القدرة على فك رموز المستقبل.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (إن مهمة الريادات المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، أو تلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور).

وثمة بدائل كثيرة يمكن للانسان الى يلجأ إليها لمعالجة الاشكالات المستعصية التي تواجهه، بيد أن الامر يحتاج الى خبرة وإرادة وتخطيط وتنفيذ ناجح، لهذا يبقى أمر القيادة وزمام المبادرة والتوجيه رهنا بالطبقة الرائدة، المطلوب إذاً التوضيح الدائم لكي يتمكن الانسان البسيط من فهم الواقع، واستقراء المستقبل حتى لا يخشاه ولا يتردد من دخوله بثقة، مع الايمان بأن المستقبل ليس طريقا واحدا، ولا مسارا محدودا وملزماً، بل هو متعدد المسارات والمضامين، ويمكن للانسان ان يختار ما يلائم حياته كي تصبح اكثر تطورا واستقرارا وازدهارا.

لذا يؤكد الامام الشيرازي في هذا الجانب، على: (ان المستقبل ـ عادة ـ ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً.( ويضيف الامام الشيرازي قائلا: (إن التغيرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرات، ثم تصبح جداول، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الاختيار يصبح الفرد مُصاناً، ومحصناً لا تزلزله صدمة المستقبل، ولا تثنيه متغيراته).

التمسك بالأهداف الكبيرة

لا شك أن صناعة الحياة المثلى تستدعي وعيا استثنائيا، وفكرا عميقا وتخطيطا بالغ الدقة، وتنفيذا ذا إرادة حديدية لا تقبل التهاون او التراجع، لذلك غالبا ما تتصدى الطبقة الرائدة الى رسم الاهداف الكبيرة الاستراتيجية والعمل على تحقيقها، واهمال الاهداف التافهة، او ذات التأثير المحدود في حاضر ومستقبل الامة، لهذا غالبا ما يعود البناء الامثل للمجتمع وصناعة الحياة الافضل للطبقة الرائدة، فهي التي تنتج الفكر وتروجه وتنشره وتحوله من حالته الفكرية المجردة، الى واقع عملي تطبيقي ملموس لمس اليد، ومرئي رؤية العين، لذا فإن مهمة الحكماء والعقلاء من الطبقة الرائدة التفكير والتخطيط وحتى التنفيذ لما هو افضل، من اجل صناعة حياة مثلى، يستحقها الانسان.

لذا يقول الامام الشيرازي، حول هذا الموضوع في كتابه المذكور نفسه: (إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل، فكما أن طلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم، يواظبون على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس، والسعة في الرزق، والراحة في العمل. وهكذا بالنسبة إلى من يتعلم العلوم الدينية حتى يصبح فقيهاً أو مُدرّساً أو كاتباً أو خطيباً، فإنه يتعب ويسهر ويكدّ ويجتهد، وأحياناً يجهد نفسه خمسين سنة فيما لو طلب المرجعية. وهكذا المُزارع يتعب ويجهد نفسه مدة طويلة أو قصيرة ـ حسب نوع النبات ومدّة نموه ـ بانتظار الثمار، كذلك على العقلاء أن يفكروا و يخططوا لمستقبل أممهم وشعوبهم القريب المدى والمتوسط والبعيد).

وعندما تقوم الطبقة الرائدة بدورها السديد الواضح والمفيد، عند ذاك سيقون الانسان العادي بدوره كما يجب، مسترشدا بمزايا وتوجيهات العلماء والمثقفين والمفكرين، فضلا عمّا يخططون له من مشاريع تسهم في صناعة حياة افضل للمجتمع عموما، فحينما تكون مسؤولية العقلاء التخطيط والتوجيه والقيادة، فهذا لا يعفي الانسان العادي من مسؤولياته، بمعنى مسؤولية صناعة الحياة الافضل تقع على عاتق الجميع، ولكن النسبة الاهم تتحملها الطبقة الرائدة.

لهذا يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (يلزم على الإنسان أن يكون سعيه منصباً لمعرفة آفاق المستقبل والأهداف الكبيرة، وليس الأهداف الصغيرة التافهة، كما فعل ذلك الخاسر الذي باع كل شيء من أجل مُلك الرّي الذي لم ينله حينما قال: ما عاقل باع الوجودَ بدَين).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/حزيران/2013 - 23/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م