الديكتاتورية والحرب مقبرة الكفاءات

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يتصور الكثير في بلادنا أن مشكلة ما توجد في عقلية أو ذهنية المسلمين، وهو ما جعلهم يتخلفون قروناً من الزمن عن كثير من الأمم، وعلى هذا يبنون قناعاتهم وأحكامهم بأن التخلف والفوضى والمآسي إنما هي قدرنا ولابد من التعايش معه، وإن احتجنا الى ما يلبي حاجتنا اليومية، فليس علينا سوى الذهاب الى الأسواق وتصفح البضائع والسلع اليابانية او الكورية أو الصينية، وإن داهمنا داءٌ وبيل، أول ما نتطلع اليه، هو بلاد الغرب، أو ربما بعض البلاد النامية الحديثة العهد بعلم الطب والزهيدة التكاليف.. وهكذا سائر الاحتياجات.

بل حتى يذهب البعض وبغير قليل من الإحباط والانهزامية واليأس، لأن يعد نظام السير والنظافة وغيرها من المفاهيم البسيطة، من اختصاص الأمم الأخرى..! بينما الحقيقة والواقع غير ذلك تماماً، لكن المشكلة أن الشمس خلف السحاب.. والمسألة بحاجة الى قليل أناة وصبر ليتضح كل شيء ويعرف المسلم من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، أن مجرد انتمائه الى الإسلام يشكل منطلقاً نحو التطور والتقدم، ولا يوجد بالمرة أي فرق بين الانسان المسلم وغير المسلم، وهي المعادلة التي وضعها لنا البارئ عزوجل في القرآن الكريم حيث قال: "كلٌ نمّد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا". (سورة الأسراء /20).

وفي كتابه "ممارسة التغيير" يشبه سماحة المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الطاقات والكفاءات لدى الإنسان بـ "المحبرة" المليئة بالحبر الأزرق، فان وجد القلم والقرطاس والكاتب القدير، تحولت قطرات الحبر الى كتاب علمي او فكري او ثقافي يستفيد منه الملايين على مدى الزمن، وإلا فانه ربما لا يساوي فلساً.. ويستطرد سماحته موضحاً ضرورة أن يكتشف الانسان نفسه وقدراته، بان الذي أوجد شخصيات عظيمة مثل أبو ذر، أو سلمان وغيرهما للتاريخ، هو نفس هذه الشخصيات، فلو لم يجد أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله، لمات كأي انسان آخر وسط الصحراء القاحلة ويطويه الزمن والنسيان، وكذلك الحال بالنسبة لسلمان المحمدي، فان ارتباطه بالنبي وأهل البيت عليهم السلام، جعله يسمو عند النبي الأكرم ليحظى بذاك الشرف والقول المشهور: "سلمان منّا أهل البيت".

هكذا يعلمنا الإسلام كيف يكتشف الانسان شخصيته ثم يصقل موهبته وقدراته، لذا فان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، لم يدع المسلمين يطوفون حوله ليل نهار، ويأدون الصلوات الفريضة أو المستحبة وسائر الفرائض ويلازمون المسجد، إنما دعاهم لأن ينطلقوا الى الصين ليتعلموا ويكتسبوا التجارب والمعارف من كل مكان لخلق مجتمع ناهض وتحقيق التطور والتقدم في المجالات كافة. وفي هذا الطريق يعد سماحة الإمام الراحل تفجير الطاقات من سمات المجتمع المتقدم، والعكس بالعكس.

عقلية من صنع الاستعمار

ربما لا يُلام الكثير ممن ينكر على الإسلام علاقته بالتقدم العلمي والتقني الحاصل في الغرب والشرق، والسرعة الفائقة في التطورات والتحولات في كل شيء. لأن الفاصلة كبيرة جداً بين العصر الذهبي للحضارة الاسلامية، وما حوته من علوم ومعارف باهرة، وبين اليوم حيث الجهل المطبق والفقر في كل شيء. واذا كان هنالك استذكار لإسماء مثل "جابر بن حيان"، أو "الخوارزمي" أو "الحسن بن الهيثم" وغيرهم، فإنما هي من باب التفاخر بالتراث، كما يكون التفاخر بالمباني الأثرية والمعالم المعمارية الجميلة في بعض المدن الاسلامية، فهي مجرد صور وجمادات لا صلة لها بالواقع. وإلا ما هي العلاقة بين الطالب المتفوق والمتميز ذو المواهب والمؤهلات العلمية، وبين تلكم الأسماء التاريخية؟ إنه يريد أن يفجّر طاقاته ويبرز مواهبه، ويفعل ذلك، لكن قبل هذا، لابد من معرفة الهدف والوجهة التي ستكون فيه هذه الطاقات الجبارة والخلاقة؟ فاذا كان الحديث عن البلد والوطن، ضمن الحدود الجغرافية، أو اذا كان الأمر اكبر من ذلك، حيث الأمة الاسلامية، فهل هنالك من مصاديق على الأرض يمكن ان يعتمدها صاحب الكفاءات والقدرات؟

هذه المسألة المفصلية يسلط سماحة الإمام الراحل الضوء عليها في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، حيث يدعو الى "صياغة الذهنية الاسلامية وبناء الشخصية الاسلامية ثقافياً". ويقسم العملية الى خطوتين: الاولى: تحطيم الثقافة الاستعمارية الغازية وهدم البُنى الفكرية المستوردة، والثانية" البناء ؛ وذلك من خلال صياغة عقلية تحمل الهوية الإسلامية وتعتقد جزماً بأن هنالك في الأفق نظام إسلامي متكامل لا تشوبه شائبة، يعكس الوجه الحضاري للبشرية، ويوفر أقصى درجات الرفاهية والأمان والاستقرار للانسان. بمعنى "إعادة الإسلام الى الحياة". ويؤكد سماحته، بانه ابتعد المسلمون عن هذه القاعدة، اقتربوا اكثر الى التبعية والانهزامية والفشل.

هذا الواقع المتردّي لن يكون مناسباً بأي حال من الاحوال لانبثاق العلوم والابداعات، لأن العلماء والمبدعين والمفكرين اليوم يعيشون ضمن دول مصطنعة بحدود جغرافية. وفي هذه الدول أنظمة حكم أبعد من تكون عن الإسلام، إن لم العديد منها تفرّغ لمحاربة الفكر الإسلامي النهضوي وأي محاولة لإعادة الاسلام الى الحياة. ومن أساليب الكبت والمحاربة التي تمارسها هذه الأنظمة ما كان سائداً في العراق في فترة وجود سماحة الإمام الراحل – قدس سره- حيث يروي في "السبيل الى إنهاض المسلمين"، كيف أن الرقابة في العراق امتنعت عن إصدار ترخيص لطباعة كتاب علمي مثير في علم الهيئة والنجوم، وكانت – يقول الإمام الراحل- ضمن سلسلة تصدر شهرياً، وتذرع المسؤول في دائرة الرقابة بأن "من أين علم المؤلف أن الهيئة والنجوم تكون كذا وكذا..؟! فهل سافر الى السماء وأطلع على الهيئة والنجوم هناك..؟ أم نزل عليه الوحي بذلك.

كم عالم ومفكر ومبدع من البلاد الاسلامية ألف مثل هذا الكتاب؟ وكم منهم توجه الى الغرب ليقدم إبداعه العلمي هناك؟

الأنظمة الفاسدة

يتفق جميع الباحثين في أمر هجرة الأدمغة والعقول العربية والاسلامية الى الغرب، أن السبب الرئيس ورائها، السياسات القمعية والديكتاتورية، والحروب العبثية، وفقدان المشاريع التنموية والبنية التحتية والتوجه الى مشاريع التسلّح وتوظيف القدرات والكفاءات لبناء الترسانة العسكرية. ولعل أبرز مثال على ذلك العراق في ظل نظام صدام.. ففي الوقت كانت المجاميع العلمية في الغرب تشهد بالمتسوى العلمي والتعليمي، وايضاً بامتلاك الذهنية العلمية الوقّادة، كان صدام يخطط منذ مطلع السبعينات لسباق التسلّح بما هو غير تقليدي ومدمر بشكل شامل ورهيب، وذلك لفرض هيمنته وسطوته على المنطقة والتنافس مع الآخرين على كسب ود الغرب بأن يكون هو حامي الشريان النفطي - الحيوي للعالم.

كذلك الحال نجده في سائر البلاد الاسلامية التي عاثت فيها أنظمة فساداً وظلماً وتدميراً، كما لو أنها جاءت الى الحكم بهدف تدمير قدرات البلد الطبيعية والبشرية. وفي دراسة لمؤسسة الفكر العربي، ذكرت ارقاماً مهولة لهروب الأدمغة الى الغرب. حيث تنقل عن إحصائيات أن حوالي (100) ألف من أرباب المهن وعلى رأسهم العلماء والمهندسون والاطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي: لبنان، وسوريا، والعراق، والاردن، ومصر، وتونس، والمغرب، والجزائر. ومنذ عام 1977 وحتى هذا العام، هاجر أكثر من (750) ألف عالم عربي الى الولايات المتحدة، وإن (50) بالمئة من الاطباء و(23) بالمئة من المهندسين، و(15) بالمئة من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون الى اوربا وامريكا وكندا سنوياً. وتقول الاحصائيات إن امريكا وبريطانيا وكندا تجتذب حوالي (75) بالمئة من العقول العربية المهاجرة. وعن العراق تقول الاحصائيات أنه ما بين 1991 الى 1998، هاجر (7350) عالماً عراقياً على الغرب بسبب الحصار المزدوج الذي فرضته كلٌ من الدول الغربية والنظام الصدامي على الشعب العراقي، في اعقاب غزو الكويت. كما تشير دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة الى وجود (4102) عالم من البلاد الاسلامية، في مختلف العلوم، يعملون في مراكز ابحاث علمية في الغرب.

طبعاً هناك ارقاماً اكثر واكبر، تعبر عن مدى الخيبة والخذلان الذي تعرض له العلماء والمبدعين في بلادهم بسبب السياسات المدمرة والمنحرفة للأنظمة الحاكمة. الامر الذي يدعو أهل العلم والثقافة والفكر لأن يتداركوا الأمر، لاسيما وأن بعض البلاد العربية بدأت تتنفس الحرية وتشهد أجواء البناء والإعمار، فلابد من وجود أطر ومعايير من خلالها يجد العلماء والمبدعين المجال والفرصة لتقديم ابداعاتهم وعطاءاتهم العلمية خدمة لشعوبهم وبلادهم، وهي بالقطع واليقين لن يختلفوا على هذه الخطوة من حيث المبدأ على الأقل..

هنا يأتي سماحة الإمام الشيرازي الراحل – قدس سره- ليحدد مسار التقدم والتطور لأصحاب الكفاءات والقدرات العلمية بما يخدم شعوبهم ومجتمعاتهم، حيث يحدد عدة خطوات في كتابه "ممارسة التغيير" هي:

1-الاستفادة من أمكن من الطاقات والقدرات وعدم هدرها وتبذيرها في ما لا يجب.

2- العمل على تركيز الجهد العلمي ، وعدم بعثرة الطاقات والجهود. مثال ذلك أشعة الشمس التي تلقى على الأرض فانها لن تحدث شيئاً غير الحرارة البسيطة، لكنها تسبب الاحتراق إذا ما تركزت في بؤرة صغيرة ومحددة.

3- الاستفادة الكاملة والحقيقية من الكفاءات ، وليس التعامل معها بشكل تجزيئي وانتقائي لتحقيق اكبر قدر ممكن من الفائدة في مجالات الإعمار والبناء والتطور العلمي.

4- تحديد الهدف والغاية من العلم والإبداع، وهذا ربما يكون من أهم النقاط في مسيرة البلد والمجتمع المتقدم، وإلا فان العديد من الحكام الطغاة في بلادنا، وايضاً في البلاد الأخرى، وظف العلم والإبداع لانتاج الاسلحة ووسائل التجسس والقمع، مثال ذلك الزعيم الالماني النازي "هتلر" الذي وظف القدرات الخلاقة للإنسان الالماني لخدمة ترسانته العسكرية، فحول المانيا بأكملها الى أكوام من الانقاض بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

طبعاً؛ كل هذا وغيره – يقول سماحة الإمام الشيرازي- بحاجة الى المزيد من الجهد وكسب العلم والمعرفة والتحلّي بالصفات الاخلاقية. لأن التقاء العلم والاخلاق هو الكفيل بأن يوجه العلم لخدمة التقدم والتطور في مجالات الحياة بما يضمن سعادة الانسان والبشرية جمعاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/آيار/2013 - 16/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م