المواطن العراقي ومطرقة السياسة النقدية...

تحديات انخفاض سعر صرف الدينار أمام الدولار

أ.م. د. جواد كاظم البكري

تعتبر السياسة النقدية إحدى أهم مجالات السياسة الاقتصادية، فهي تُعنى بعلاقة النقود بالنشاط الاقتصادي من جهة، وما يشكله الاستقرار النقدي من مناخ ملائم لممارسة النشاط الاقتصادي لأفراد المجتمع من جهة أخرى.

 والسياسة النقدية هي مجموعة الإجراءات التي تستخدمها السلطة النقدية العليا في البلد (متمثلةَ بالبنك المركزي) بغرض التأثير على العرض النقدي (كمية النقود المتداولة داخل الاقتصاد) بطريقة ما، للوصول إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية، فهي تعبر عن مجموعة النصوص والقوانين والإجراءات التي تتخذها السلطة النقدية للتأثير على المعروض النقدي بالتوسع أو الانكماش بغية تحقيق أهداف اقتصادية محددة.

 ولا يخفى أن السياسات النقدية وخاصة في الدول النامية، مثل العراق، تكون أحد أهم أسباب الاختلال الاقتصادي الداخلي والخارجي، إلى جانب المتغيرات الاقتصادية الأخرى، وإذا كانت أهم أهداف السياسة النقدية هو تحقيق الاستقرار الاقتصادي نوعا ما في ظل النمو المتوازن، فيعني هذا أن هناك ارتباط وثيق بين النشاط الاقتصادي والنقدي ويظهر ذلك من خلال ارتباط المشاكل الاقتصادية من بينها البطالة، التضخم، اختلال ميزان المدفوعات بالسياسات النقدية التي تقوم بها الحكومة.

ومن بين أهم أهداف السياسة النقدية هو: تحقيق مستوى مقبول من الاستقرار النقدي والاقتصادي من خلال تجنب التغيرات المؤثرة في قيمة العملة الوطنية داخلياً وخارجياً والتي تنشأ من خلال التغيرات في المستوى العام للأسعار أولاً، والمساهمة في تحقيق معدلات نمو اقتصادية مناسبة في القطاعات الاقتصادية المختلفة بما يحقق زيادة حجم الدخل القومي ونمو الناتج المحلي عندما تنجح السياسة النقدية في تحقق الاستقرار الاقتصادي ودفع عجلة الإنتاج عند زيادة النقود في السوق في حالة الكساد، أو تقوم بخفض كمية النقود في السوق في حالة التضخم ثانياً، وتحقيق الاستقرار في الأسعار عند مستوى معين، أي القضاء على معدل التضخم في الأسعار، وذلك للقضاء على النفقة الاقتصادية والاجتماعية للتضخم ثالثاُ.

وللسياسة النقدية أدوات لتحقيق الاهداف المذكورة، يستخدمها عادةً البنك المركزي للتأثير في الوضع الاقتصادي وهي:

• تغيير نسب الاحتياطي القانوني: فمن المعروف أن نسبة الاحتياط القانوني هي تلك النسبة من النقود التي يجب على البنوك التجارية الاحتفاظ بها لدى البنك المركزي من حجم الودائع التي تصب في تلك البنوك، وبالتالي إذا أراد البنك المركزي زيادة عرض النقود من خلال زيادة قدرة البنوك التجارية على خلق النقود، فأن البنك في هذه الحالة يخفض نسبة الاحتياط القانوني مثلا من 40% الى20% فتزداد قدرة البنوك التجارية على منح الائتمان وخلق النقود فيزداد المعروض النقدي والعكس صحيح إذا أراد البنك المركزي تخفيض عرض النقود من خلال تخفيض قدرة البنوك التجارية على خلق النقود.

• عمليات السوق المفتوحة: يقصد بها قيام البنك المركزي بشراء أو بيع الأوراق المالية الحكومية للتحكم في القاعدة النقدية, فإذا كان الهدف هو زيادة عرض النقود, فان البنك المركزي يقوم بعمليات شراء للأوراق المالية الحكومية من البنوك التجارية, ويدفع مقابل هذه الأوراق شيكات مسحوبة على البنك المركزي، وهذه الشيكات تودع في البنوك التجارية و بالتالي يكون في امكان البنوك التجارية أن تتوسع في حجم الائتمان وخلق النقود من الودائع, و ثم يزداد المعروض النقدي، أما إذا كان الهدف هو إنقاص عرض النقود، فان البنك المركزي يقوم ببيع الأوراق المالية الحكومية.

• تغيير سعر إعادة الخصم: سعر إعادة الخصم هو ذلك الجزء من الفائدة الذي يتحصل عليه البنك المركزي نتيجة خصم البنوك التجارية لما تملكه من أوراق تجارية سبق خصمها للعملاء, والآن تقوم بإعادة خصمها لدى البنك المركزي, ويطلق عليه أيضا سعر البنك، فعندما يغير البنك المركزي سعر الخصم فانه يغير من عرض النقود، فإذا كان الهدف هو التوسع في عرض النقود، فان البنك المركزي يخفض سعر الخصم، وبذلك يشجع البنوك على الاقتراض منه وإذا تم ذلك فان القاعدة النقدية وعرض النقود يزيدان.

 وفي العراق تم تطبيق أداة عمليات السوق المفتوحة من خلال مزادات بيع العملة الاجنبية من قبل البنك المركزي عندما صدر أمر سلطة الائتلاف المؤقتة في عام 2004 بموجبه يقوم البنك المركزي العراقي ببيع الدولار الى السوق في ضوء تحقيق أهداف السياسة النقدية، إذ ان البنك ‏المركزي يستخدم ادوات السياسة ‏النقدية المتاحة له، وبشكل خاص ‏توظيف سعر صرف الدينار ‏العراقي كوسيلة للسيطرة على ‏التضخم وكبح جماحه، ولهذا ‏الغرض تدخل البنك المركزي في ‏سوق الصرف لرفع قيمة الدينار ‏مقابل الدولار والدفاع عن هذه ‏القيمة المرتفعة للدينار بتلبية كل ‏الطلب على الدولار عند هذا ‏السعر عبر عمليات بيع الدولار ‏إلى المصارف وشركات التحويل ‏المالي المرخصة في مزاد العملة ‏الذي ينظمه البنك، وقد ظل الدينار العراقي محافظاً على قيمته أمام العملات الاخرى منذ تطبيق هذه الأداة وحتى شهر كانون الاول 2012، وقد أبعد بهذه السياسة، وبعض السياسات النقدية الاخرى، المواطن العراقي عن تداعيات مشكلة التضخم.

 ولكن ابتداءاً من شهر كانون الثاني 2013 بدأت معدلات التضخم بالازدياد تدريجياً، فقد سُجل في الشهر المذكور ارتفاع الرقم القياسي العام لأسعار المستهلك بمعدل (0.6%) مقارنة بشهر كانون الاول 2012، وبدأت منذ ذلك الحين تتوالى الزيادات في مؤشر الرقم القياسي لأسعار المستهلك بمعدلات (0.6%،0.1%، 0.8%، 1.1%) لأشهر كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان 2013 على التوالي.

وترجع زيادة مؤشرات الرقم القياسي لأسعار المستهلك تلك الى ارتفاع اسعار بعض الاقسام السلعية من مثل (الاغذية، الملابس، السكن، الخضروات التبغ، الصحة، التعليم، المطاعم، النقل، والترفيه).

من خلال المعطيات السابقة نستنتج أن الاقتصاد العراقي يسير نحو التضخم، ولو بنسب متباطئة حالياً، إلا أن نسبة تضخم شهرية مقدارها (1% فقط) ستكون (12%) سنوياً، هذا اذا افترضنا أن التضخم سيظل عند مستوى (1%) شهرياً، وهو أمر مشكوك فيه في ظل تطورات السياسة النقدية في العراق، وفي ظل المؤثرات السياسية الإقليمية التي بدأت تلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي في البلد.

 فارتفاع معدلات التضخم عادةً ما تؤدي إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية، وهذه النتيجة بدأت بالظهور مطلع العام 2013 متزامنةً بالطبع مع ارتفاع معدلات التضخم، فقد انخفضت قيمة الدينار العراقي من (1200) دينار لكل دولار في كانون الأول 2012 الى (1300) دينار لكل دولار منذ مطلع عام 2013.

 وينبغي أن نتعرف أولاً على الأسباب التي تؤدي إلى انخفاض سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الأجنبية المرجعية، فهناك مجموعة من الأسباب منها الاقتصادية ومنها السياسية، فالاقتصادية تنتج عن ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض ومن ثم انخفاض القوه الشرائية للنقود، فضلاً عن تزايد العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات الخاص بالدولة نتيجة ارتفاع الطلب على العملات الصعبة وعدم وجود انتاج قومي يتم تصديره للخارج وزيادة الطلب على السلع والخامات من الدول الأجنبية، والسبب الثالث هو الاصدار النقدي الجديد الذي يؤدي الى زيادة عرض النقد، اذا لم يصاحبه ارتفاع في الانتاجية، أما الاسباب السياسية فتتمثل بالحرب أو الحصار الاقتصادي أو جراء بعض السياسات التي تنتهجها الحكومات لخلق جو وهمي لإرضاء الشعوب او سياسات الإغراق.

 وفي العراق فقد تضافرت العديد من الاسباب التي أدت في النهاية الى انخفاض قيمة العملة العراقية من مطلع العام 2013 وحتى الوقت الحاضر من أهمها الاتي:

• السياسات النقدية التي انتهجها البنك المركزي العراقي بتخفيض مزاد العملة بحجة وجود فساد في صفقات بيع العملة، وهنا نود أن نوضح نقطتين في غاية الاهمية، الاولى أن وجود فساد في هذه الصفقات لايمكن معالجته بالضرورة من خلال تقليل المعروض من الدولار في السوق المحلية، بل من خلال مكافحة الفساد نفسه، فالبنك المركزي عمد الى خفض مزاد العملة وتضرر من جراء ذلك الاقتصاد العراقي بأكمله، من خلال انخفاض قيمة العملة العراقية، لغرض معالجة حالة الفساد التي تسبب بها بعض المنتفعين، واجزم هنا ان اغلب هؤلاء المنتفعين هم من ضمن العملية السياسية وكما كان يحدث في زمن النظام السابق، النقطة الاخرى هي أن المحافظة على قيمة العملة العراقية بهذه الكيفية التي جعلت المواطن العراقي يستعيد الثقة بعملته الوطنية التي عانت ماعانت على يد الدكتاتورية، هذه المحافظة لاتكون بالتأكيد بدون كلف، فالدولارات التي دُفعت الى المزاد، أياً كان حجمها، تعتبر كلفة منخفضة امام المحافظة على سعر العملة الوطنية لهذه السنوات.

• ان فرض الحصار الاقتصادي على إيران والحرب الدائرة في سوريا قد خفض الاحتياطيات الدولارية لهذين البلدين فاتجه تجارهما إلى السوق العراقية لغرض الحصول على الدولار مستخدمين الكم الهائل من العملة العراقية المتوفرة لديهم بسبب التبادل التجاري الاحادي الجانب بينهما وبين العراق، إذ يقوم العراق باستيراد كميات كبيرة من السلع من هذين البلدين دون تصدير شيء يُذكر.

• لقد ساهمت ظاهرة التوقعات (Expectations) في زيادة الطلب على الدولار مقابل الدينار، فالمواطن العراقي بعد كل هذه الانخفاضات في سعر العملة العراقية أمام الدولار الاميركي بدأ يتوقع المزيد من الانخفاض، لذا بدأ بالتخلص من الدينار مقابل شراء الدولار، الامر الذي أدى الى زيادة الطلب على الدولار، مع خفض البنك المركزي لمزاد الدولار من جهة، وزاد من المعرض من الدينار في السوق من جهة أخرى.

• أدت التدخلات الحكومية في سياسة البنك المركزي، الذي من المفترض أن يتمتع بالاستقلالية في كل دول العالم، دوراً سلبياً في تفاقم مشكلات قيمة العملة الوطنية، إذ أن هناك على الدوام علاقة عكسية بين تدخل الحكومة وقدرة البنك المركزي على استخدام أدواته النقدية لمعالجة المشكلات النقدية داخل الاقتصاد، فكلما ازداد تدخل الدولة كلما انخفضت قدرات البنك المركزي على الحد من المشكلات النقدية في الاقتصاد الوطني.

ومن الممكن أن تلقي هذه الظاهرة بآثار سلبية متعددة على الاقتصاد العراقي إذا ما استمرت دون معالجة علمية حقيقية، ومن هذه الاثار الاتي:

• ارتفاع اسعار السلع والخدمات المحلية، إذا ما أخدما بنظر الاعتبار أن أكثر من (90%) من السلع في السوق العراقي هي سلع مستوردة من الخارج، وهي مقيّمة أصلاً بالدولار، وأن أي انخفاض لقيمة الدينار أمام الدولار يؤدي إلى دفع دنانير أكثر مقابل نفس السلعة مقارنة بالمدة قبل انخفاض قيمة الدينار.

• تضرر الفئات التي تعتمد على الدينار سواء في مداخيلها أم في مدخراتها، إذ أن المدخرات الدينارية ستنخفض قيمتها مع انخفاض قيمة الدينار، فضلاً عن تضرر شريحة الموظفين، المتقاعدين، المقرضين بالدينار، المقترضين بالدولار، المتعاقدون مع الحكومة بالدينار وبخاصةً المقاولون، المؤجرون لعقاراتهم بالدينار، المستأجرون لعقارات بالدولار، والكسبة.

 أما المعالجات المقترحة للحد من موضوع انخفاض قيمة العملة العراقية أمام الدولار الاميركي والعملات الاخرى فمن الممكن تلخيصها بالاتي:

• العودة الى ذات السياسة النقدية التي كان ينتهجها البنك المركزي العراقي خلال الاعوام الخمسة الماضية والتي تعتمد على تلبية طلب السوق المحلي من الدولار مع سحب فائض الدينار العراقي منه، من خلال الاستمرار بمزاد العملة.

• تفعيل موضوع مكافحة عمليات غسيل الاموال وتهريب العملة الصعبة خارج الاقتصاد العراقي بعيداً عن سياسات البنك المركزي ومن خلال الهيئات أو الدوائر ذات العلاقة.

• منح مزيد من الاستقلالية للبنك المركزي العراقي وعدم جره الى مماحكات السياسة، إذ أن التدخل في عمل البنك المركزي له مساس مباشر بمستوى معيشة الفرد العراقي الذي يعاني يومياً من الارهاب، وأن هذا التدخل سيضيف معاناة اخرى للمواطن وهي المعاناة الاقتصادية.

• تعودنا في العراق، في ظل نظام المحاصصة، أن يتم الاستيزار على وفق الكتلة او الحزب أو الطائفة بغض النظر عن الاختصاص، لذلك فمن الممكن الركون الى رأي لجان استشارية متخصصة في الشأن الاقتصادي عند اتخاذ أي قرار يختص بحياة المواطن العراقي لدراسة ايجابياته وسلبياته قبل اصداره.

 وتبقى المعالجات المطروحة منوطة بمدى كفاءة السلطة النقدية وجديتها في انتشال المواطن العراقي من براثن التضخم الذي ظل ينخر به ردحاً من الزمن، فاليوم يقف العراق على مفترق طرق في مجال وحدته الوطنية والهجمة البربرية التي تخلف يومياً انهاراً من الدم، فلا مجال لإضافة عبء جديد على كاهله من خلال الفشل في السياسة النقدية التي من الممكن أن تصيب بمقتل هذا الشعب الصابر.

* جامعة بابل- كلية الإدارة والاقتصاد

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21/آيار/2013 - 10/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م