التعليم في العراق... بين رواسب الماضي وطموح المستقبل

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يشارف العام الدراسي على الانتهاء مع قرب الامتحانات النهائية، ويستعد التلاميذ لتقديم عصارة الجدّ الاجتهاد خلال العام الدراسي وما بلغوه من الفهم والاستيعاب للمادة للخروج بنتيجة مشرفة حيث يصدق عليهم قول القائل: "في الامتحان يُكرم المرء أو يُهان". والسؤال هنا؛ هل التلميذ يسير وحده في طريق التعليم والتعلّم وصولاً على مراحل التطور والتقدم العلمي؟ وهل تقع عليه المسؤولية كاملة؟

هذا السؤال نطرحه بعد أن وصل التعليم في العراق الى مستويات خطيرة من التدني – للأسف-  بسبب استمرار حالة الإهمال والتهميش منذ العقود الثلاثة الماضية وما يزال.. فبعد سقوط الصنم في بغداد، توسم الجميع خيراً بمستقبل مشرق للتعليم، لأن النظام البائد تعامل معه مثل سيجارة ينفث دخانها ولما انتهت ألقها أرضاً وسحقها برجله، فاذا كان نظام التعليم في العراق هو الأفضل والأحسن بين دول الشرق الاوسط باعتراف منظمة "يونسكو"، وذلك في عقد السبعينات، فان النظام البائد وجه بوصلة التعليم الى التصنيع العسكري وإقحام التعليم في الايديولوجيات البائسة التي لا تمت الى العلم والمعرفة بصلة.. واذا كان التسرّب من المدارس بلغ عام 1973 نسبة 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي، حسب تقرير "يونسكو"، وهو أقل مستوى بين الدول النامية في العالم، فان الطاغية صدام، فتح أبواب التطوع الى مصراعيها لدخول الشباب الى سلك الجيش الشرطة وأجهزة "الأمن" القمعية، وفي الوقت نفسه ألقي التعليم في العراق وسط تعقيدات شائكة، بحيث بات من المتعذّر ان تجد معلماً أو مدرساً أو مدرسة أو قرطاسية أو أثاث مدرسي بالشكل المطلوب أو بالمقاسات العادية على الأقل.. فقد تسلل الفساد والتخلّف والتسرّب الى جميع مفاصل التعليم في العراق، حتى بات المعلم عاجزاً عن شراء (طبقة) بيض واحدة من الراتب الشهري الذي يستلمه من الحكومة في عقد التسعينات، ولم يجد الطالب، بل الأسرة حاجة لأن يقضي أبنائها وقتهم عبثاً في المدرسة، فالافضل هو الاستفادة من الزمن لجني المال في ظروف معيشية قاسية.

هذه الظروف التي خلقها النظام البائد من مخلفات حروبه ومغامراته المدمرة التي دمّر بها ايضاً التعليم والتربية في العراق، خلقت هي الاخرى ظواهر سلبية خطيرة، من قبيل التزوير في الامتحانات ومقولة "ادفع تنجح"، وايضاً "التدريس الخصوصي"، الذي لم يكن معهوداً في وقت كان المعلم والمدرس يتمثل دور الأب في المدرسة. وهذا ما أوجد حالة عدم الثقة المتبادلة بين الطالب والمعلم، فالاخير عندما يواجه مطلباً بشرح أوفى للمادة، يجيب بسرعة: "اذهبوا الى المدرس الخصوصي"..! أو في أحسن الاحوال يُرمى الطالب وسط الملازم الدراسية ليجد ضالته فيما يمكن فهمه واستيعابه. والأخطر من هذا؛ الوضع النفسي المضطرب لبعض المعلمين والمدرسين  - من الجنسين طبعاً- فقد حصلت هوة عميقة بين الطالب ومعلمه، ولم يعد المعلم ذلك الأب الثاني للطالب، إنما نجد همّ البعض منهم، المكسب المادي وإسقاط الواجب.

فبعد سقوط صنم بغداد، وتنفّس قطاع التعليم الصعداء أكثر من غيره في العراق، ربما للمحرومية الشديدة والاضطهاد الذي مارسه النظام البائد، عقد الطالب وخلفه أسرته آمالاً وطموحات كبيرة على المستقبل، في أن تكون المدرسة المنطلق نحو توفير حياة سعيدة للطالب ولأسرته، حيث يكون بامكانه التدرج في مراقي العلم والمعرفة، ويكوّن لنفسه شخصية علمية ذات كفاءة وأهلية لخوض غمار العمل في مجالات عدّة، مثل الطب والهندسية والمحاماة والتعليم وغيرها من الاختصاصات المهنية. وقد يعرف القارئ العراقي قبل غيره، أن شريحة واسعة من الأسر العراقية كانت تعزف عن إرسال بناتهن الى المدرسة في سني التسعينات، خوفاً عليهن من الأجواء الموبوءة، حيث كل شيء كان يتم بالغش والاحتيال والابتزاز، وما أن سقط ذلك الصنم حتى انهالت على المدارس أفواج الطالبات الصغار والكبار، حتى من بات من الصعب استيعاب الاعداد الكبيرة لهن، وبانت القلّة والشحة في اعداد الابنية المدرسية بالقياس لعدد الاطفال المشمولين بالتعليم. ولمن يريد التحقق أكثر يمكنه زيارة بعض مدارس النبات ليرى الكيفية التي تتم فيها الدراسة، حيث الزحام الشديد في الصفوف والجلوس على مقاعد مهشمة، وفي يوم الامتحان، حيث تجبر الطالبة على الابتعاد عن زميلتها، فتندفع بعضهن الى الأرض لتجلس على البلاط والإجابة على أسئلة الامتحان.

هذه التضحيات الكبيرة التي تقدمها التلميذة الصغيرة والرقيقة، ومعها أسرتها، حيث تطوي بعضهن مسافات بعيدة للوصول الى المدرسة، مع شحّة في الامكانات المادية، تقابلها في أحيان كثيرة نوعاً من الجفاء واللامبالاة من الكادر التدريسي ومن فوقه النظام التعليمي في العراق، ويخيل لنا أن ثمة تفضّلاً في الأمر من قبل الحكومة بأن الطالب في العراق عاد بسلام وأمان وشيء من الامكانات الى المدرسة، وربما أكثر ما يتباهى به الرواتب المجزية التي خصصها للكادر التعليمي، وهذا ما سبب عودة عدد كبير من المعلمين والمدرسين الذين تركوا مهنة التدريس خلال العهد البائد. لكن هذا ليس من استحقاق التعليم في العراق، مع وجود كل هذا الاندفاع والشوق الى الدراسة والتعلّم عند شريحة كبيرة من الطلبة، بدليل أرقام النجاح الكبيرة وأعداد المتفوقين والمتميزين التي ظهرت في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يفرض على المسؤولين التفكير من جديد وبمسؤولية عالية في هذا القطاع مع الأخذ بنظر الاعتبار خطوات منها:

أولاً: إعادة بناء النظام التعليمي في العراق، بما يواكب المرحلة الراهنة وحاجة البلد الى الكفاءات العلمية والمهنية لإعادة البناء والإعمار.. ولعل من نافلة القول التذكير بقانون التعليم الإلزامي الذي كان في عهد الطاغية البائد، فهو ربما اراد به الامساك بأطراف المجتمع بمكوناته الحضرية والريفية والبدوية تحت شعار التعليم، لكن في الوقت نفسه، فان لهذا القانون فوائده في تذكير الأسرة والطفل بأنه مسؤول أمام مستقبل نفسه ومجتمعه وبلده، ولا يجب أن يبقى أميّاً أو كسولاً مما يمكن ان يتحول الى عنصر ضار في المجتمع.

والمسألة الاخرى في هذا الاطار، تجاوز النهج التقليدي في الدراسة والتعليم الذي يدور حول محور النجاح أو الرسوب، فالنجاح بمعنى الوصول الى الجامعة ثم الحصول على الشهادة التي تضمن له وظيفة حكومية ثم راتب شهري ومعيشة مكفولة الى حدٍ ما.. أما الرسوب، فهو يعني عند الطالب اليوم، هو التسكع في الشوارع أو الانخراط في أعمال حرة لا تناسب وعمر الفتيان الذين نشاهدهم يومياً من الصباح الباكر وحتى المساء، بين العتّال (صاحب العربانة حسب اللهجة العراقية)، والبائع المتجول، والسائق وعمال الخدمات في المطاعم والفنادق وغيرها، مع التأكيد على أن "العمل شرف"، ولا عيب في اكتساب لقمة  العيش، لكن من واجب نظام التعليم أن يفتح آفاق المستقبل أمام الشاب اليافع ليختار ما يناسب ذكاءه ومستواه الذهني.

ثانياً: إعادة النظر في المناهج الموجودة بشكل دقيق وكامل بما يوكب العصر وحاجة المجتمع والتطلّع الى المستقبل، وما موجود فان معظمه يعود الى العهد البائد، وهي مجموعة من المواد الدراسية التقليدية التي تعود الى حقبة ماضية، لا تنسجم مع المرحلة الراهنة، حيث حصل التطور في المجال العلمي وايضاً الثقافي والفكري، بمعنى إن المواد العلمية وايضاً المواد الأدبية مثل "التاريخ" و"الاسلامية" و"الاقتصاد" و"الاجتماعيات" وغيرها، يجب أن تتطور وتتحدث.

ثالثاً: الإشراف على المنهج التدريسي ليراعي مسائل الصحة النفسية لدى المعلم والمدرس، الى جانب المستوى الاخلاقي والثقافي ومراعاة الأمور الانسانية. فطريقة التعامل السائدة مع الطالب، تعود في قدر كبير منها الى العهد البائد، حيث العنيف باليد أو الكلام الجارح، مايزال مرسوماً في كثير من المدارس، إن لم نقل جميعها.

طبعاً هنالك أمور كثيرة أخرى، ربما تدور في خلد الكثير، لاسيما المهتمين بشأن التعليم في العراق. لكن الواضح أن معظم المشكلات والأزمات التي نعيشها في هذا القطاع، تتجاوز المشكلة المادية، لتصل الى المسألة الثقافية والمنهجية في النظام التعليمي، فلابد أن يعرف الطالب منذ نعومة أظفاره ماذا يريد من وطنه وشعبه..؟ فحتى وإن أنفق عليه بضعة دنانير فانه يجب أن يعرف انها صرفت لأجل هدف معين ومحدد، ولا مجال للتسيّب والإهمال وقضاء الوقت فيما لا ينبغي. ومن المفيد أن نعرف أن دولاً في العالم تفتقر  الى الثروة الهائلة التي لدينا، بل تتحسّر عليها، لكنها تخصص نسبة لا بأس بها من الميزانية للتعليم، مثل دول في جنوب شرق آسيا، حيث تخصص للتعليم نسبة (27) بالمئة من الميزانية، وفي الصين نقرأ أنها ضاعفت النسبة لتصل الى (300) بالمئة من الحصة المقررة في الميزانية، ولذلك نجد حجم الانتاج وقوته في هذه الدول،وكيف انها تسيطر على أسواق العالم، ولا نسمع قط، عن وجود عاطل عن العمل في الصين أو في كوريا الجنوبية أو ماليزيا، طبعاً في العراق، فان النسبة تصل الى (10) بالمئة من الميزانية، وهي نسبة لا بأس بها قياساً بحجم الميزانية التي بلغت هذا العام (118) مليار دولار، أو ما يعادله بالدينار العراقي (138) ترليون دينار، لكن المطلوب الى جانب هذا وضع الأسس الصحيحة للنظام التعليمي ورسم هدف واضح مضيئ للطالب والمعلم على السواء ليكون البلد بأكمله أمام مستقبل مشرق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/آيار/2013 - 9/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م