لماذا لا تكون أحزابنا جماهيرية؟

 

شبكة النبأ: ما يزال سؤال المواطن العراقي يبحث عن مجيب.. لماذا لا نرى السياسيين إلا وقت الحاجة الى الأصوات في الانتخابات المحلية أو البرلمانية العامة؟ ونحن نضيف سؤالاً أخراً.. أين هي الجماعات السياسية من الشارع العراقي؟ ولماذا، هي الاخرى تظهر فقط في الحملة الانتخابية، وفي ساعة الاختبار للفوز بالمكسب السياسي؟

ربما بسبب عدم وجود النصّ الدستوري الذي ينظم عمل الأحزاب السياسية في البلاد، لا نرى تبني هذ الجماعات لتسمية "الحزب" بشكل صريح، لذا فهي تكتفي باسماء مستعارة من قبيل: "التجمع"، و"التكتل"، و"الجبهة"، واسماء اخرى، والمرشحون الذي يظهرون في صور بأحجام كبيرة ومكلفة، على الأرصفة وفي الأماكن العامة ذات الكثافة السكانية، إنما يستظلون بهذه الاسماء، الامر الذي يجعل الاستحقاق السياسي، أكبر أمام الساسة، فهم مدينين بالإجابة للمواطن العراقي، بصفتهم الشخصية، وايضاً عن الجماعات التي ينتمون اليها.. ولا اعتقد ان القائمين على النشاط السياسي لكل هذه الاسماء المتعددة في العراق، يجهلون الدور المفترض للكيان السياسي في ضمان الحياة السياسية الناجحة، كما هو معروف في بلاد الغرب. ومن غير المعقول، أن نكون على أبواب عقد كامل من الزمن في ظل نظام يفترض ان يكون ديمقراطياً، ثم لا تكون لدينا رؤية محددة للعمل الحزبي الذي يتنفس هذه الديمقراطية!

واذا راق للبعض استنساخ التجارب الديمقراطية والحزبية من البلاد الغربية، او حتى البلاد الحديثة العهد بالديمقراطية، نرى من الأجدر الاستفادة، ليس فقط من تجارب، إنما من رؤية ثاقبة ومحددة للعمل الحزبي، تستند على القاعدة الحضارية، التي قدم فيها الإسلام النظام المتكامل للحياة، حاملاً أصولاً ومبادئ ثابتة غير فضاضة، مثل "الحرية"، و"التعددية"، و"تحكيم الشريعة".. وهذا ما وجدناه جلّياً في كتاب لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- تحت عنوان "الحزب في النظرية الاسلامية"، يحدد فيه الطريق القويم للحزب الذي يريد، - صدقاً- أن يكون مفيداً للمجتمع وللأمة.

الشرعية

فاذا كان الحزب طامحاً للنجاح في عملية تشكيل القاعدة الجماهيرية، ونشر افكاره ورؤاه للتبني ثم التطبيق على أرض الواقع، عليه بالضرورة، أن يبين الوجهة الشرعية او المسوّغ الذي يدفع الناس لتبني هذه الافكار، او تفضيلها على غيرها من الافكار الموجودة في الساحة.

بدايةً؛ علينا أن نعرف أن الحزب هو بالحقيقة "المؤسسة التربوية السياسية التي تقوم بخدمة الناس، فوظيفته الأولية ومهمته الرئيسية: تقديم الخدمات الإنسانية، والثقافية، والاقتصادية، والعمرانية، لكافة أبناء الشعب، وليس لمجرد الوصول إلى الحكم والارتقاء إلى المناصب الحكومية"، طبعاً؛ سماحة الإمام الشيرازي لا يرى بأساً في الطموح السياسي للحزب، إذا تحقق من خلال صناديق الاقتراع.

أما اتجاه العمل الحزبي، فهو التنافس "انطلاقاً من الإيمان بالله واليوم الآخر، وتنافسها يكون في طاعة الله عز وجل"، ويستشهد الإمام الراحل بتجربة الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، في المدينة، حيث عدّ وجود "المهاجرين" و"الانصار"، بمنزلة اعترافه بوجود تكتل حزبي على أساس اجتماعي.

ان الواقع المرير الذي نعيشه، يبين الفاصلة الكبيرة التي تفصلنا مع هذه التجربة التاريخية المضيئة، فالتجارب السياسية اليوم، قائمة – بمعظمها- على مبادئ من قبيل "الغاية تبرر الوسيلة"، و"سياسة الامر الواقع"، وهو ما يشرّع للحزب واصحابه القيام بأي شيء لتحقيق المصالح الحزبية والسياسية، حتى وإن كان على حساب الدين والاخلاق.. لذا يؤكد سماحة الإمام الراحل بصريح العبارة أن "الحزب المحظور في الإسلام، هو الذي يرتكب الحرام، أو ينتهي الى برلمان يكون بيده التشريع في قبال التشريع الإسلامي".

وفي مسألة شرعية العمل الحزبي، هنالك نقطتين ايجابيتين:

الاولى: من الناحية القانونية.. حيث ان تعدد المبادئ والقوانين لدى الاحزاب السياسية، يجعلها في وجهاً لوجه أمام المبدأ الاسلامي الثابت والمحدد في مسألة العمل السياسي، فالإسلام يتمتع بعامل الثبات والديمومية والحيوية في قوانينه وتشريعاته، بينما لا ثبات لقوانين الاحزاب التي يدونها اشخاص، ربما لا تتعدى رؤيتهم مساحة القصور التي يشيدونها، أو عدد السيارات والمصالح التجارية والسياسية. وعندما لا تكون هكذا مصالح وحظوات لباقي افراد المجتمع، يسود الظلم والطغيان، ثم يبدأ الغليان والانفجار. 

والثانية: من الناحية النظرية.. وهذا ما يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل ذي لب ونوايا حسنة وصادقة بخدمة مجتمعه وبلده.. تقول الآية الكريمة: "أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

يقول سماحة الامام الشيرازي: "الحقيقة التي يصرح بها القرآن الحكيم وبكل تأكيد: أن كل حكم غير حكم الله، هو حكم جاهلي ناقص لا يوصل الشعوب إلى عزّ وسعادة، ولا إلى استقرار واطمئنان، بل بالعكس يذيقهم الويل والدمار، والشقاء والحرمان، كما جربناه على مدى قرابة قرن من الزمان المعاصر..".

التعددية

بعد الإطاحة بنظام صدام، بدأنا نسمع بأننا مقبلون على نظام "تعددي"، وهذه رسالة مفهومة الى الشعب العراقي، بانه لن يرى أمامه "حزب البعث"، وحسب إنما أحزاب سياسية متعددة.. لكن هل هذا كل شيء..؟ ماذا عن فوائد هذه الكثرة والوفرة في الاسماء التي ملئت سماء العملية السياسية في العراق؟

يؤكد سماحة الإمام الشيرازي الراحل – قدس سره- أن أهم ما يجب أن تقدمه التعددية السياسية هو التداول السلمي للسلطة، ومكافحة الفردية والديكتاتورية، فالتعددية – يقول سماحته- يحول تبعد شبح الديكتاتورية عن البلاد، ولذا لن تكون هنالك حاجة الى تشكيل احزاب سرية، أو ما يعرف بالنضال السلبي، إنما ينتشر النضال الايجابي، المعروف عنه في البلاد الديمقراطية بـ "المعارضة"..

وبما أن التعددية، تمثل النهج والاسلوب في العمل السياسي، فان سماحة الامام الراحل – قدس سره- يؤكد عليه بقوة، بشكل يوحي لنا، أنه القاسم المشترك الذي يلتقي فيه نجاح العملية السياسية في البلد، وتطور افراد المجتمع على الصعيد السياسي والاقتصادي، وايضاً، الأمن والاستقرار. وهذا تعبير صادق عما كان يجول في ذاكرته – قدس سره- من تجارب مريرة من سياسة الحزب الواحد والديكتاتورية الحزبية التي شهدها العراق، وجرّت عليه الويلات والمصائب الكبيرة، فالعراقيون، طوال السنوات الماضية، وبدلاً من أن ينشغلوا بالابداع والانتاج والتطوير في واحدة من أعنى بلاد العالم، زراعياً ومعدنياً، وجدوا أنفسهم في دوامة الحروب والصراع مع السلطة الحاكمة، وحتى اليوم ما تزال الذاكرة  تحمل صور الجنائز التي تسلم الى ذويها مع طلب صارم بالصمت، والمطاردة والاعتقالات والاعدامات والتعذيب الرهيب. وبجملة واحدة، فان ديكتاتورية الحزب أو الفرد الواحد، لن تدع مجالاً للتثقيف السياسي، واختيار السياسي الكفوء والأمين في المكان المناسب.

اذا اردنا التعددية الحقيقية التي تنقلنا من حالة التقهقر والانهزامية والتشرذم، الى مصاف البلاد المتقدمة، على المجتمع "أن ينقلب الى مئات الآلاف من المؤسسات بل الملايين.. والتي من بينها الاحزاب الاسلامية.. كلها تعمل في طريق المنافسة في الخير وتحقيق أهداف الاسلام.."، ليس هذا وحسب، بل ان الإمام الشيرازي – قدس سره- يطمح لأن يشمل العمل المؤسساتي حتى المهن والاعمال المختلفة، في اطار نقابات واتحادات، مثل نقابة الاطباء ونقابة الصحفيين، ونقابة المعلمين والقائمة طويلة... هذه الكيانات المهنية، من شأنها أن تكون منطلقاً للابداع وفرصة لصقل المواهب وظهور الكفاءات والمؤهلات لدى افراد المجتمع.

ربما يقول البعض: هذا ليس بجديد.. فهنالك النقابات والاتحادات والاحزاب السياسية، لكن ما الفائدة، إذا كانت عبارة عن كيانات مغلقة وخاصة بأناس معينين؟ لننظر الى ندوة او اجتماع تعقده نقابة او اتحاد او جماعة معينة، هل يندفع الناس للحضور في هكذا اجتماعات..؟ وحتى لا نجانب الحقيقة، نقول: ان العراق لم يشهد طوال تاريخه المعاصر ظهور احزاب اسلامية جماهيرية، على شاكلة الاحزاب العاملة في بلاد الغرب. حيث ينتخب الاعضاء اعضاء اللجنة المركزية او الهيئة القيادية، ثم مرشحهم للرئاسة وهكذا.. وهذا ما يجب ان يسود عراقنا، اذا اردنا الفائدة – حقاً- للجماعات السياسية الحاشدة، والمتسابقة نحو السلطة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/نيسان/2013 - 5/جمادى الآخرة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م