المحكمة الجنائية الدولية... مصداقية على المحك

 

شبكة النبأ: جاء انهيار قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد أحد حلفاء الرئيس الكيني المنتخب أوهورو كينياتا لتمثل أحدث لطمة تتلقاها المحكمة التي تتعرض لانتقادات لأنها لم تصدر سوى إدانة واحدة منذ أنشئت قبل أكثر من عشر سنوات.

فقد واجه ممثلو الادعاء صعوبات في إثبات الاتهامات بما يحقق المهمة الصعبة بل والتي يصفها البعض بالمستحيلة المتمثلة في إعداد القضايا في جرائم ارتكبت قبل سنوات على بعد الاف الكيلومترات بناء على شهادة شهود غير متعاونين في مجتمعات معادية للمحكمة. ويعد تفكك القضية المرفوعة على موظف الحكومة الكينية السابق فرانسيس موتهاورا خير مثال على الصعوبات التي تواجهها المحكمة.

كان موتهاورا وكينياتا اتهما بارتكاب جرائم ضد الانسانية من خلال تدبير أعمال عنف أعقبت الانتخابات الكينية عام 2007 سقط فيها 1200 قتيل. وينفي الإثنان هذه الاتهامات.

وقالت فاتو بن سودا رئيسة الادعاء إنها خلصت إلى أن من المستحيل الاستمرار في القضية المرفوعة على موتهاورا بعد أن تراجع شاهد رئيسي عن أقواله ولقي شهود آخرون محتملون مصرعهم ويخشى آخرون الادلاء بأقوالهم كما أن الحكومة لا تتعاون مع المحكمة. وأضافت "في ظل هذه الظروف لا نشعر أن لدينا احتمالات معقولة لإدانة المتهم."

وطلب محامو كينياتا الذي فاز في انتخابات الرئاسة هذا الشهر سحب الاتهامات الموجهة له في ضوء تطورات القضية المقامة ضد موتهاورا. ويقول خبراء قانونيون إن المدعين بحاجة لاعادة النظر في أساليب العمل التي يستخدمونها في ضوء هذه الانتكاسات. ويشيرون إلى مشاكل مستمرة في عملية اختيار الشهود ومصداقيتهم.

وفي ديسمبر كانون الاول الماضي صدر حكم بتبرئة ماتيو نجوجولو وهو مقاتل من الكونجو من اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في نهاية محاكمة استمرت ثلاث سنوات تبين خلالها استحالة الاعتماد على شهادة الشهود الواحد تلو الآخر.

وتم الاستناد إلى مشاكل تتعلق بالشهود في القضية المرفوعة على كاليكست امباروشيمانا المتهم بقيادة مجموعة من المتمردين ارتكبت جرائم اغتصاب وقتل في الكونجو عام 2009 وكذلك قضية بحر ادريس أبو قردة زعيم مجموعة مناوئة للسودان في دارفور اتهم بقيادة هجمات على قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة.

وأسقطت المحكمة الاتهامات الموجهة إلى امباروشيمانا في عام 2011 استنادا إلى عدم كفاية الادلة. ورفض القضاة تأكيد الاتهامات الموجهة إلى أبو قردة عام 2010 لعدم كفاية الادلةأيضا. وينفي الاثنان الاتهامات الموجهة لهما.

وقال وليام شاباس خبير القانون الدولي بجامعة ميدلسكس البريطانية "إنه لأمر في غاية السوء مثلما كان الحال في قضية نجوجولو عندما لا يصدق القضاة الشهود." وقال مكتب المدعي الذي استأنف حكم براءة نجوجولو في رد مكتوب إن توجيه النقد للمحكمة بناء على سجلها السابق أمر خاطيء. وأضاف أن المحكمة تعمل وفق أعلى نظم العدل في العالم وأن هذا النظام ناجح رغم عدم وضوح ذلك لكل المراقبين.

وقال "في العقود والقرون القادمة سيصدر مزيد من أحكام الادانة ومزيد من أحكام البراءة. هكذا تعمل العدالة المنصفة وهكذا يجب أن تعمل."

وقد اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية وريثة محكمة نورمبرج التي نظرت قضايا جرائم النازي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والمحاكم الخاصة التي أيدتها الامم المتحدة مثل المحكمة الدولية التي شكلت لمحاكمة قادة يوغوسلافيا السابقة والمحكمة التي شكلت في أعقاب مذابح رواندا.

أما المحكمة الجنائية الدولية الحالية وهي أول محكمة دائمة من نوعها في العالم فقد تأسست بمقتضى اتفاق أبرم في روما عام 2002 للسعي لتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية في الأماكن التي تسود فيها قوانين ضعيفة. وتحظى المحكمة بدعم أغلب دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا لكنها لم تحظ بدعم الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند.

وللمحكمة التحقيق في الجرائم التي ارتكبت في الدول الموقعة على اتفاق انشائها أو التي يطلب منها مجلس الامن الدولي اشراكها فيها مثلما كان الحال في الحملة العنيفة التي شنها معمر القذافي على المحتجين المطالبين بالديمقراطية في ليبيا.

ومن الممكن أن تواجه المحكمة صعوبات تعقد عملها في المناطق الخطرة أو المعادية لها إذ ليس لها قوة شرطة تتبعها كما أنها تعتمد على تعاون الأطراف الأخرى في القبض على المتهمين.

ويقول السفير الامريكي ستيفن راب المسؤول عن العدالة الجنائية الدولية إن ضمان ايجاد الشهود ذوي المصداقية في ظل هذه الظروف يصبح في غاية الصعوبة. وكان راب قام بدور المدعي في محاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور في محكمة سيراليون الخاصة كما أنه عمل من قبل مدعيا في الولايات المتحدة. وأضاف أن عبء اثبات الادلة في هذه القضايا كان ضخما.

وقال "وهذا ليس يسيرا في المناطق التي تحتاج فيها لاقناع الشهود بالادلاء بأقوالهم والتي تحتاج فيها لنقلهم إلى حيث الأمان."

إلا أن راب لا يرى أن المهمة ميئوس منها. فقد شجعه على سبيل المثال قرار الرئيس باراك أوباما بالتوسع في برنامج المكافآت الحالي بما يسمح للولايات المتحدة بدفع مكافآت مقابل الادلاء بمعلومات تساعد في تقديم المتهمين للعدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

وتبلغ موازنة المحكمة في السنة 130 مليون دولار منها 28 مليونا لمكتب المدعي الذي يعمل به 217 خبيرا قانونيا. ويوضح موقع المحكمة على الانترنت أن كلفة مرتبات القضاة وغيرهم من العاملين تمثل جانبا كبيرا من ميزانية المحكمة.

وكان أول رئيس للادعاء بالمحكمة هو لويس مورينو أوكامبو الأرجنتيني الذي حقق شهرة بنجاحه في إدانة أعضاء بالمجالس العسكرية في الارجنتين خلال الثمانينات. وكانت بن سودا وهي من جامبيا نائبته.

والادانة الوحيدة التي حققتها المحكمة حتى الان هي إدانة توماس لوبانجا أحد قادة الحرب في الكونجو. وعلى النقيض من ذلك فقد أدانت محكمة يوغوسلافيا 68 من المتهمين البالغ عددهم 101. ومن بين 75 قضية استكملت في محاكمات رواندا تمت تبرئة 12 متهما حتى الان.

بالاضافة إلى ذلك فإن كل قضايا المحكمة الجنائية الدولية حتى الان انحصرت في افريقيا الأمر الذي أحدث ثغرة في المصداقية بتلك القارة حيث يرى كثيرون أن المحكمة منحازة. لكن المحكمة ترفض ذلك الانتقاد. وقد بدأت المحكمة تحقيقات أولية في أفغانستان وكولومبيا.

واستطاعت المحكمة تقييد حرية من تحاكمهم أو توجه لهم الاتهام رسميا. ورغم أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير سافر كثيرا منذ توجيه الاتهام له أعاق الاتهام حضوره عددا من الاجتماعات الدولية. بحسب رويترز.

واستسلم بوسكو نتاجاندا وهو من قادة حرب الكونجو الهاربين وذلك في السفارة الامريكية في رواندا وطلب نقله إلى المحكمة الجنائية حيث يواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب. لكن المحكمة لم تكن مع ذلك عند حسن الظن بها.

وقال مدعون سابقون ومحامون وخبراء قانونيون أجرت رويترز مقابلات معهم خلال إعداد هذا التقرير إن الظروف المحفوفة بالمخاطر التي يمر بها المحققون وعدم التعاون هما أكبر مشكلتين أمام المحكمة.

وقال البعض إن المحاكم الخاصة السابقة كانت مهمتها أيسر لانها بدأت عملها بعد توقف الاعمال العسكرية أو لأن حدتها كانت قد خفت. وقال نيك كوفمان المدعي السابق بمحكمتي يوغوسلافيا وسيراليون الخاصتين والذي يتولى الان الدفاع عن المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية إن من العوامل التي دعمت التحقيقات في الجرائم التي ارتكبت في يوغوسلافيا أن قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الاطلسي كانت قريبة من الأحداث. وأضاف "المحكمة الجنائية الدولية تتعامل في الغالب مع صراعات جارية في بيئات عمل صعبة ومحفوفة بالمخاطر."

وقال الخبراء إن العجز عن التحرك بحرية يمثل عائقا. واستشهد ايريك ويت الذي عمل مستشارا للمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة سيراليون الخاصة بالقضية المرفوعة على تيلور الذي استأنف حكما بسجنه 50 عاما.

ففي تلك القضية تتبع المدعون المسار الذي اتخذه مهربو ألماس في إطار التحقيقات فيما إذا كان تيلور استخدم حصيلة مبيعات غير قانونية لتمويل المقاتلين من الثوار. وأضاف ويت أن تلك التجربة سمحت لهم بتصور الوضع الذي كانوا يستجوبون الشهود بشأنه.

وقال كريس سانتورا وهو يعمل بالادعاء في نيويورك وشارك في الفريق الذي وجه الاتهام إلى تيلور "إذا عرفت أين النهر وأين الجسر أمكنك أن تتفهم رواية الشاهد." وأضاف "إذا لم تكن تعرف السياق فربما سألت أسئلة تخلط الأحداث الرئيسية بما يجعل شاهدك يبدو متحيرا حتى إذا لم يكن متحيرا." وتابع أن المعرفة المحلية تساعده في التعرف على ما إذا كان ما يقال له صدقا أم لا.

وقال "كان الجدل يدور حول اغلاق الحدود بين سيراليون وليبيريا وأنه لم يكن بوسعك اختراقها بسبب كثافة الغابة. لكنك عندما تذهب ترى أنها ليست غابة بل سافانا."

وقال مكتب المدعي إن هذا النوع من التحقيق على الطبيعة ليس ممكنا في كثير من الاحيان في قضايا المحكمة الجنائية الدولية لأن المنطقة كانت محفوفة بمخاطر كبيرة ولم يحصل محققوها على دعم كاف. وأضاف المكتب أنه في قضية نجوجولو على سبيل المثال تلقى المحققون نصائح لاسباب أمنية بعدم الذهاب إلى قرية زومب التي كانت موضع أقوال لشهود اعترض عليها محامو الدفاع ورفضتها المحكمة.

وتابع "كل السلطات نصحت بعدم اتمام أي من زيارات المحققين من مكتب المدعي بما في ذلك الامم المتحدة التي كانت في وضع يؤهلها لمساعدتنا في التحرك في أيتوري."

وقالت إدارة السلامة والامن بالامم المتحدة إنه ليس لديها علم بتوجيه أي نصائح خاصة لمحققي المحكمة الجنائية الدولية في تلك القضية.

كما شكا قضاة من عدم تحقق المدعين من روايات الشهود واستخدام وسطاء ربما كان لهم أغراضهم الخاصة.

وفي محاكمة نجوجولو قال الشاهد رقم بي 279 إنه شاهد نجوجولو وشريكه جيرمين كاتانجا يدخلان مدرسة قرب مخيم عسكري.

إلا أنه عندما زار القضاة الموقع وجدوا أن من المستحيل رؤية المدرسة من الموقع الذي كان الشاهد يقف فيه وانتقدوا الادعاء لعدم التحقق من ذلك.

وقال القضاة في نص الحكم "كان من الأفضل أن يتمكن المدعي من زيارة الاماكن التي عاش فيها المتهم قبل أن تبدأ المداولات حول حقائق الامر."

ومع محاصرة الشاهد بالاسئلة اتضحت نقاط الضعف في شهادته بسبب فترات صمت طويلة خاصة عند مواجهته بالتناقضات التي لم يستطع تفسيرها.

وقال الخبير القانوني وليام شاباس إن مقارنة المحكمة الجنائية الدولية بالمحاكم الخاصة من حيث الاجراءات فإن المحكمة الجنائية تتأثر على نحو أكبر بالنظام القانوني الفرنسي وذلك مقارنة بالنظام الانجليزي القائم الذي سارت عليه محاكمات رواندا ويوغوسلافيا رغم أن كل المحاكم جمعت بين النظامين.

ونتيجة لذلك حد قضاة المحكمة الجنائية الدولية من عملية اعداد الشهود للادلاء بأقوالهم الأمر الذي زاد من صعوبة التنبؤ بتصرفات الشاهد في ضوء مرور شهور أو سنوات في بعض الاحيان بين أول مرة أدلى بها الشاهد بأقواله وبين المحاكمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/آذار/2013 - 15/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م