التاريخ الموجز للاقتصاد الكلي

حاتم حميد محسن

من المدهش ان الاقتصاد الكلي الحالي يحظى بسمعة سيئة، سواء بين عامة الناس او بين الاقتصاديين في الحقول الاخرى. هناك القليل من الاجماع حتى على الاسئلة الاساسية في الاقتصاد الكلي. لو وجّهنا اسئلة لكبار الاكاديميين عن سبب البطء الشديد في انتعاش الاقتصاد الامريكي بعد الازمة المالية الاخيرة سوف نستمع الى العديد من الاجابات المتضادة والمختلفة. ولكن السبب الاكثر وضوحا لهذا الازدراء الواسع للاقتصاد الكلي هو ان مهنة الاقتصادي فشلت في التنبؤ بإمكانية حدوث أكبر وأشد هبوط اقتصادي منذ الكساد الكبير في الثلاثينات.

يسعى حالياً العديد من الاقتصاديين الى إعادة بناء الاقتصاد الكلي، وذلك بمزج الافكار التي نُبذت في السابق مع تقنيات حسابية ورياضية جديدة شديدة التعقيد.

في جهد متميز قام كل من (Markus Brunnermeier) و(Delwin Olivan) من جامعة برنستون بعرض سلايد يوضح تاريخ موجز للاقتصاد الكلي(1). كما يبدو من السلايد ان تاريخ الماكرو نشأ عبر سلسلة غير منتظمة من الاحداث. النماذج السائدة في مرحلة ما يبدو انها تعمل وتستمر في العمل لحين ظهور اشياء جديدة تفرض إعادة التفكير. بعد ذلك يبقى الاكاديميون يعملون ممضين اوقاتهم بكسل حتى تأتي نقطة تحول جديدة. استجابةً للكساد الكبير طوّر (جون ماينرد كينز) فكرة ثورية وهي ان الافعال المفيدة انفرادياً تُنتج محصلات غير مرغوبة لو ان جميع الافراد قاموا بها في وقت واحد. اما (ارفنك فشر) أوضح ان المستوى العالي من الديون يجعل الاقتصاديات هشة وسريعة التعرض للهبوط الحلقي للانكماش والى العجز عن سداد الديون. وبالنسبة الى (سيمون كوزيت) فهو لم يطور اي نظرية جديدة لكنه لعب دوراً رئيسياً في خلق حسابات الدخل القومي والناتج القومي. قبل ذلك لم تكن هناك معرفة كافية لدى صناع السياسة والمستثمرين والمواطنين حول ما اذا كان الاقتصاد يتراجع ام ينمو.

كان على الـ (FDR) الوثوق بمؤشرات مثل سعر الحديد الخام او حجم حركة سيارات الشحن، بدلاً من الناتج الاجمالي المحلي.

في اواخر s1940، انتهى الكساد الكبير وتوفي كنز. (Paul Samuelson) هو الرجل الذي وضع الأجندة للعقود اللاحقة باستخدامه افكاراً من النظرية العامة لكنز في (الاستخدام، الفائدة، النقود)، واوضحها في نماذج رياضية محددة.(للمهتمين بكتاب كنز يمكنهم قرائته كاملا ومجانا في الاون لاين). مساهمات ساملسون كانت هامة لكنها لسوء الحظ أهملت العديد من الاشياء، خاصة رؤية كنز لطبيعة النظام المالي. بالنسبة لساملسون واتباعه، يرون ان المصارف والوسائط الاخرى هي مجرد حاجز بين اصحاب التوفير والمقترضين في القطاع غير المالي، بدلاً من ان تكون شركات باحثة عن ربح تجعل من القروض صفقة رابحة. واذا كان هناك بعض الرافضين الاوائل خاصة (جون جيرلي) و (ادوارد شو)، الا ان التيار الرئيسي وحتى وقت قريب من حدوث الازمة اعتقد ان المالية ليست بالشيء الهام.

ان العديد من المتخصصين في الاقتصاد الكلي كانوا مرتاحين لتجاهل المالية لأنهم درسوا خصيصا الولايات المتحدة البلد الذي لم يشهد ازمة هامة منذ الثلاثينات. الحكومة من جهتها استجابت بخلق ضمانات للايداعات وكسرت آخر بقايا نظام الذهب وهو ما جعل معظم الاقتصاديين يعتقدون ان اي ازمة مستقبلية غير ممكنة الحدوث في الاقطار الغنية. وطوال عدة عقود، برز الدليل المؤيد لهذه الاطروحة، رغم ان المراقبين الراصدين للاحداث في اليابان والشمال كانوا اكثر حذراً.

لذا فان نماذج الماكرو الاصلية لما بعد الحرب استبعدت النظام المالي. ولكن ماذا تضمنت تلك النماذج؟ ان النماذج التجريبية السائدة كانت ترتكز على فكرة ان العلاقات المُلاحظة في الماضي سوف تستمر في المستقبل. وهذا ليس بالضرورة خطأ. على سبيل المثال، التغيرات في عدد الناس الحاصلين على وظائف يتطابق بشكل جيد مع مستوى العاطلين عن العمل. الآلاف من المعادلات الخطية المرتكزة على هذا النوع من العلاقات قد دُمجت في أنظمة هائلة. وطوال عدة عقود، قامت هذه النماذج، في الواقع، بوظيفتها على اكمل وجه. ولابد من الاشارة الى ان اكثر الاقتصاديين شهرة تنبأوا في بداية الستينات بان اقتراح جون كندي بخفض الضرائب سوف لن يضيف الى العجز لأنه سوف يشجع النمو السريع، وهو ما ثبتت صحته.

ان المشاكل التي برزت في السبعينات مثل "الركود التضخمي"، وهي الظاهرة الاقبح التي يعاني منها الاقتصاد (حيث يترافق الارتفاع السريع في الاسعار مع مستويات عالية من البطالة) لم تكن متوقعة – مع ذلك كانت دول العالم الغنية تعاني من تلك الظاهرة المخيفة. المشكلة كانت ان بعض العلاقات التي لوحظت في الماضي يمكنها ان تنهار حالما يسعى صناع السياسة الى استغلالها عمداً، وهنا نجد صناع السياسة قد اتكأوا بقوة على منحنى فيليبس. حيث اكتشف (فيليبس) ان الزيادة في الاجور الاسمية تترافق تاريخيا مع النسبة العالية للبطالة، بينما الزيادة البطيئة في الاجور ذهبت متلازمة مع مستويات عالية للبطالة. قبل (فيليبس) اكتشف (ارفنك فشر) – الرجل الذي اخترع مفهوم انكماش الديون- علاقات مشابهة بين التغيرات في الاجور الاسمية والتغيرات في الاستخدام في امريكا. واذا كان فيليبس ذاته لم يفترض ان العلاقات التي اكتشفها كانت قانون حديدي للطبيعة (2)، الا ان اقتصاديين اخرين بما في ذلك (بول ساملسون) افترضوا ذلك بالفعل. هم اقترحوا ان صناع السياسة واجهوا مساومة بسيطة بين البطالة والتضخم، تمثلت على منحنى فيليبس، حيث بإمكان صناع السياسة اختيار اي نقطة يرغبونها على المنحنى.

المشكلة في مثل هذا النوع من الموديلات او النماذج هي انها تجاهلت العنصر الانساني. التغيرات غير المتوقعة في مستوى الاسعار او الاجور الاسمية تغيّر اسعار الفائدة الحقيقية، وأعباء الدين الحقيقي، وتكاليف العمل الحقيقية. ذلك يعني ان اي صعود مفاجئ في التضخم يمكن ان يسبب ازدهاراً مؤقتاً في الاقتصاد، والذي مع اشياء اخرى سوف يقلص مؤقتا نسبة البطالة. ونفس الشيء، بالنسبة للانكماش غير المتوقع قد يسبب مقداراً كبيراً من الضرر. كل من فشر وفيليبس كانا ينظران الى البيانات متأثرين بعصر مستوى الذهب حينما توقع عامة الناس ان الاسعار ستبقى مستقرة. اي تغيرات ثابتة ستكون انحرافاً عن التوقعات، وهو يبين لماذا العلاقات التي اكتشفوها بدت كأنها راسخة. ولكن اذا كان الناس يتوقعون غير المتوقع وتكيفوا مع نسبة التضخم الجديد والسريع، فان العلاقات التاريخية المُلاحظة سوف لن تصمد.

 ذلك ما حدث في السبعينات. منذ ذلك الحين ادرك الناس ان اي هبوط اقتصادي سوف يشجع صناع السياسة على تحفيز الفعالية الاقتصادية عبر استدعاء التضخم السريع. لم يعد هناك اعتقاد بان الزيادة السريعة بالاسعار هي ظاهرة "مؤقتة"، هم سحبوا النقود خارج النظام المصرفي المنظم، الذي كان غير قادر على دفع نسب تنافسية على الايداعات مقارنة بنقود صناديق الاستثمار الجديدة. ان كلفة التمويل بالاسهم (عوائد المردود) تصاعدت، وهو ما زاد من النسب العالية للبطالة وبشكل فاق المتوقع.

جيل جديد من الاقتصاديين الكليين امثال (اي دي فيليبس)، (روبرت لوكاس)، (توماس سارجنت)، (كرستوفر سم)، (روبرت بارو)، استجابوا للتحدي في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات. هم استبدلوا النماذج الميكانيكية التجريبية بأخرى بسيطة وانيقة – تحتوي في معظم الحالات على عدد محدود من المعادلات. وبدلاً من الاهتمام في متغيرات تراكمية مثل عدد ساعات العمل المنجزة في العمل او مستوى مبيعات التجزئة، هذه النماذج الديناميكية العشوائية العامة للتوازن (DSGE) ارتكزت على ارباب المنازل الفرديين والشركات التي حاولت القيام بأفضل عمل تستطيعه في تحدي العالم.

من السهل تقليد التكنيكات التي استُخدمت من قبل هؤلاء الثوريين. لا احد في الواقع يتخذ قرارات يومية حينما يفكر بكيفية تعظيم صافي القيمة الحالية لدخله المستقبلي.(هذا ما يعنيه الناس عندما يتحدثون عن "التوقعات الرشيدة"). وحتى لو قام الفرد بذلك، فلن تكون لديه معرفة تامة عن العالم الذي يعيش فيه، والقليل من المعرفة التامة عن المستقبل. علاوة على ذلك، لم تكن في السبعينات قوة كومبيوترية كافية لتمثيل اكثر من صاحب منزل وشركة في وقت واحد.

ان مؤسسي (DSGE) اختاروا ايضا تجاهل النظام المصرفي لنفس الاسباب كاسلافهم الكنزيين.

وعلى الرغم من هذه العقبات العديدة، الا ان نماذج(DSGE) اكتسبت صوابية كبيرة بتوضيحها لـ"الركود التضخمي" بالإشارة الى التغيرات في توقعات الناس.

اولاً، ان الانفجار المفاجئ في التضخم قد يقود الى نمو اقتصادي سريع. وبمرور الزمن، سيعتقد الناس ان هذه النسبة للتضخم ستكون هي النسبة الجديدة العادية. اسعار الفائدة الحقيقية، الاجور، واعباء الديون بالنهاية ستُعدل الى مستوياتها القديمة. المكاسب في العمالة ستكون مؤقتة – وفي النهاية سوف تستقر عند "نسبتها الطبيعية". كذلك، اصحاب التوفير والمستثمرون سيصبحون باستمرار قلقين من رغبة الحكومة في تحفيز التضخم وزيادة علاوة المخاطرة التي يطلبونها على الاصول البعيدة الاجل. الحكومة قد تحاول جعل الزيادة في الاسعار اسرع واسرع، آملة من هذه السياسة تجاوز توقعات الناس السريعة التكيف، ولكن النتائج ستكون مؤلمة.

ان نماذج (DSGE) تمثل رياضيا الاقتصاد ككرة مستقرة في قعر واد منحن. هذه الحالة مساوية للنمو المتوازن والثابت. عندما تُصاب توقعات ارباب المنازل والشركات بـ "صدمة"، فان الكرة ستتدحرج صعوداً ونزولاً باي اتجاه حتى تعود في النهاية لتستقر في مكانها المألوف. هذا بالطبع يعكس ميل الاقتصاد للانتعاش بسرعة بعد الركود، وليؤكد حقيقة ان الطفرات نادراً ما تستمر. الاقتصاديون يحسّنون واقعية نماذج (DSGE) باضافة المعوقات والمعجلات frictions and) (accelerators(3) التي تؤثر على حركة الكرة بعد انطلاقها. الاكثر شيوعا هو مرتكز على سهولة رفع الاجور والاسعار بدلا من خفضهما، الامر الذي يجعل من الصعب استجابة الاقتصاد "للصدمات" دون تضخم سريع او بطالة عالية.

ان نماذج (DSGE) المتضمنة لهذه الالية من التأثير الهام (الشد والجذب) تُعرف بـ "نماذج كنز الجديدة" او (NK models). اما النسخة الاصلية للنماذج بدون تلك الخاصية من التأثير فيُطلق عليها بـ "دورة الاعمال الحقيقية" او (RBC models).

ان مخاوف الدائنين المالية (financial frictions) و(المعجلات) لنماذج DSGE لم تُطور الا مؤخراً، رغم ان اولئك الذين في مقدمة الماكرو الجديد يشيرون لها بسخرية كـ "ترقيع". ومع كل ذلك، انها لا تزال تفترض ان المصارف والوسطاء الاخرين هم مجرد ستار او قناع بين المدخرين والمقترضين، بدلا من ان تكون شركات باحثة عن الربح تصنع قروض ربحية. ذلك لا يعني ان الاقتصاديين الكليين تجاهلوا كليا النظام المالي. عدد قليل، بما فيهم (Ben Bernanke)، المدير الحالي للاحتياطي الفيدرالي، كانوا يدرسون الازمات المالية في بداية الثمانينات باستعمال بيانات من الكساد الكبير. لكن المعرفة المكتسبة من هذه الجهود لم يتم دمجها ضمن نماذج اقتصادية كمية عامة. فمثلا، مستر(بيرنانك) كتب نموذج شهير في عام 1999 بموجبه يؤدي وجود الدين الى جعل الهبوط الاقتصادي أعمق وأطول.

ورغم ان النماذج تشير الى التحسن بما هو موجود سلفاً، الاّ انها فشلت في توضيح لماذا معظم حالات الكساد لم تترافق مع الازمات الحادة. ان "المعوقات" و"المعجلات" الناتجة عن وجود الدين هي دائما تناسبية مع حجم "الصدمات" التي يتعرض لها الاقتصاد الحقيقي. بالنسبة للاقتصاديين مثل (Gary Gorton)، يرى ان هذا يتجاهل كليا حقيقة ان الازمات المالية هي أحداث متميزة ذات اسباب متميزة. ان موطن الضعف يكمن جزئيا في ان مستر بيرنانك وزملائه (Mark Gertler and Simon Gilchrist) تركوا المصارف خارج نموذجهم.

.........................................................................................

الهوامش

(1)A brief history of macro by M.C.K, The Economist, Jan21st 2013 WASHINGTON

 (2) القانون الحديدي للاجور اخترعهُ الفيلسوف الالماني Ferdinand Lassalle (1825- 1864)، وفيه يؤكد ان الاجور لا يمكن ان تهبط الى ما دون المستوى الضروري للبقاء، لأن بدون حد الكفاف لا يستطيع العمال العمل. غير ان المنافسة بين العمال على العمل سوف تدفع الاجور نحو الاسفل الى ادنى حد. وهذا يأتي من نظرية مالتس السكانية التي ترى ان السكان يزدادون حينما تكون الاجور فوق مستوى الكفاف بينما يقل عددهم عندما تكون الاجور دون ذلك المستوى. وعلى المدى البعيد، سيتساوى عرض العمل(السكان) مع العدد المطلوب من العمال عند مستوى الكفاف. لكن (ديفد ريكاردو) رفض مثل هذا التنبؤ واعتبر ان الاستثمار الجديد والتكنلوجيا وعوامل اخرى تؤدي الى زيادة الطلب على العمل بوتيرة اسرع من الزيادة في السكان. وهنا سيزداد كل من الاجور الحقيقية والسكان بمرور الزمن.

(3) ان الـ العوائق المالية (financial frictions) تعني ان الدائنين لا يرغبون بالاقراض خوفاً من عدم التسديد لهم وهو الامر الذي يجعل الازمة اكثر سوءاً. اما المعجلات (accelerators) فهي نظرية اقتصادية ترى ان الطلب حينما يزداد في الاقتصاد، يزداد ايضا استثمار الشركات. وحينما يؤدي التصاعد المستمر في الطلب لخلق فائض فان الشركات امامها خياران: اما ان ترفع السعر لكي ينخفض الطلب او انها تلجأ لزيادة الاستثمار من اجل مجاراة الطلب. نظرية المعجل ترى ان معظم الشركات تختار زيادة الانتاج فتزداد الارباح. هذا النمو بدوره يجذب مزيد من المستثمرين فيعجّل النمو مرة اخرى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/آذار/2013 - 23/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م