رؤوس لا تصلح للقيادة

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: لم يكن العراق بلدا طارئا على الفكر والمهارة، ولم يخلُ من المفكرين والمبدعين، ولا يفتقر للعقول التي تزن الامور بدقة، والتي تتمتع بالقدرة على التبحّر في ميادين السياسة وغيرها، بيد أن التطبيق هو الذي يخذل العراقيين دائما، فالفكر الجميل الموزون الفاعل نقرأه في الكتب ونسمع الألسن تتداوله، أما عندما نأتي الى التطبيق، فإن الخراب والدمار والبطش والتخلف والقهر والحرمان هي الأدلة التي يتركها الفكر على الارض.

هذه الظاهر التي تشكل حالة الاختلال بين الفكر والتطبيق ليست جديدة، بل عاشت مع العراقيين طوال تأريخهم المنظور والحديث، فالسياسي الثائر صاحب الفكر الخالص الذي يهدف الى الارتقاء بأوضاع البلد، يكتب وينتج أجمل الفكر واروع الكلام، ويتقوّل أفكاره هذه بمناسبة او سواها، كونه معارضا للنظام القمعي، ولكنه حال وصوله الى السلطة، ينسى أفكاره الجميلة الخالصة، ويرمي بها في سلة مهملات السلطة، ويبدأ رحلته الجديدة مع الاستحواذ والصراع من اجل الثراء وتثبيت اركان الحكم، أما الشعب والفقراء واصحاب الحق فليذهبوا جميعا الى الجحيم.

تتكرر هذه الظاهرة لدينا الآن، إذ هناك رؤوس تقود البلد، وانتقلت من مرحلة المعارضة الى السلطة، ولكنها ألقت بأفكارها الثورية في سلة المهملات وانشغلت بالصراع من اجل المكاسب ذات النزعة الفئوية والحزبية والفردية، ولدينا من الدلائل ما يؤكد هذا الرأي، حيث التناحر بلغ أشدّه في المرحلة الراهنة بين الرؤوس التي تقود البلد، وكل منهم تخندق واحتمى بفئته (عشيرته، طائفته، منطقته)، وكل منهم يقول انا صاحب الحق.

ومن الملاحظ أن هذه الرؤوس تعمل على تغذية الفتنة أكثر من اطفائها، من خلال القيام بعدة خطوات من شأنها تأزيم الوضع اكثر، فهذا الرأس يدلي بتصريحات طائفية مثيرة للضغينة والقرف، وذلك الرأس يكيل الاتهامات لغيره وينزّه نفسه، وطرف آخر يحذر من دول اقليمية لها مخططات معروفة، وهكذا تستمر هذه الاسطوانة، يتداولها جميع الرؤوس القيادية من دون أن تلاحظ منهم، خطوة واحدة تدل على وجود العقلية والشخصية السياسية القيادية القادرة على توحيد البلد، فوق الولاءات الفرعية التي اصبحت كثيرة الى حد قد يصعب حصرها.

قد يعزو بعضهم ما يحدث من حالة تشرذم سياسي وتناحر وصراع الى حداثة التجربة في العراق، ولكن لا ننسى أن عشر سنوات على بدء المرحلة الجديدة، يجب أن تتمخض عن قدرات قيادية تحسم قضية المواطنة، وترفع هاجس الخوف الذي يسيطر على الناس بشأن تقسيم البلد، تحت رغبة ملحّة تتمناها وتعمل من اجلها دول اقليمية تحيط بالعراق وتتربص به شرا، لذا فإن السنوات العشر الماضية لم تستطع ان تقضي على بوادر الخوف من التقسيم، والسبب دائما ضعف رؤوس القيادة في جميع السلطات التي تدير شؤون البلد، والضعف متأتي من الخوف على المصالح الضيقة، مع إهمال تام للمصلحة العليا للشعب والوطن.

وهناك من يقول إننا عبرنا حالة الشخصنة، الى السلطة الدستورية التي تنتظم تحت مضامين الدستور، ولكن المنهج الديمقراطي التحرري لا يلغي السمات القيادية للشخصية السياسية، وأقرب مثال لدينا (أوباما)، إذ أن النظام الامريكي مكبل بأسوار وأنظمة دستورية حديدة لا يمكن للرئيس أن يقفز عليها، ولكن عندما نقارن بين قيادة (بوش) وقيادة (اوباما) حتما سنلاحظ الفارق الكبير بين طبيعة القيادتين، فالاول يميل الى العنف والطيش، فيما يميل الثاني الى السلام والحكمة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، أما الداخلية فقد حقق اوباما خطوة كبرى لفقراء امريكا، من خلال اقرار قانون الضمان الصحي على حساب الاغنياء.

بالنتيجة إننا نلمس أثر الطابع الشخصي للرأس القيادي على الطبيعة السياسية، لاقوى دولة دستورية بالعالم، وهذا يؤكد أن لا تعارض بين الديمقراطية وقوة الشخصية القيادية التي يفتقر لها ساسة العراق، وهذه الظاهرة هي سبب من اسباب وصول البلد الى مفترق طرق، لا يمكن توحيده في مسار واحد، إلا اذا وعت الرؤوس القيادية بأنها يجب أن تغادر خانة المصلحة الضيقة الى رحاب أوسع واكبر، يكون هدفها وحدة العراق أرضا وشعبا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 17/شباط/2013 - 7/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م