حتى لا تقطع جهيزة قول "الخطيب"

عريب الرنتاوي

لأنه جاء إلى السياسة من خارج ناديها الملوث بالحسابات السياسية و"البنكية"، تمرد رئيس الائتلاف الوطني السوري الشيخ أحمد معاذ الخطيب على مناخات "الشلل والابتزاز المتبادل" التي تعيشها المعارضة السورية، ونطق وهو "الأخير زمانه" بما "لم تستطعه الأوائل".

الخطيب حذر من مؤامرة قد تنتهي بـ"اختفاء سوريا"، عندها لن ينفع الكلام عمّن هو مسؤول عن ماذا.. ولن تبقى قيمة لـ"شرف الثورة" بعد أن تختفي الثورة أو تؤول إلى نقيضها.. استجاب لدعوة الحوار التي أطلقها النظام، ووضع للجلوس على مائدته، جملة من المطالب (الشروط) المُحقة والمشروعة التي يتعين على النظام الشروع في تنفيذها، التأم الحوار أم لم يتلئم.. وهو كان من الشجاعة بحيث تحمّل شخصياً مسؤولية دعوته، التي ستثير في وجهه "عش الدبابير" الموزع بين الدوحة واسطنبول.

وكان لافتاً أنه عرض القاهرة وتونس كمكانين محتملين للقاء، من دون أن يستثني اسطنبول المعروفة بعدائها الشديد للنظام في دمشق تماشياً – في ظني - مع دورها المؤثر في صياغة مواقف المجلس والائتلاف.. بيد أنه استبعد الدوحة، وكان بذلك يداعب رغبات ومواقف تيارات أخرى من المعارضة التي تشعر بحساسية مفرطة حيال الدور القطري، فضلا بالطبع عن معرفته المسبقة بالفيتو السوري على أي دور قطري في الحل أو الحوار.

موقف الخطيب، الذي قال أنه "شخصياً" ويتحمل وحده المسؤولية عنه، ليس وليد لحظته، ولا هو بـ"الشخصي"، فالرجل كان أبلغ الوسيط الدولي الأخضر الابراهيمي عن قبوله المشروط بالحوار مع النظام، وهذا ما كشف عنه الإبراهيمي على أية حال.. ومن المتوقع أن يحظى موقف الرجل بتأييد تيار مهم داخل الائتلاف، حتى وإن عارضته وقاومته، جماعة الاخوان (أو بعض أجنحتها) وبعض حلفائها في المجلس الوطني السوري، باعتباره "تقزيماً" لمطالب الثورة.

الخطيب ليس معجباً بالأسد، ولا هو من "الفلول" أو "الشبيحة".. الخطيب توقف ملياً أمام مظاهر الخراب والتدمير المنهجي الشامل التي تتعرض سوريا، دولة وشعباً ووطناً وكياناً.. وهو إذ يقدم على إطلاق هذه المبادرة الجريئة، فإنه يفعل ذلك من موقع المسؤولية الوطنية، بعيداً عن الحسابات الشخصية الصغيرة والأنانية، أو حسابات المانحين والممولين في الخليج وبعض العواصم الغربية.

ولو كنت في موقع الناصح للرئيس السوري، لبادرت فوراً إلى محاولة إقناعه بمد اليد إلى الخطيب، ومن قبله إلى هيثم منّاع، الذي ما كفّ عن إطلاق مبادرات مماثلة، وآخرها قبل أيام قلائل في جنيف.. على أن تكون استجابة مخلصة وحقيقية، وليس مناورة استعراضية هدفها تقطيع الوقت والالتفاف على العزلة أو بحثاً عن طوق نجاة.

المعارضون السوريون الشرفاء، ينظرون حولهم فيرون عواصم تدفعهم للموت المجاني على بوابات حلب وإدلب ودمشق، وتترك سوريا وشعبها نهباً للقتل اليومي والجوع والخراب والتشرب واللجوء.. ويلحظون أن قضية شعبهم وبلادهم تتحول إلى "بازار" في سوق النخاسة، حيث تطرح المزايدات والمناقصات العلنية للإتجار بدماء السوريين ومعاناتهم.. وهو يدركون أن ما حكّ جلدهم غير ظفرهم، فقرروا رفع الصوت مؤخراً، ورفعه بقوة برغم الحواجز التي تضعها "عواصم داحس والغبراء" المسكونة بثاراتها البدوية ونزعاتها الانتقامية.

وإذا ما قدر للائتلاف أو تيار منه، أن يوحد صفوفه مع بقية أطياف المعارضة، وأن يذهب لحوار يهدف إلى تغيير النظام وليس إلى تأبيده، وبرعاية وضمانة دوليتين.. إذا ما قُدر لـ"عودة الوعي" أن تقود المعارضة إلى ضفاف العقلانية والاستقلالية، فإن أي عملية سياسية ستنطلق، ستفضي إلى تغيير النظام، وبكلفة أقل، ووقت أقصر.. فمن كان يظن أن التغيير في سوريا قاب قوسين أو أدنى، عليه أن يرعوي بعد كل هذه العذابات والمعاناة.. ومن كان يأمل أن تفضي ثورة الشعب السورية إلى تعميم الديمقراطية وحقوق الإنسان، عليه أن ينظر إلى مآلات الثورة السورية وأوزان القوى بداخلها.. ومن كان يحب سوريا، فإن سوريا مهدد بالانمحاء عن خريطة المنطقة، تماماً مثلما حذر الخطيب.

لقد سقطت الأوهام، وتكشفت الأقنعة عن أدوار خبيئة وخبيثة تضطلع به قوى عربية وإقليمية ودولية، ضد سوريا، وليس ضد نظامها.. فالذين يقاتلون القاعدة في مالي، هم أنفسهم الذين يرفضون إدراج القاعدة في سوريا على قوائم الإرهاب السوداء.. فتّش عن إشعاعات اليورانيوم هناك ورائحة الهيدروكربون هنا.. والذين يتباكون على معاناة الشعب السوري هم الذي يمنعون دخول السوريين، كل السوريين وليس اللاجئين منهم فقط، إلى مدنهم وعواصمهم... والذين يتحدثون عن حق الشعب السوري في اختيار قيادته، هم الذي يصادرون هذا الحق عن شعوبهم ويستكثروها على غيرهم.. والذين يتشدقون بدعم المقاومة هم أنفسهم الذين يعرضونها في أسواق النخاسة الدولية، ويتعهدون تدجينها وإعادة تكييفها مع شروط الرباعية الدولية وحسابات واشنطن وتل أبيب.

ستواجه دعوة الخطيب، ومن قبله مناع، هجوماً عنيفاً من قبل بعض المعارضة، وستحاول "جهيزة" أن تقطع الطريق على "الخطيب" وأقواله... وستدفع بعض العواصم "وكلاءها" في المعارضة لشن أعنف الحملات ضد الرجل ومبادرته.. لكن التهديد الأكبر الذي تواجهه مبادرة الخطيب يكمن في دمشق، وفي مؤسسة صنع القرار فيها... فالنظام الذي بدد العديد من الفرص، وراهن على الحل الأمني والعسكرة، النظام الذي لا يرى سوى ظله، سيصعب عليه تلقف مثل هذه المبادرات، والبناء عليها، وتحويلها من إلى "فرصة" و"مخرج" من الاستعصاء القائم.. لكن ذلك لن يفقد المبادرة أهميتها، بل قد يجعل منها رأس حربة شديدة المضاء، في الهجوم السياسي والشعبي على النظام.

ومن دون التقليل من العوائق التي تنتظر المبادرة، فإن هناك فسحة أمل ما زالت تلوح من نهاية النفق... فهذه المبادرات لها من يستمع إليها عربيا ودولياً، والأهم غالبية السوريين المكتوين بنار الحرب والتهجير ورائحة الدم والبارود ووطأة البرد والجوع.. وثمة جنوح في عدد من عواصم المنطقة للأخذ بالحوار والحلول السياسية بعد أن "طاشت الأسهم" وفشلت الرهانات وظهر العجز بأبشع صوره.. وفي ظني (وليس كل الظن إثم) أن الخطيب ما كان ليدلي بما أدلى به، لولا أنه قرأ بعناية، اتجاهات هبوب الريح في عدد من عواصم القرار الدولي والإقليمي.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 2/شباط/2013 - 21/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م