مستقبل المواجهة بين الأنظمة العربية وتيارات الإسلام السياسي

محمد بن سعيد الفطيسي

تعيش تيارات الإسلام السياسي بشقيها البراغماتي والراديكالي اليوم مرحلة جني ثمار التحولات السياسية والأيديولوجية لما أطلق عليه لاحقا في الكثير من الأدبيات العربية وحتى الغربية منها بثورات الربيع العربي، ودون الدخول في تفاصيل تعيد فتح ملفات المراحل التاريخية السابقة وشكل وطبيعة وانعكاسات الحياة التي كان يعيشها أفراد تلك الجماعات والتنظيمات قبل العام2010م في اغلب الدول العربية، فان المرحلة التالية تعد الأهم والأبرز من الناحيتين السياسية والاجتماعية والأيديولوجية، حيث نجحت تلك التيارات والتنظيمات نجاحا لافتا ومبهرا أوصل بعضها الى كراسي الحكم والرئاسة بطرق سلمية واجتماعية في عدد من الدول العربية.

وإذ نراقب عن قرب وبشكل مستمر تلك المتغيرات والتحولات وإفرازات هذه المرحلة التاريخية الاستثنائية وانعكاساتها على هيكلية البناء السياسي والأيديولوجي لرقعة الشطرنج العربية من جهة، بعد ما يزيد عن العامين تقريبا منذ انطلاق شرارة الأحداث سالفة الذكر، وعلى مستقبل الأنظمة العربية التي نجح بعضها في احتواء أثار تلك المتغيرات التاريخية، ولازالت متماسكة في ظل المواجهة مع تيارات الإسلام السياسي من جهة أخرى، فان الملاحظ على تلك العلاقة – وللأسف الشديد - هو ارتفاع سقف المواجهة واحتدامها وشخصنتها بين تلك التنظيمات وبعض الأنظمة الحاكمة في الدول العربية.

ونحن هنا لا نرغب في الدخول الى تفاصيل الأسباب الحقيقية من وراء مخاوف الطرفين من بعضهما البعض، او الدوافع وراء ذلك، او والتعمق في سبر أغوار نماذج تفكير بعض تلك الأنظمة والتنظيمات القائمة والقادمة من كلا الطرفين بشكل موسع، بقدر ما نحاول إيصال بعض الأفكار التي نرى من وجهة نظرنا الشخصية أنها ربما تمهد الطريق لفهم أوسع لمرحلة قادمة لابد ان يعي فيها الجميع ان كل الأطروحات والتوجهات والنظريات والفتاوى السياسية والاجتماعية والإيديولوجية وحتى الأمنية منها والنفسية قد تغيرت بشكل شبه كامل، وان المرحلة التاريخية القادمة لا يمكن ان تتعامل فيها الأنظمة السياسية القائمة او القادمة بنفس عقلية رجل الأمن او رجل السياسة التي كانت سائدة قبل الأحداث مع الجماهير او التنظيمات والجماعات والأحزاب السياسية البراغماتية او حتى الراديكالية منها، وكذلك تلك التنظيمات التي لا يمكن لقيادييها البقاء على نماذج تفكيرهم القديمة.

باختصار وكما يقول العالم المخضرم والسياسي الألماني الأصل الاميريكي الجنسية هانز.جي.مورجنتاو في كتابه السياسة بين الأمم – الصراع من اجل السلطان والسلام: ان هناك حاجة الى بحث خلاق يلهمه الإحساس بانه يوجد هناك في موقع ما بين الوضع الأفضل الذي لا يمكن الوصول إليه من جانب، وهذا الوضع التوسطي الذي عادة ما يتم التوصل إليه في المسائل السياسية، عالم من البدائل الأفضل والبدائل الأسوأ أيضا، كلها في انتظار ان تكشف.

اذا فان هناك بدائل أفضل لاحتواء حالة الاختناق السياسي الذي تمر به المنطقة العربية تقع بين ما يتمسك به كلا الطرفين من انه الأفضل بالنسبة له وحده، وما بين الوسط الذي لم يستطع الجميع الوصول إليه حتى اللحظة في بعض المناطق الجغرافية العربية وخصوصا الخليجية منها لأن كلا الطرفين يرفض التنازل عن بعض منه للطرف الأخر او تقبل وجهة نظره، مع ان الفكرة الأولى التي نطرحها هي ان المواجهة الدائرة اليوم أصلا لا يمكن لها ان تحسم ابدا سوى بالتنازلات ومحاولة التقارب والتفاهم بين جميع الأطراف.

 لان تلك المواجهة المحتدمة اليوم تدور حول محاولة سعي بعض الأنظمة العربية للتخلص من أفكار لا تتقبلها او ترفضها من تلك الجماعات من جهة وهو أمر مستحيل ولا توجد حالة تاريخية واحدة يمكن التأكيد من خلالها على انه يمكن القضاء على الأفكار بمنطق القوة او المواجهة المباشرة، والدليل على ذلك أفكار التنظيمات الراديكالية او تلك التي تؤمن بالعنف واستخدام القوة للتغيير كتنظيم القاعدة وبعض الجماعات الإسلامية المسلحة في أفريقيا على سبيل المثال، والتي لا زالت في حالة من المواجهة والمقاومة لكل مساعي احتواءها والقضاء عليها، بل واستطاعت حتى اللحظة الراهنة تحدي ومواجهة كبرى دول العالم.

بل ما يثير الانتباه والدهشة في هذا السياق هو ان القيادات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية قد تنبهت الى خطورة التركيز حول محاربة أفكار تنظيم القاعدة او غيرها من تنظيمات الإسلام السياسي الراديكالي، بعدما انقلب عليها سحرها وتمرد عليها ماردها الذي صنعته بيدها، لذا فإنها اليوم تحاول السعي من جديد لتغيير نظريات المواجهة والتقارب مع تلك التنظيمات ومحاولة دمجها في مجتمعاتها والزج بها وبأفكارها تلك في عالم السياسة، وهو الحل الذي وجدت فيها المخرج من مأزقها العسكري.

وهو – وللأسف الشديد – عكس ما نشاهده من تعامل الأنظمة العربية مع تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي، حتى البراغماتي والإصلاحي منها، ففي وقت وجب التعامل معها بالسياسة اللينة والناعمة ومواجه أفكارها بقوة المنطق لا منطق القوة، نجد ان عقلية رجل الأمن القديمة لا زالت مسيطرة على تعامل الأنظمة السياسية العربية مع تلك الجماعات، مع ان التجارب السياسية والأمنية التي خاضتها تلك الدول تؤكد وبما لا يدع مجالا للشك الفشل الذريع لاستخدام نظرية العصا دون الجزرة، وكما قلنا سابقا فإنها هنا تحارب الأفكار وليس الشخوص، وهم بذلك كمن يحارب طواحين الهواء، فمن الصعب القضاء على الأفكار وخصوصا عندما يؤمن بها معتنقيها ومريديها وتعتبر بالنسبة لهم مسالة مبدأ وحق أيديولوجي وعقائدي لا يمكن التنازل عنه.

أما من جهة تلك الجماعات وللأسف الشديد ورغم التجارب الطويلة لها مع الأنظمة العربية او حتى مع المتغيرات الدولية التي كانت هي أكثر المتضررين منها خصوصا منذ العام 2001م، فإنها لا زالت تعيش في عقلية كلاسيكية قديمة غير قادرة على الاندماج مع المتغيرات الثقافية والحضارية الجديدة والمعاصرة، او استغلال الفرص التاريخية المتاحة لها بشكل لا يدفع المجتمع أولا للنفور منها والبعد عنها وعن أفكارها، لان ذلك ليس من صالحها في ظل المكاسب الطيبة التي حققتها في بعض مناطق القوة والنفوذ اليوم.

باختصار - لابد ان تدرك الأنظمة العربية انه من الصعب او المستحيل القضاء على الأفكار بالقوة العسكرية او الأمنية، وان تلك المواجهة لن تدفع المنطقة سوى للفوضى والمشاحنات والمشاققات السياسية والثقافية التي ربما – لا قدر الله – قد تحول المنطقة العربية الى أفغانستان جديدة وتحول تلك الجماعات الى طالبانيين جدد، في وقت يمكنها فيه التعامل بحكمة وحنكة وحذر مع الأمر، ومحاولة دمج تلك الجماعات في المنظومة الاجتماعية، والتواصل معها لحلول قابلة للتنفيذ والمشاركة الاجتماعية والسياسية.

كما ان تلك التنظيمات الإسلامية لابد ان تدرك تمام الإدراك ان الزمان والمكان والجغرافيا السياسية قد تغيرت، وكذلك النظريات وأفكار المجتمعات وطموحاتها وآمالها في الحاضر والمستقبل قد تبدلت، لذا وجب عليها تغيير بعض أفكارها التي تتناقض او تتعارض مع ما ترفضه المجتمعات المعاصرة كالتعصب والرجعية وما الى ذلك، وان تحاول الاندماج في المجتمع، واغتنام الفرص المتاحة لها سلميا ومن غير تعدي او مواجهة مباشرة مع الأنظمة الحاكمة في بلدانها.

ان مستقبل الأنظمة والبلدان العربية التي نجح قيادي تلك التنظيمات الإسلامية والدينية فيها من الوصول الى سدة الحكماو الى احد كراسي المجالس البرلمانية او التشريعية او الوزارية مرهون بمدى تعامل تلك الجماعات مع المجتمع والجمهور الداخلي والمجتمع العربي بوجه عام، ومدى ملائمة أفكارها وقدرتها الإدارية على الاستمرارية المستقبلية، كما ان مستقبل تلك الجماعات التي تعيش في ظل الأنظمة العربية القديمة او تلك التي استمرت ولا زالت تحافظ على موقعها مرهون بقدرتها على الاندماج مع الواقع السياسي والاجتماعي لمناخ تلك الدول، والتعامل مع تلك الأنظمة بمنطقية الأمر الراهن الذي يقتضى المعايشة والاستمرارية، مع ضرورة الاندماج في المجتمع ومناخاته السياسية والاجتماعية والثقافية، واقتناص الفرص السانحة بوسائل العقل والمنطق دون المواجهة المباشرة، والوعي الى اختلاف الايدولوجيا الاجتماعية والمناخ السياسي وأفكار المجتمع والنخب الثقافية والاقتصادية تجاهها من دولة الى أخرى، وان الممكن في بقعة جغرافية يستحيل في بقعة جغرافية عربية أخرى.

ان حالة الاختناق السياسي والأيديولوجي التي تمر بها رقعة الشطرنج العربية هذه الأيام جراء تلك التجاذبات والمشاققات والمصادمات الأمنية والسياسية بين بعض الأنظمة العربية الحاكمة ومن يشاركها الرأي من دول وجماعات ونخب ثقافية واقتصادية لها وزنها وقوتها من جهة، وتلك الجماعات والتنظيمات ومن يشاركها التوجهات والأفكار من دول ونخب ثقافية وسياسية واقتصادية لها نفس القوة والوزن من جهة أخرى، لن توصل هذه المنطقة سوى للفوضى والصدام والعنف وتحول الصراع الى حرب أفكار وأيديولوجيات ومصالح شخصية، وهو أمر لن يحسم أبدا، وخصوصا في ظل تقارب ميزان القوة بين طرفي النزاع والأزمة الخانقة التي تعصف بمساحة واسعة من رقعة الشطرنج العربية اليوم، والذي لا اعتقد شخصيا سوى انه سيفسح مجالا لتفريخ وعودة الجماعات الراديكالية او تلك التي تؤمن بمبدأ التغيير بمنطق القوة والسلاح في مواجهة من تعتبرهم من وجهة نظرها أنهم أنظمة استعمارية غير شرعية او غير إسلامية.

لذا فان الحل المنطقي والحكيم في هذه اللحظات التاريخية الحاسمة، والذي نوجهه للجميع هو في البحث عن المرئيات والمعالجات التي تتيح المجال للتقارب الأخوي والانفتاح الفكري وتفهم الطرف الآخر وآراءه وطموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية المستقبلية، وتغليب صوت مصلحة الأوطان فوق صوت المصالح الشخصية، والرغبة في السلام واستتباب الأمن والأمان والاستقرار، فوالله ان المستفيد الوحيد مما يحدث اليوم في عالمنا العربي من فوضى مستشرية وحروب مستعرة وتدمير للأوطان العربية وقتل للروح البشرية هم أعداءه، ودعاة الفتن والفوضى والطائفية والمذهبية، ومروجي السلاح والحروب والكوارث ومن لا يخافون الله في ضعفاء وفقراء المسلمين، والناقمون علينا وعلى طاقاتنا وثرواتنا والخيرات التي وهبها لله عزوجل للعالم الإسلامي.

* رئيس تحرير مجلة السياسي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 29/كانون الثاني/2013 - 17/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م