طارق الهاشمي... منظّرا يا محلى التنظير بعون الله

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تذكرون نظرية صموئيل هينتينغتون الشهيرة حول صدام الحضارات.. لقد قرأ هذا المفكر التاريخ جيدا وخرج بخلاصة مفادها: جميع الحضارات والامبراطوريات التي نشأت منذ فجر القوة البشرية، كان هناك مايقابلها.. اي ان كل حضارة او امبراطورية توجد واحدة اخرى تقابلها، وتحاول التوسع على حسابها. الفرس مقابل الاغريق، العراقيون مقابل مصر، الهند مقابل الصين، امريكا مقابل روسيا.. وهو نسق كوني لا نستطيع الفكاك منه، والنسق ثابت كاشد مايكون الثبوت.

ووجهة نظره أن صراعات ما بعد الحرب الباردة ستحدث أكثر وأعنف ما يكون على أسس ثقافية (غالباً حضارية, مثل الحضارات الغربية, الإسلامية, الصينية, الهندوكية, إلخ.) بدلاً من الأسس العقائدية كما كان الحال خلال الحرب الباردة ومعظم القرن العشرين.

فرانسيس فوكوياما جاء ونسف تلك المقولات، ووصل الى نتيجة مفادها: إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب، وإنما نهاية للتاريخ، بوضع حد للافكار الايدلوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية. تقوم نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما على ثلاثة عناصر أساسية. العنصر الأول، هو أن الديمقراطية المعاصرة قد بدأت في النمو منذ بداية القرن التاسع عشر، وانتشرت بالتدرج كبديل حضاري في مختلف أنحاء العالم للأنظمة الديكتاتورية. العنصر الثاني في نظرية نهابة التاريخ، هو أن فكرة الصراع التاريخي المتكرر بين (السادة) و(العبيد) لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر. العنصر الثالث في نظرية فوكوياما، هو أن الاشتركية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنها لأسباب عدة أن تتنافس مع الديمقراطية الحديثة، وبالتالي فإن المستقبل سيكون للرأسمالية أو الاشتركية الديمقراطية.

وطبقا لنظرية فوكوياما، فإن الديمقراطية قد أثبتت في تجارب متكررة منذ الثورة الفرنسية وحتى وقتنا هذا أنها أفضل النظم التي عرفها الإنسان أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا. ولا يعني فوكوياما أن نهاية أحداث الظلم والاضطهاد في التاريخ قد انتهت، وإنما التاريخ هو الذي انتهى، حتى وإن عادت نظم استبدادية للحكم في مكان ما، فإن الديمقراطية كنظام وفلسفة ستقوى أكثر مما قبل.

اتاحت نظرية هينتينغتون ان تتجسد على ارض الواقع من خلال التدخلات العسكرية المباشرة للولايات المتحدة الامريكية للدفاع عن مصالحها ضد من تعتقد انهم ضدها، واخترعت مصطلح (محور الشر) و(الحرب على الإرهاب) لإكساب تلك التدخلات الطابع الشرعي.

ونظرية فوكوياما تجد صداها ايضا في اكثر من مكان، كما نشهد ذلك في العديد من التغيرات التي طالت الكثير من الانظمة السياسية.

في العراق، والذي جاء التغيير فيه عبر مخرجات النظرية الاولى، الا انه ايضا لم ينسجم حرفيا مع النظرية الثانية، بل يمكن القول ان ما حدث في العراق هو انقلاب على التاريخ وليس نهاية له.. كيف؟.

لاول مرة منذ الخلافة الاسلامية وامتداداتها الاموية والعباسية والمملوكية والعثمانية، يحكم الشيعة العراق.. بعد ان كانوا محكومين كل تلك القرون من السنّة ومن يمثلهم، وهو انقلاب لم يستوعبه الكثيرون سواءا في العراق او الدول العربية او الاسلامية.. وبمتابعة بسيطة للمواقف يستطيع اي انسان اكتشاف ذلك، وكمثل بسيط وهو ليس من السياسة، ما علاقة المعلق الرياضي على مباريات المنتخب العراقي مع اي منتخب اخر باسم (علاء عبد الزهرة) الذي يلفظه المعلق (علاء زهرة)؟، وهو مثل تجد ابشع منه في مجالات اخرى لامجال لحصرها الان فهي خارج موضوعنا.

صحيفة الشرق الاوسط السعودية نشرت مقالا لطارق الهاشمي ليوم السبت 19 يناير 2013 تحت عنوان (انتفاضة الأنبار وسامراء.. ربيع سني أم ربيع عراقي؟)، حمل الكثير من عقد انقلاب التاريخ التي ذكرناها قبل قليل.

ابدأ من فقرة في منتصف المقال ربما تجيب عن مفارقة طرحها الكاتب في بداية مقاله، مفادها، (وكان من المأمول أن ينتفض الجنوب أولا لكن المفارقة أن الانتفاضة انحصرت حتى الآن في المحافظات ذات الأغلبية العربية السنية، ولا بد أن يكون وراء ذلك من سبب يبقى بحاجة إلى تفسير).

والفقرة التي في منتصف المقال هي:

(في توثيق حوادث من هذا النوع، ترقى للتطهير والإبادة الجماعية، اعتاد العالم وكتاب التاريخ أن يتحدثوا بلغة الأبيض والأسود، وإلا ضاعت الحقيقة ولم يعد لتوثيقها مغزى، غرف الغاز في الحرب العالمية الثانية كانت وسيلة النازي في استئصال اليهود، والحروب الصليبية استهدفت المسلمين، ومذبحة صبرا وشاتيلا تولتها الكتائب اللبنانية ضد الفلسطينيين، وحملة الأنفال عام 1988 استهدفت أكراد العراق. ومجزرة حماه عام 1982 إنما وقعت على "الإخوان المسلمين"، وليس عموم الشعب السوري.. وهكذا تجري تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية.. لماذا لا نقول إذن إن العرب السنة وليس عموم الشعب العراقي هم وحدهم من يتعرض للتطهير؟). لاحظ ان الكاتب لم يذكر المقابر الجماعية للشيعة التي ضمت الالاف من ابنائهم بعد الانتفاضة الشعبانية، ويقتصر على ذكر الانفال، ردا لكرم الضيافة التي تمتع فيها عند مسعود البرزاني بعد هروبه من بغداد).

وربما لهذا السبب الذي يستبطن الكثير من الانكار لفترة سابقة ومحاولة تبرير اخطاءها وعدم تقديم الاعتذار عنها للضحايا وهو ما لم يحصل لحد الان، يمكن ان نفهم عدم انتفاضة الجنوب في هذه المظاهرات التي باركها عزت الدوري وباركها تنظيم القاعدة وجميع القتلة والهاربين، الذين ركبوا موجتها ورفعوا شعاراتها.

منذ بداية مقاله يكتب طارق الهاشمي بعين واحدة، فهو يقول: (المثير للاهتمام هذه المرة ليس خرقا أمنيا كبيرا، أو فضيحة فساد مدوية، أو تعديا إيرانيا صارخا على سيادة العراق، أو تجاوزا كارثيا على حقوق الإنسان.. لا، هذه المرة الأمر مختلف تماما. إنه انطلاق انتفاضة تبشر بربيع عراقي).

لم ينظر الهاشمي الى تركيا، وتدخلاتها في العراق وقصفها المستمر لاراضيه والتوغل فيها والتي هي في نظره ليست تجاوزا على سيادة العراق، لانه يحمل الان جنسيتها العثمانية العتيدة.. ولنذكر الهاشمي كيف ستكون صورة العراق في العام 2050 كما تشير تقارير الكثير من الخبراء والمهتمين بشأن المياه بسبب السدود التركية التي تحبس المياه عن العراق بشرا وشجرا.. ويتحدث الهاشمي عن (الظلم والتمييز والفساد وسوء الإدارة) بسبب سياسة نوري المالكي، وينسى فساد حكومة علاوي المتحالف معه، والتي بدأت الفساد منذ اول ايامها.

انقل نصا للصحفي (جون لي اندرسون) في كتابه (رجلنا في بغداد) والذي يتحدث فيه عن فترة وجود (زلماي خليل زاد) يقول الكاتب: وجدت ان هناك قناعة مخلصة بين العديد من العراقيين بان اياد علاوي رئيس الوزراء السابق قد بقي المرشح المفضل لحكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد انضم النقيب والباججي الى ائتلافه. لكن خليل زاد في اجتماعاته معهم طرح قضية الفساد في كل مرة يذكر فيها اسم علاوي، وكانت حكومة الجعفري قد اصدرت اوامر بالقاء القبض على مجموعتين من مسؤولين سابقين من حكومة علاوي وفي قضية تنطوي على بليون دولار في انفاقات حكومية مفقودة، وحين سأل خليل زاد حول هذه التهم اجاب الباججي بامتعاض بانه يعتقد انها تهم ذات دوافع سياسية. وحين سأل خليل زاد النقيب حول الفساد قال: هذا امر حتمي بسبب عدم الامن في البلد. ورد خليل زاد ضاحكا: لذا فان كل واحد يكسب ذلك كضمانة؟)، ولا يتحدث عن الفساد الذي يتحمل مسؤوليته الجميع، الا ان المحاصصة الطائفية وتحت عناوين المصالحة والشراكة الوطنية تمنع محاسبة الفاسدين لتتوجه الاتهامات نحو شخص واحد.

يمضي طارق الهاشمي في مقاله قائلا: (أما في الوسط والشمال (نينوى) حيث الأغلبية العربية السنية، فإن ظلم المالكي يأخذ شكلا آخر يتمثل على العموم في حرمان المواطنين من حقهم في الحريات العامة، من خلال مداهمات واعتقالات لا تتوقف والكل فيها متهم ومطلوب إن لم يكن اليوم فغدا، والمادة 4 إرهاب حاضرة وتقارير المخبر السري لا تنقطع وفرق التعذيب مدربة والتهم الكيدية جاهزة والقضاء مسيس والحكم بالإعدام لا ينجو منه أحد، حتى من يتمتع بحصانة دستورية).

مع الاتفاق مع الكاتب على ان هناك تجاوزات تحدث في كل قانون وتطبيقه، وردا على تلك الفقرة ايضا اعود الى كتاب الصحفي الامريكي جون لي اندرسون الذي ينقل فيه مقتطفات من اقوال علاوي كان قد سمعها منه ردا على اسئلة وجهها له، يقول علاوي: عقول الارهابيين مغلقة وهم مصممون على القتل والتدمير ليس فقط هنا في العراق بل في كل العالم. لذا فان وضع خط للمحققين لا يمكنهم تجاوزه سوف يرميهم في طائلة الاخطاء.. فانت تمسك بمجموعة من المشتبه فيهم وتاخذهم الى التحقيق. ربما بعضهم مذنب وبعضهم بريء. ففي هذه الحرب المقيتة التي ياتي بها الاشرار يعاني الابرياء دائما).

وينقل الصحفي نقلا عن احد اصدقاء علاوي قائلا: ( قال علاوي انه صدم لدى عودته الى العراق بعد ثلاثين سنة قضاها في المنفى من الدرجة التي احط بها حكم صدام المجتمع العراقي. وقال هذا الصديق متذكرا ما قاله علاوي: ان العراقيين اصبحوا كذابين ومحتالين وقتلة ولا يحترمون سوى القوة الوحشية وكانت تلك هي طريقته في التعامل معهم.. وفي لحظة من العاطفة الجياشة قال علاوي: ساستخدم القوة الوحشية، ثلاث مرات كما لو كان ينطق بقسم ضاربا بكف على كف).. وقوله في مكان اخر: (عندما تتعامل مع الارهابيين عليك ان تتعامل معهم بطريقة قوية، اذ ليس هناك اي حل وسط).. تساؤل الى السيد الهاشمي: لماذا لم يتم مساءلة علاوي عن فترة حكومته التي شهدت ضرب الفلوجة والنجف؟ هل لانه حليف المرحلة؟ ام لان عدو عدوي صديقي؟.

والهاشمي لايتوانى عن القفز على الحقائق كاي مهرج في خيمة سيرك كبيرة، ليضحك الاخرين ويصفقوا له على حركاته، فهو يقول: (القتل بالمثاقب والمناشير الكهربائية وأبطالها ما زالوا نشطاء سياسيين وقد بلغت الحملة أوجها خلال سنوات 2006 و2007 كما هو معروف للجميع).

الجميع قد اشترك في ذلك الاقتتال، وكثير من السنّة الذين كانوا داعمين له هم ايضا مازالوا نشطاء سياسيين، تحت راية المصالحة الوطنية، والتي تعني بالعربي الفصيح المصالحة مع القتلة والمجرمين، اي مصالحة القاتل مع القتيل، ولا يمكن ان تعني اي شيء اخر. اتحدى الهاشمي وغيره من المتباكين عن المظلومية السنية ان يذكر حدثا واحدا اصاب السنة مثلما اصاب الشيعة في بابل وكربلاء والنجف والبصرة وغيره من مناطق الشيعة طيلة الاعوام 2004 و2005 وبدايات العام 2006، حين كانت المناطق السنية حاضنة للارهابيين القادمين من اصقاع الدنيا، ولعله نسي ابو مصعب الزرقاوي شهيد (الامة السنّية) وكم ارسل الى جنات الخلد لحفلات الغداء والعشاء مع الرسول (ص). لقد جاءت نقطة التحول بالنسبة للشيعة في شباط من العام 2006 حين دمرت الانفجارات مرقد الامامين العسكريين في سامراء. والتي وصفها احد المسؤلين بان هجمات سامراء بالنسبة للشيعة كهجمات الحادي عشر من سبتمبر بالنسبة الى الامريكان..

جريدة الشرق الاوسط كحكومتها وكقناة العربية تفتح منابرها لكل صوت يرتفع عاليا ضد الشيعة، سياسيين او رجال دين او ناس بسطاء لمجرد انه ينتمي الى ذلك المذهب.

طارق الهاشمي ينظّر عبر الشرق الاوسط، مثلما كان ينظّر القائد الضرورة، وتبعه في ذلك الضاري وغيره من حملة اللواء القوموي والاسلامي، مستغلين جهل الكثيرين وكراهيتهم لكي شيء يتعلق بالشيعة، وهي تنظيرات جوفاء تنظر بعين واحدة، وحتى تلك العين فهي عوراء لاتميز بين الالوان او الاشكال.

الاعتراف بالخطأ والخطايا التي ارتكبها الجميع في العراق فضيلة، والاعتذار عنها قمة الفضائل، لكن ان نبقى نقول اننا ابرياء براءة الذئب من دم يوسف، وان الاخر هو الشر المحض فتلك تنظيرات جوفاء لاتقدم او تؤخر بل تزيد الامور سوءا فوق سوء، ويا محلى التنظير بعون الله.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21/كانون الثاني/2013 - 9/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م