الدولة المدنية: الشورى والرشد الفكري

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: تعد الشورى كمبدأ للحكم، من الركائز الاساسية التي تستند عليها الدولة المدنية، ولا يمكن تجاوز هذا المبدأ او التخلي عنه، كونه الضمان الاكيد لتشكيل حكومة منتخبة من الشعب، لكي يتحقق مبدأ حكم الشعب لنفسه، وهو الهدف الذى سعى إليه المصلحون والمفكرون والفلاسفة منذ اقدم الازمان عندما بدأت بوادر الدولة تظهر للعيان، وقد قرأنا كثيرا من كتابات الفلاسفة القدماء أمثال ارسطو وافلاطون التي تبحث في مبدأ (حكم الشعب نفسه بنفسه)، واطلعنا على الجمهورية الفاضلة، جمهورية افلاطون التي سعى من خلالها الى وضع الركائز الأولية للدولة المدنية، وقد تابعنا الجهود الكبيرة التي بذلها الامام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في هذا المجال، ومنها كتابه القيم الموسوم بـ ( الشورى في الاسلام).

الجهاد بالفكر والقلم

اذن نتفق على أن الشورى تعضّد تأسيس وتطوير مؤسسات الدولة المدنية، ولكن لابد من نشر هذه الثقافة بين افراد وجماعات المجتمع كافة، عبر وسائل النشر لاسيما الكتابة ونشر الفكري الخلاق في كتب ومطبوعات مختلفة، يسهل توصيلها الى عموم الناس، لاسيما الطبقة الفقيرة والكادحة، التي تكون بأمسّ الحاجة الى الرشد الفكري، ولابد أن نفهم جميعا بأن الكفاح بالقلم أفضل من الكفاح عبر السلاح او المعارك، لأن الفكر والوعي السليم والرشد الفكري  يصنع دولة مدنية راسخة، من هنا تأتي أهمية التركيز على الرشد الفكري.

يقول الامام الشيرازي الراحل، (رحمه الله) في كتابه المذكور آنفا، حول هذا الموضوع: (في سبيل إعطاء الرشد الفكري للمسلمين علينا بالجهاد، الجهاد بالقلم واللسان وبمختلف وسائل الإعلام العصرية المؤثرة، وهذا أفضل من الجهاد في المعركة).

وهكذا لابد أن ينتهج المسلمون، اسلوب التركيز على رفع المستوى الثقافي والفكري عموما لديهم، لأن الوعي هو السبيل الى انتهاج الشورى وأن الاخيرة هي السبيل الى دولة المؤسسات، القادرة على حماية حقوق الجميع، يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص بكتابه المذكور نفسه: (إن التوعية والتثقيف لألف مليون مسلم هي إحدى الأسس الرئيسية في تحقيق حكومة الألف مليون مسلم، ولأهمية الوعي والرشد الفكري نجد الله سبحانه وتعالى يقول: إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً. فالله تعالى يعتبر إبراهيم عليه السلام أمة، والسبب هو رشده الفكري كما قال تعالى: *وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ*).

وينبغي أن تكون عملية التوعية متواصلة ومنظمة ومتواصلة ومخطط لها مسبق، بمعنى يجب أن تكون مدروسة من حيث الطرح والتطبيق ايضا، وهي بالتالي تعد من اهم الواجبات الملقاة على عاتق النخب والجهات المعنية بتطوير الوعي ونشر منهج الانتخاب الحر بين مكونات المجتمع، لذا يقول الامام الشيرازي  حول هذا الجانب: (بعملية التثقيف الواسعة النطاق نكون قد أدّينا بعض واجبنا الذي افترضه الله علينا).

وهنا لابد ان يتدخل الجهد الحكومي الداعم بل والاساسي في نشر الوعي والرشد الفكري بالاضافة الى المنظمات الاهلية المعنية، لأن الحكومة من مصلحتها ان تكون ذات نهج ديمقراطي استشاري حتى تتجنب مخاطر الانقلابات والتداول العنيف للسلطة، لذا يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه: (إن من الشروط الأساسية في الحكومة تحقيق الشورى والاستشارة في كافة المجالات).

الانتخابات والشورى متلازمان

أينما توجد الشورى الحقيقية توجد الانتخابات الحقيقية، وليست الصورة التي تقيمها الانظمة الفردية او العسكرية، واينما توجد الشورى والديمقراطية، لابد أن يتوافر الوعي والرشد الفكري، لأن الرشد هو السبيل الى الشورى، لهذا يجب أن تكون حكومة الشورى او الديمقراطية منتخبة بالاكثرية، كما يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: إن (رئاسة الحكومة يجب أن تكون عبر انتخابات حرة ينتخب فيها الحاكم تبعاً لأكثرية الآراء).

ومن شروط الشورى والنهج الديمقراطي في تدعيم ركائز الدولة المدنية، أن لا يكون الحكم وراثيا، لأن التوريث السياسي يؤدي الى وصول قادة فاشلين ليست لديهم القدرة على ادارة شؤون الرعية كما يجب، ولدينا في التاريخ شواهد لا تحصى في هذا المجال، يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه المذكور نفسه: (إذن.. الحكم في الإسلام ليس وراثياً دكتاتورياً، كما أن الحاكم الذي يأتي إلى الحكم عبر انقلاب عسكري مرفوض من قبل الإسلام حتى لو كان الحاكم مسلماً، إذ الإسلام يشترط آراء الأكثرية، هذا إضافة إلى أن الاستقراء أثبت لنا أن كل الذين قاموا بانقلاب عسكري في البلاد الإسلامية كانوا مرتبطين أو ارتبطوا فيما بعد بالقوى الاستعمارية).

وكلما اقترب المسلمون من الحكومات الاستشارية باعتمادهم الرشد الفكري، كلما اقتربوا من بناء دولتهم المدنية التي تنتفي فيها الانقلابات وتأمن الحكومة على نفسها، لأنها لا تُزاح إلا من خلال صناديق الاقتراع، لهذا على الحكومات ان تنتهج الرشد الفكري والخيار الاستشاري، ليس فقط لصالح الشعب، وبناء الدولة المدنية الراسخة، بل لحماية الحكومات نفسها من الازاحة او الاطاحة بالقوة، إذ يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص: (إننا إذا أعطينا هذا الوعي للمسلمين فإن الحكومات العسكرية والوراثية وغير الاستشارية ترفض تلقائياً، والموجودة منها سوف تزول طبيعياً).

إن الرشد الفكري وترسيخ النظام الاستشاري لا يتحققان بسهولة، بل لابد من بذل الجهود المضنية في هذا المجال، لاسيما من لدن المفكرين والكتاب والمثقفين وجميع المعنيين بنشر الرشد الفكري، لهذا يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (إذن على أصحاب الأقلام والمفكرين أن يعطوا للناس الوعي بضرورة كون الحكومة استشارية، ووجوب إقامة حكومة عالمية واحدة، ولزوم اتخاذ سياسة اللاعنف في كافة المجالات). ويضيف سماحته قائلا ايضا: (هذا يعني معرفة الأمراض الكامنة في جسد الأمة الإسلامية).

واذا تحققت مثل هذه المعرفة، فإن وسائل المعالجة تغدو معروفة ومتاحة لنا، وما علينا سوى السعي اليها بقلوب مؤمنة ونوايا صادقة ومخلصة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/كانون الثاني/2013 - 2/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م