مصر قرباناً على مذبح الديموقراطية

محمد سعيد الفطيسي

 تعيش مصر العربية الغالية هذه الأيام حالة مقلقة ومحزنة من الاحتقان السياسي، الذي دفع بالشارع المصري للانقسام والعنف والفوضى والاقتتال، وحتى هذه اللحظة فان الوضع لا يبشر بخير، ولا يعطي مؤشرات ايجابية يمكن من خلالها ان نقول بان الغد المصري القريب أفضل من اليوم، بل على العكس من ذلك، فالواضح ان هناك أطراف غير مسؤولة في الداخل تدفع نحو التصعيد والمواجهة " الأهلية " بين أبناء الوطن الواحد، وذلك لأهداف ومصالح لن تكون في نهاية المطاف في صالح مصر والمصريون جميعا.

 واني لأستغرب من الكيفية التي يعالج بها أساتذتنا ومن تعلمنا على أيديهم أصول السياسة وفن إدارة الأزمات أهم معركة يخوضها الشعب المصري في القرن 21، وهي معركة في حرب انتصروا في كل معاركها، وخرجوا منها بسلام امنين، وها هم اليوم يخوضون آخرها وأهمها على الإطلاق،- اقصد- معركة الاستقرار، تلك المعركة التي حذرنا منها كثيرا، وقلنا أنها ستكون اشد واخطر معارك ما أطلق عليه بثورات " الربيع العربي "، والذي أجده اليوم قد تحول في مصر العربية العزيزة الى صيف ساخن لا ربيع يحمل جمال وروعة ما بعد تحطيم قيود الاستبداد والدكتاتوريات.

 - وللأسف الشديد – فأنني أشاهد شعب كريم يدفع بوطن عربي عظيم الى الفوضى والاقتتال على مذبح الديموقراطية وتحت شعارات ومبررات تتناقض وروح تطبيقها وممارستها كالمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة، فكل أطراف النزاع في مصر اليوم تدعي أنها على حق، وأنها أهل الحق، وان الحق معها، وان الطرف الآخر على باطل وفاقد للشرعية ولا حق لديه، وبالتالي فانه لا نقاش ولا جلوس على طاولة الحوار معه حتى يتنازل عما يعتقد انه حق من وجهة نظره، وفي نهاية المطاف سيندفع الجميع بلا وعي الى التنازع والاقتتال والصدام، والخاسر الأكبر في كل ذلك هي مصر والمصريون.

 ووالله ان هذا الأمر لو استمر في هذا الاتجاه ألتصعيدي وفي أسوا المتوقع لطرف وأفضله لطرف آخر، لدخلت مصر في حرب شوارع لن تنتهي وتتوقف بين أبناءها أبدا، فالمعارضة اليوم تنادي بإسقاط النظام او الرئيس، وبغض النظر عن كيفية الظروف والأوضاع التي تخللت نجاح الرئيس المصري المنتخب شرعا وأمام العالم من خلال صناديق الانتخاب، وعلى أيدي مصريين وليس كائنات قادمة من الفضاء، وفي حال نجحت المعارضة القائمة في إسقاطه بالقوة، فان أنصار الرئيس او المؤيدين له اليوم سيقومون بدورهم بالوقوف في وجه من ستوصله المعارضة الراهنة الى سدة الحكم في الغد، وستستمر مصر على هذا الطريق الفوضوي المخزي والمخيف الى ما لا نهاية " لا قدر الله ".

 ان المعارضة المصرية اليوم مطالبة بالتريث وتغليب صوت العقل والمنطق والحكمة وحب مصر فوق الجميع وفوق مطالبها، والجلوس مع مخالفيها الرأي للحوار والنقاش وان كان على مضض، وان كانت جادة ووطنية حقا في توجهاتها ومطالبها وحقوقها الدستورية فان بإمكانها ومن اليوم ان تتحد وتتوحد وقياديها البارزين على كلمة رجل واحد وقيادي واحد، وان تشكل حزب قوي واحد او حكومة ظل في مواجهة التيار المعارض أيا كان اسمه او توجهاته وطموحاته المستقبلية، لتواجه مؤيدي الرئيس المصري اليوم في البرلمان او في الاستفتاء وفي انتخابات الرئاسة القادمة، وتسقطه رسميا وشرعيا من خلال صناديق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة وليس الدفع بمصر الى نزاع أهلي لن ينتهي أبدا.

 كذلك فان الحكومة المصرية القائمة مطالبة كذلك بالحذر الشديد وعدم الاستعجال والتفرد في قراراتها ومرئياتها وتوجهاتها، وان تتشارك والشعب المصري بجميع طوائفه واتجاهاته اتخاذ القرارات التي تلامس حياة أبناء مصر وآمالهم وطموحاتهم المستقبلية، وان تعي حجم مخاوف المعارضة وأحقيتها، وخصوصا ان الخلفية التاريخية التي ورثها الشعب المصري في وعود مؤسسات الرئاسة السابقة ترفع من سقف وحجم تلك المخاوف، (( فالشعب المصري لديه تاريخ يجعله لا يثق بكل ما يفترض أنه "موقت"، فمجلس قيادة الثورة عام 1952 كان يفترض أن يكون موقتا وبقي حوالي 60 عاما، وقانون الطوارئ كان يفترض أن يكون موقتا وبقي حوالي 30 سنة، وإدارة المجلس العسكري بعد سقوط مبارك كان يفترض أن تبقى 6 شهور وبقيت سنتين، فما الذي يضمن أن يبقى هذا الإعلان "موقتا"؟ )).

أنني لا أجد أي حل مناسب للازمة السياسية الخانقة التي تعصف بمصر والمصريون اليوم سوى في الوحدة الوطنية المصرية وتغليب مصلحة مصر، من خلال الجلوس على طاولة الحوار دون شروط مسبقة من قبل جميع الأطراف وعلى رأسهم المعارضة بجميع أطيافها، وذلك بهدف الوصول الى حل جذري، يحفظ مصر الغالية وأهلها الأحرار الشرفاء من الفرقة والتشرذم والتنازع والصراعات الأهلية والطائفية، ولا يزعزع من هيبة رئيس مصر ويحفظ مكانة وسيادة مؤسسة الرئاسة في الداخل والخارج لأنها تحمل اسم مصر ومكانتها، وفي نفس الوقت يعالج مخاوف المعارضة المصرية بكل جدية وشفافية.

ختاما: انقل للشعب المصري هذه الكلمات الطيبة من مقال للدكتور مصطفى يوسف اللداوي تحت عنوان رسالة عربية إلى مصر وشعبها، يقول فيها: أيها المصريون الكرام، يا صناع الثورة، يا جند الحق، ويا كنانة العرب المجيدة، أيها الأجناد المباركة والشعب الأصيل، اسمعو وعوا، وأنصتوا وأصيخوا السمع لأبناء أمتكم، فلا تقتلوا أنفسكم وأمتكم ارضاءاً لعدوكم،...... فهذه الثورة المجيدة ليست ملكاً لكم وحدكم فنحن وإياكم فيها شركاء، وكنا لكم خارج مصر مساندين وداعمين، مناصرين ومدافعين، فلا تفجعونا بسقوط الثورة، ولا تعجلوا بتفكيك ملككم، وضياع مجدكم، فهذه الثورة هي خير ما صنعته أرواحكم، وحققته سنوات معاناتكم...... ولا تسمحوا لأحدٍ بأن يستغل اختلافاتكم، وأن يعمق تبايناتكم، إذ هذا حلمهم وغاية أمانيهم، وله يعملون ومن أجله يخططون، واعلموا أن الاختلاف هو من طبائع البشر وسمات الخلق، لأنه الطريق إلى التميز، والوسيلة إلى الصفاء والنقاء واعتماد الأصلح والأجود، ولكنه لا يقود بحالٍ إلى نكث الغزل وتدمير البيت، والقضاء على الحلم، والانقلاب على دماء الشهداء ومعاناة الجرحى والمصابين )، يقول الحق عزوجل {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46)

حفظ الله مصر العربية الغالية وأهلها الكرام من القلاقل والصراعات والفتن ما ظهر منها وما بطن.

* رئيس تحرير مجلة السياسي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/كانون الأول/2012 - 26/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م