الهرمنيوطقيا بين الإنعاش والإنتعاش والإصلاح

المهندس فـؤاد الصـادق

ما هي الهرمنيوطقيا الجديدة؟

الهرمنيوطقيا كجذور، وممارسة قديمة، وربما قديمة قِدم التفكير، الإدراك، الوعي، المعرفة، التعبير، اللغة، الفلسفة، المنطق، الأدب، الفن، العلم، الدين، الرسالة، المُرسِل، المُرسَل إليه، النص، الإجتهاد، الإجتهاد مقابل النص، الحقيقة، الإجتهاد مقابل الحقيقة.

الهرمنيوطقيا كجذور، وممارسة قديمة قِدم: الوجود والإنسان، الوجود الحقيقي والوجود المزيٌف، المثل والجسد، النفس والجسم، الحقيقة الثابتة والحقيقة المتغيرة، الظاهرة والتعليل، اليقين والشك، الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الغموض والوضوح، الجزم والإحتمال، الواقع والظاهر، العلم والوعي، التأويل في التعليل والتأويل في التفسير، الحقيقة والوهم، الثبات والتغيير، الحركة والقانون الثابت، المادي والذهني، الطبيعة ومابعد الطبيعة، المحسوس واللامحسوس، الكينونة والصيرورة، الغائية والعدمية، الشك والشك الجذري، النسبية والنسبية الجذرية، الفوضى والنظام، الفكر والتطبيق، المعرفة والسلطة، النظرية والممارسة، الإيجابية والسلبية، الفرد والجماعة، البقاء والنوع، الأنا والأخر، التبعية والإستقلال، العدالة والظلم، الحرية والإستبداد، السلطوية والتشاركية، الصراع والتعايش، التوتر والسكون، الحرب والسلام، العنف واللاعنف، التنوير والتجهيل، الخطابة والكتابة، الكتابة البيانية والكتابة الإشارية، الكتابة الشعورية والكتابة الأتوماتيكية، التفاهم وسوء التفاهم، الإعلام والدعاية، اللغة والبلاغة، الظاهر والباطن، الخطيب والمستمع، الكاتب والقارئ، العبارة والإشارة، المعنى واللامعنى، الحضور والغياب، الحلول والتجاوز، الأمانة والخيانة، الرجعية والتقدمية، الحداثة وما بعد الحداثة، المعيارية والوصفية، الموضوعية والذاتية، المنهج واللامنهج، الذاتية والذاتوية، الذاتية والبينذاتية، الذاتوية والتذاوتية، العقلانية واللاعقلانية، الصواب والخطأ، الصدق والكذب، الحق والباطل، الإطمئنان والإغتراب، الأمان والقلق، الحياة والموت، الظاهرة والحقيقة، الكشف والحجب، الإنكشاف والإحتجاب، العلم والجهل، و... الخ.

القاسم المشترك الأكبر بين قائمة المفردات الطويلة هذه يتمثل في الكشف عن الحقيقة، ومعرفة الواقع، والطريق إليها، وهنا تبرز أسئلة عن الكشف بواسطة الهرمنيوطقيا منها:

السؤال الأول: هل هو كشف كما في المنهج التجريبي والوضعي، أو إنكشاف كما في المعرفة الصوفية والإشراقية؟

مارتن هايدغر (وهو من مؤسسي الفلسفة الوجودية، ونقّاد الحداثة، ومؤسس الهرمنيوطقيا الجديدة): يُعرِّف الحقيقة بأنها:

(حرية، وإنكشاف).

للوقوف على جذور تعريفة نذكر بأن هناك عدة نزعات في الفلسفة فالمعرفة، منها: النزعة العقلية، والنزعة الإرادية، وعلى سبيل المثال فلسفة جون دنس سكوت (1266-1308) م تتصف بالنزعة الإرادية بمعنى أن الإرادة مستقلة عن العقل، وهي أكبر منه تأثيراً. فإرادة الإنسان هي التي توجه الإنسان أكثر من عقله، والإرادة هي الشهوة أوالرغبة. ويضيف: أن إرادة الإنسان هي قبل النفس، والإرادة والحرية هما شيء واحد. إن الإرادة هي التي تشكل كل شيء، وتقود كل شيء، وتحدد كيفية كل شيء.

نضيف هنا مقولتان لهايدغر:

الأولى: (إن العلم لا يفكر).

الثانية: (العقل هو العدو اللدود للفكرة).

السؤال الثاني: هل التعرف على الحقيقة يأتي من التفكير فالفكر لوحده كما يزعم الفلاسفة التقليديون والمثاليون، أمْ من التجريب؟

فالمادة لوحدها كما يزعم التجريبون والوضعيون والفلاسفة الماديون والأداتيون، أمْ أنه ذاتي يأتي من التجربة الذاتية والمعاناة الداخلية أو التجربة الباطنية... من تجربة الإنسان (ذلك الموجود الفردي المشخص المتعين - الدازاين "Da- Sein"-) في علاقته بالوجود التي ارتبطت منذ القدم بظاهرة الظهور والإنكشاف! كما يزعم الفيلسوف الألماني "مارتين هايدغر" (1889 - 1976) م مؤلِف كتابي: "الوجود والزمان" نشر عام (1927) م، "ما الذي يُسَمَّى فكراً" نشر عام (1954) م، وأمثاله كالبولندي "رومان أنغاردن" (1893-1970) م مؤلِف كتابي: "العمل الأدبي الفني" نشر عام (1931) م باللغة الألمانية، وكان له تأثير كبير على النقد الأدبي الحديث ونظرية إستجابة القارئ، و"إختلاف الآراء حول وجود العالم"، وكالفيلسوف الفرنسي "موريس ميرلوبونتي" (1908 ـ 1961) م صاحب كتاب "ظاهريات الإدراك" نشر عام (1945) م.

طبعاً لا تطابق بين الثلاثة لكن يجمعهم الإعتماد على الحدس (للتعرف على الحقيقة)، والتطبيق الأداتي الإنتقائي لمشروع الفيلسوف الألماني "إدموند هوسرل" (1859 - 1938) م في الفينومينولوجيا (ظواهر الوعي أو الإدراك) الذي لم يكتمل بسبب انسدادات المشروع، ونهايات الجزء الثاني المعروفة من المشروع، ومن ثم مرض الأخير فموته قبل تحرير الجزء الثالث والأهم من المشروع، ذلك إضافة إلى أن كتاب الوجود والزمان (1927) م لهايدغر ما هو إلا نقض للمنطلقات الأساسية للفينومينولوجيا الهوسرلية.

لذلك يجب التمييز فعدم تنسيب النسبية الجذرية (النسبوية أو النسبية المطلقة) لهايدغر وأمثاله إلى الفينومينولوجيا الهوسرلية، أو إلى هوسرل، كما يجب التمييز بين الفلسفة الوجودية الحديثة لهايدغر وأمثاله والمباحث الفلسفية للوجود لأن ذلك الخلط يقود إلى التناقض فالإبتعاد عن الأمانة والموضوعية لأن مشروع "الوجود والزمان"، وبالتالي الهرمنيوطقيا الجديدة مع هايدغر قامت على أنقاض: الفينومينولوجيا الهوسرلية من ناحية، وتاريخ الأنطولوجيا من ناحية ثانية، والمفارقة الكبيرة أن هايدغر أنطلق في مؤلفه الأصلي ("الوجود والزمان" عام 1927) إلى نقض الميتافيزيقيا جملة وتفصيلاً لكن الإنسداد دفعه إلى التوسل بالميتافيزيقيا لنقض الميتافيزيقيا، وبذلك فهو حاول الهرب من الميتافيزيقيا فوقعَ في الميتافيزيقيا، ولعل ذلك يعلل عزوف هايدغر عن نشر الفصل الثالث من الجزء الأول من مؤلفه المذكور آنفاً - أوربما أحرقه كما يزعم - ليرجع هايدغر إلى حيث توقفَ بعد عقدين من الزمان حيث يكتب في رسالته إلى جان بوفريه:

(إن هذا الجزء من "الوجود والزمان" لم ينشر لأن الفكر لم يصل إلى اختبار هذا المنعطف بشكل كاف، ولم يدفع به إلى أقصى حد بواسطة اللغة الميتافيزيقية)!.

ومن هذه الناحية فإن جاك دريدا سار على نفس الطريق، وهو يعترف بذلك عندما يحاول التبرير في قوله:

(لا سبيل إلى الإستغناء عن الميتافيزيقيا لنقض الميتافيزيقيا وأنه ليس بحوزتنا أية لغة ولا أية منظومة تركيبية ومعجمية من شأنها أن تكون غريبة عن هذا التاريخ)!.

إذن، وجواباً على السؤال الثاني يقول هايدغر (مؤسِس الهرمنيوطقيا الجديدة) بأن المعرفة ذاتية تأتي من التجربة الذاتية والمعاناة الداخلية أو التجربة الباطنية... الخ.

وعلى ما تقدمَ فمراد مارتن هايدغر من الحرية في تعريفه الحقيقة: (حرية، وإنكشاف) يمكن بيانه كالآتي:

إن الانفتاح المتبادل - المشار إليه - هو الذي يؤسس إنفتاح المجال المنير الذي يتيح للإنسان إنكشاف الموجود فرؤيته من حيث هو كذلك. هايدغر لا ينظر للحرية على أنها عملية اختيار المواقف والأفعال، في سعي مستمر لتحقيق الذات بوصفها شروع نحو المستقبل، بل على - أي الحرية - أنها انفتاح على حقيقة الوجود، وتعرض لإنارته، وفي هذا يختلف هايدغر مع الفلاسفة الوجوديين، كما يختلف مع موقفه السابق أيضا، ومن ناحية أخرى أنها محاولة لإدراك التجربة الأصيلة، تجربة الإنسان في علاقته بالوجود التي ارتبطت منذ القدم بظاهرة الظهور والانكشاف، والبحث عن الحدث الذي كان سبباً في بروز مصطلح الأليتيا بمعنى الكشف واللاتحجب.

السؤال الثالث: هل تضمن الهرمنيوطقيا الجديدة معرفة يقينية؟

الفلسفة التقليدية (المثالية والوضعية)، والحديثة، بما في ذلك الفلسفة الوجودية لا تضمن معرفة يقينية غاية ما في الأمر أن الأخيرة ألغت المطابقة في تعريف الحقيقة فابتعدت أكثر فأكثر من اليقين التنزيلي المعروف باليقين حيث رفضت المنطق الإرتكازي من جهة، والمنطق الصوري من جة أخرى لإشكالايته المعروفة، وتمسكت بالحدس الدازايني الذاتي، والذي سنسميه بالحدس الهرمنيوطقي تمييزاً عن كل من الحدس الفينومينولوجي، والبرجسوني، والتكويني.

وعليه يمكن أن نصف المعرفة التي تنتجها الهرمنيوطقيا الجديدة بالوثوقية المتدنية جداً فهي أقرب إلى التصورات، التأملات، التخيلات، ووجهات النظر، ويمكن أن تكون أقرب إلى الأوهام أوالنزوات أوالأهواء، بل يمكن أن تتحول بعد تحطيمها للعقلانية إلى ماكنة لإنتاج الأوهام والخرافات لتزييف الواقع وتضليل الإنسان فتطويعه لتكريس الإستبداد والإستعمار والشمولية وتبرير الحروب والصراعات وما نحو ذلك مما يخالف تماماً الشعارات التي رفعها أعلام: الهرمنيوطقيا الجديدة، الفلسفة الوجودية، ونقد الحداثة (أو نقد التقنية، أونقد عصر التنوير) مثل شعار تحسين أوتجويد الواقع المعيش التي رفعته الهرمنيوطقيا الجديدة، وشعار تجويد الحياة وإعادة الإعتبار الكلي للإنسان وحريته التي رفعته الفلسفة الوجودية، والتحرير من الأيديولوجية الأحادية الإختزالية التشييئية المبطنة للحداثة لنقَّاد الحداثة فمؤسسي ما بعد الحداثة.

من الإجابات المتقدمة يمكن القول بأن الحقيقة في الهرمنيوطقيا الجديدة مع هايدغر باتت ميتافيزيقية تماماً، ولا تتحصل بالكشف بل تتحصل بالإنكشاف، وبمقدار الإنفتاح المتبادل بين الوجود والإنسان (ذلك الموجود الفردي المشخص المتعين)، وهي ليست بموضوعية، كما أنها ليست بذاتية، بل ذاتوية، وبذلك فهي ليست بنسبية بل نسبوية، ومن ذلك يمكن معرفة القيمة المتدنية للحقيقة في ظل الهرمنيوطقيا الجديدة، ودور الأخيرة في تحويل كوكبنا إلى عالم لا متناه من الحقائق النسبية، والشك الجذري (المطلق) السلبي، فالقذف بكل شيء في التغيير الصدفي، والصيرورة الجذرية غير الغائية، ودون قانون (لوغوس) أو مرجِع، أو منطق للتغيير أو الصيرورة لأن هايدغر لم يتأول في فهم الحقيقة فتعريفها بل فعلَ ذلك أيضاً في تناوله لمفهوم "الأليتيا"، و"اللوغوس" Logos)) حيث أدعى أن اللوغوس عند فلاسفة اليونان الأوائل (ما قبل أفلاطون وأرسطو حيث النقولات والترجمات مختلفة أكثر، والتوثيق المطلوب غير متاح) كان يعني إتاحة رؤية الموجود الذي ينقل من خلال القول من التحجب إلى اللاتحجب ومن الخفاء إلى الظهور، أي أن القول هو في صميمه إظهار، وكشف للشيء نفسه أو الموجود.

بل فعلَ هايدغر الشئ نفسه مع الكثير من المفردات، وأخترع حشد كبير من المصطلحات الطلاسمية المعقدة كالدازاين - الذي تقدم ذكره -، واستخدم في كتابه "الوجود والزمان 1927 " عدد كبير من المفاهيم الغارقة في التصورات الميتافيزيقية التي كان يجتهد في تفكيكها، وذلك مثل مفاهيم: "الإضاءة"، "الأفق"، "الأساس"، "الأصل"، "الحرية"، "الماهية"، وما نحو ذلك، وكلها تصورات ميتافيزيقية بحتة أستعملها هايدغر لتقويض الميتافيزيقا!.

هل من جديد في فلسفة هايدغر مؤسس الهرمنيوطقيا الجديدة؟

يُحكى أن هيراقليطس الإفسوسي (535 ـ 475) ق.م المعروف بالفيلسوف الشذري الغامض الملغز الكئيب كان أيضاً يقول بالصيرورة المطلقة بمعنى أن كل شيء يتغير، والتغير هو سمة الحياة الأصلية، وهو سر ديمومتها.

لذلك بعض منْ أخذ بتلك الآراء وصلَ إلى حد رفض الكلام، والإكتفاء بالإشارة مثلما فعلَ اقراطيلوس، ومن هنا يمكن تتبع جذور تأويلات هايدغر، ودريدا، وأمثالهما، ومواقفهم من اللغة والكلام لأن بهما يتم التعبير عن الحقيقة، وأن أصل اللغة منطلق كل تنظير.

في الحكاية أيضاً أن منتقدي هيراقليطس قالوا:

لما كان كل شيء يتغير فإنك إذا اقترضت من شخص مالاً فلا تعيده له لأن الحياة متغيرة، واذا دُعيت الى حفلة عشاء فلا تحضر تلك الحفلة لأن الذي دعاك قد تبدل رأيه، ولم يعُدّ لك وجبتكَ، وهكذا... الخ.

لذلك - وبحسب الحكاية - تراجعَ هيراقليطس عن فرضية الصيرورة المطلقة إلى الصيرورة النسبية... الصيرورة في دائرة ثابتة، أي التراجع عن النسبية المطلقة إلى النسبية ليقول:

(على الرغم من التغير والتبدل في هذا العالم إلا أن هناك شيء ثابت يقف وراء التغير، وقد ترددَ في تسمية هذا الثابت، مرة سماه بالكلمة، وأخرى بالدهر، وثالثة بالحكمة أو باللوغوس، ورابعة سماه النار، فالحياة مثل النار تحرق كل شيء، ويتحوَّل العالم إلى رماد، ومن ثم تبدأ دورة الحياة من جديد).

وقد عرفت كيف أن هايدغر كيف قام بتقويض فتفكيك اللوغوس عبر تأويل إعتباطي ليقذف بالحقيقة في ظلمات الصيرورة المطلقة، فالنسبية المطلقة، والشك المطلق السلبي، فالعدمية، الإغتراب، القلق، التشاؤوم، الصراع، التعالي على الآخر، عدم التواصل فالإنعزال، وما نحو ذلك من مآسي وإنسدادات تتكفي الفلسفة الوجودية بتبريرها بالزعم أن ذلك قدر الإنسان!.

تسمية هيراقليطس للثابت بالنار، وزعمه: "أن الحياة مثل النار تحرق كل شيء، ويتحوَّل العالم إلى رماد، ومن ثم تبدأ دورة الحياة من جديد يمكن أن يهدينا إلى الجذور الأسطورية لمغالطات الفوضى الخلاقة التضليلية بضم ما تنقله الأساطير عن العَنْقَاء أو الفينيق (الفينكس) الموصوف بطائر خيالي وردَ ذكره في قصص مغامرات السندباد، وقصص ألف ليلة وليلة، وكذلك في الأساطير العربية القديمة.

وتقول الأساطير القديمة إن العنقاء عندما تقترب ساعة موته يعمد إلى إقامة عشّه من أغصان أشجار التوابل، ومن ثم يضرم في العش النار التي يحترق هو في لهيبها. وبعد مرور ثلاثة أيام على عملية الإنتحار تلك ينهض من بين الرماد طائر عنقاء جديد!.

هذا الخطاب التضليلي الأسطوري نتيجة طبيعية متوقعة لتحطيم اللوغوس، المنطق، اللغة بواسطة هايدغر وأمثاله لأن ما يقابل اللوغوس هو الميثوس أي الخطاب الأسطوري، وآليات تفسيره للعالم.

لذلك يجب التوقف طويلاً أمام دعوى ان الفلسفة التفكيكية لجاك دريدا (المحسوب على اليسار الفرنسي) التي أنتقدت واستكملت التقويض الهايدغري للميتافيزيقا والأنطولوجيا الغربية ذات الظاهر العقلاني والمنطقي تناقض فكر اليمين والرأسمال الغربي، و جاءت بغية الإطاحة بالطابوهات الموروثة، ونقد المقولات المركزية السائدة في الثقافة الغربية، وفضح الأوهام الإيديولوجية، ولاسيما إيديولوجية الدولة المهيمنة، والمؤسسات الحاكمة، وما نحو ذلك من شعارات، ودليلنا لذلك دفاع التفكيكية عن الرأسمالية والليبرالية عموماً والأمريكية خصوصاً مع جماعة "تيل كيل"، وجماعة "ييل" الأمريكية في دائرة ما بعد الحداثة.

ويعود ذلك إلى أن الفلسفة التفكيكية الدريدية فلسفة إنفعالية عدمية تفتقد الدليل، وذات لغة أيقونية تعنى بالشك (في كل شيء) للشك، وبالهدم للهدم، وبأي طريق، وبأي ثمن، ودون تقديم بديل لما تهدمه خلافاً للتفكيكية البنيوية والسيميائية حيث يمارس البنيوي والسيميائي التفكيك أيضاً لكن يتبع ذلك بالتركيب على طريقته التأويلية.

لذلك فأن الفلسفة الوجودية، والهرمنيوطقيا الجديدة، والتفكيكية مسؤولة عن تضييع الحقيقة، وتضعيف المعرفة، وتجهيل الإنسان، وإعداد جيل متوتر، قلق، بلا نظام، بلا إنسجام، بلا هوية، بلا مواطنة، بلا هدف، جيل ثوري رافض عدمي سلبي تشاؤومي يعلن عدميته، بل ويدعو إلى العنف للعنف جهارا كلما سنحت الفرصة لذلك.

طبعاً الهرمنيوطقيا وهي متشعبة متعارضة متكاثرة غامضة لأسباب عديدة. ذلك القدم، التشعب، والغموض يجعلها بعيدة عن التبسيط، التحديد، وعصية على التعريف المحكم.

يتصور البعض أن الهرمنيوطقيا هي التأويل، وتحديداً التأويل الخاص بتأويل النصوص، والبحوث المرتبطة بالمعنى الظاهري والمعنى التأويلي، وبالمعنى الحرفي والمعنى الرمزي للنصوص المختلفة، وفي ذلك إختزال لمفهوم الجديد للهرمينيوطيقا، وتهوين لتحدياتها.

لأن الهرمنيوطقيا باتت منذ وقت ليس بالقصير تشكل فهم معين فنظرة معينة إلى الوجود... إلى الحياة... إلى الأشياء كلها.

خلال القرن الماضي، وفي خضم الصراع بين مدارس النقد الأدبي والفني بأميركا كانت هناك مدرسة سميت بجماعة "النقد الجديد"، هذه الجماعة تبنت رسالة في العشرينات، تمثلت في الدفاع عن الجنوب الأميركي ضد الشمال الأميركي معللة ذلك بأن الأخير يريد تدمير نمط الحياة الجنوبية ونوعيتها، وثقافتها كي يحل محلها نمط الحياة الأمريكية بما ينطوي عليه من رأسمالية، وثقافة صناعية، و... الخ.

كانت الجماعة ترى أن ثقافة الجنوب إنسانية أخلاقية تحترم التراث، وتهيئ المناخ الملائم للخيال والشعر والدين، وفي الجنوب يمكن إيجاد العلاقة الصحيحة بين الخالق والمخلوق، بين الإنسان والطبيعة، بين المجتمع والفرد. وعلى الرؤية المتقدمة نشأت وتطورت نظرياتها في النقد الأدبي، والفني، فنجحت في مجالات، وفشلت في مجالات أخرى حتى نالها الإحتواء.

وكانت الجماعة تعبر عن عدوها في بياناتها: الماركسيون، والتجار الجدد، وممثلو الحياة الأميركية الليبراليون، والإنطباعيون، والذواقة العاطفيون.

ما علاقة النقد الأدبي والفني بكل ذلك؟

اليوم: الشمال توسعَ حاله حال الجنوب، وكما توسعَت الهرمنيوطقيا، وأمست عالمية، والسؤال:

منْ يُمثل منْ اليوم؟

هل الشمال مازال يُمثل الشمالَ؟

هل الهرمنيوطقيا تُمثل الشمالين؟

أم أن الهرمنيوطقيا بريئة، والمشكلة في المعرفة الناقصة، والأداتية.

هل الهرمنيوطقيا هي البيت الجديد الذي لجأت إليه الفلسفة؟

بعد أن أصبحت لا فلسفية لتسكنه بعد الهزيمة التي لحقت بها قبل، وخلال عصر النهضة في العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، وتغول النزعة الوضعية (التجريبية)، وجنوحها نحو الكليانية الشمولية الصارمة في مناهج البحث.

بداية للتعريف بالهرمنيوطقيا نقول بأنها:

"طريق لفهم أو تفهم الأشياء".

الأشياء جمع شيء، ولا يوجد ما هو أكثر عمومية من لفظة "شيء"، فالأشياء في التعريف يشمل: المقطع المعطى من النصوص الشفهية والتحريرية بأنواعها، الحياة، الكون، الوجود، الإدراك، الوعي، الحقيقة، المعرفة، والفهم، و... الخ، وبما يشمل فهم العدم، وفهم الفهم نفسه، أي فهم عملية الفهم، ويتناول وجود الفهم أساساً.

هل هناك من طريق لفهم أوتفهم كل تلك الأشياء؟

المختلفة المتباينة المترامية الأطراف في عصر الإنفجار المعرفي، والتخصص الدقيق، أم أنها العودة إلى الكليانية الفلسفية، إذا كان هناك من طريق فلا بد، وأن يكون فوق معرفي، أو فوق علمي Suprascientific))!.

إذن الباحث الهرمنيوطقي (الذات subject) يحاول أن يُفسِّر الشيء بالفهم، أو التفهم لمعرفة ذلك الشيء فالكشف عن حقيقته، ويترتب على بحثه نتائج، أو مخرجات تسمى بالمعرفة، وتحديداً نسميها بـ "المعرفة الهرمنيوطقية".

لماذا الهرمنيوطقي في الكشف يريد أن يُفسِّر الأشياء بواسطة فهمها، أو تفهمها؟

أو بعبارة أخرى:

لماذا الهرمنيوطقي في الكشف يريد أن يُفسِّر الأشياء تفسيراً هرمنيوطقياً؟

ولماذا لا يريد أن يُفسِّر الأشياء تفسيراً علمياً؟

ما هو وجه الإضطرار في ذلك؟

لأن ترك التفسير العلمي، والتوجه نحو التفسير الهرمنيوطقي يعني ترك القطع، أو اليقين، أو الوضوح، أو الوثوقية العالية والتوجه نحو الظن، أو الشك، أو الغموض، أو الوثوقية المتدنية.

فيما يرتبط بالسؤال الأخير، ولكي لا ينتقل الذهن إلى خصوص تفسير النصوص نقول: ان المقصود بـ "التفسير" في السؤال هو المعنى السائد في المنهج التجريبي، والذي يُستعمل في العلوم الطبيعية (كالفيزياء والكيمياء) عند تتناول الظواهر، أو الوقائع الطبيعية لإكتشاف الحقيقة فالقانون العلمي لتلك الظواهر، أو الوقائع.

لو تبنى الهرمنيوطقي التفسير العلمي المذكور بدلاً من الفهم، أو التفهم لمنحَ الهرمنيوطقيا العلمية المطلوبة، والتي من أجلها هجرَ لإكتشاف الحقيقة التفسيرَ الميتافيزيقي والمنهج التأملي المعمول به في الفلسفة، وذلك لأن الفهم أو التفهم يعتمد على الحدس، الإستبطان، التأمل، واستفاضة التأمل، بإشراك بدائـل مثل كالتأويل، التفكيك، وما نحو ذلك مما هو بعيد عن اليقين العلمي.

ويصح ماتقدم إذا كان ذلك متاحاً عملياً، وإذا كان الهدف هو التوصل إلى حقيقة الأشياء (بالكشف، لا الإنكشاف)، ولم يكن الهدف صنع حقيقة تلك الأشياء بعد إختراع مفاهيم للأشياء.

أضفْ إلى ذلك بأن قد حققت العلوم الطبيعية نتائج جيدة باعتمادها على منهج التفسير التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والإستقراء والإختبار، كما أنه يسمح بتكميم النتائج وتعميمها.

إذن نرجع إلى تعريفنا للهرمنيوطقيا لتوضيحه كالآتي:

الهرمنيوطقيا طريق للكشف عن حقيقة الأشياء بواسطة تفسيرها بالإجتهاد الذي يقوم على الحدس، الإستبطان، التأويل، وما نحو ذلك، لإنحدار ما نُعبِّر عنه في اللغة العربية بالفهم، أو التفهم عن الفعل verstehen" " في اللغة الألمانية (مهد الهرمنيوطقيا الجديدة)، وعن الفعل "interpret" في اللغة الإنجليزية، وللمناقشات الطويلة بين أتباع المنهج التجريبي أو الوضعي، ومنْ عارض تسريته فتطبيقه للكشف عن الحقيقة في الدراسات والبحوث والتفسيرات الخاصة بمجال الإنسانيات كالنفس، الإجتماع، التاريخ، وما شابه ذلك، ومِن أولئك المعارضين على سبيل المثال: جورج زيميل، كارل ياسبرز، ماكس فيبر، وفلهلم ديلتاي، والأخير من كبار أعلام الهرمنيوطقيا، وتفصيل ذلك آتٍ في محله إن شاء الله.

منذ الثورة على الفلسفة التقليدية في الغرب انفصلت العلومُ عنها، ونبذت منهجها، وأعني المنهج التأملي فاختارت العلومُ الطبيعية المنهج التجريبي أو الوضعي بينما ذهبت العلوم الإنسانية كالنفس والإجتماع (كانت تسمى بعلوم الروح) إلى الهرمنيوطقيا التقليدية لإكتشاف الحقيقة، والحقائق في النفس والإجتماع لأن المنهج التجريبي (الوضعي) لايلائمها لما سيأتي، وتواصل الجهد لتطوير الهرمنيوطقيا التقليدية كي تصبح عامة، وعلمية، وتمنح وسام العلمية للعلوم الإنسانية، وكما هو الحال بالنسبة للفيزياء، والكيمياء.

وذلك يتجلى في عبارات أعلام الهرمنيوطقيا منها مقولة فيلهام دلتاي (1833-1911) م الشهيرة: « إننا لا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح ».

بمعنى انه إذا كان الموضوع في العلوم الطبيعية مادياً ومعزولاً عن الذات، فإن الموضوع في العلوم الإنسانية مرتبط بالذات، وجزء لا يتجزأ منها. ولهذا يبدو أنه لا يمكن تفسير الظواهر النفسية، وإجراء التجربة عليها كما هو الحال في المادة بمجال الطبيعيات، بل لا بد من فهمها، أو تفهمها عن طريق منهج الفهم الذي يعتمد الحدس، الاستبطان، التأويل، و… الخ.

ذهب "دلتاي" إلى أن الهرمنوطيقا علم يتولى تقديم مناهج للعلوم الإنسانية. فالغاية القصوى للجهد الهرمنوطيقي عنده هو الرفع من قيمة ومكانة العلوم الإنسانية، ومساواتها بالعلوم التجريبية. وكأنه يريدها من سنخ "الميتدولوجيا"، وعلم المعرفة، ويريدها لخدمة العلوم الإنسانية بشكل عام.

قبل دلتاي كانت الهرمنيوطيقا الرومانسية التي تبلورت مع شلاير ماخر(1768ـ 1834) م، وقد قال عنه دلتاي بـ"كانط الهرمنيوطيقا".

والظاهر ان العودة إلى الرومانسية، وإنتشارها يعكس رفضاً للنزعة العلمانوية المادية التي كانت تجنح إلى تشيء، ومكننة الإنسان والمجتمع في الحياة، وقبل ذلك في دراسته لهما في مجال البحوث الإنسانية، أي في مجال ما يُعرف اليوم بعلم النفس، والإجتماع، و...الخ، وذلك بتطبيق المنهج التجريبي، ومكننتهما.

لما تقدمَ، وعلى أساس تعريف الهرمنيوطقيا، والمتمركز حول "الفهم"، أو منهج الفهم الأولى تسمية ما يسمى بعلم الإجتماع، وعلم النفس بـ "علم الإجتماع التفهمي"، و"علم النفس التفهمي"، بل الأقرب للصواب - بعد ثبوت العلمية - هو "علم الإجتماع الهرمنيوطقي"، و"علم النفس الهرمنيوطقي"، "علم الإعلام الهرمنيوطقي "، و... الخ.

استمرت الجهود المذكورة لدلتاي، وزملائه، وتلامذته مع السعي النظري لتأمين الموضوعية في الكشف لكن تلك الجهود توقفت مع هايدغر حيث عاد الأخير بالهرمنيوطقيا العامة أو الكلاسيكية إلى الفلسفة الذاتية... إلى فلسفة الوجود، وهكذا تبلورت الهرمنيوطقيا الفلسفية، أو الهرمنيوطقيا الجديدة على يد الفيلسوف الألماني "مارتين هايدغر" (1889 - 1976) م

الذي يصرح في كتابه الوجود والزمن (Being and Time) الصادر عام (1949) م على أن التأويل لا يجب أن يتجه نحو الكشف عن المعرفة الموضوعية، فهذه المعرفة الموضوعية لن يكون لها من قيمة، إلا إذا كانت معرفة مفيدة (أوذات معنى لوجودنا).

وركزت الهرمنوطيقا الفلسفية مع "هايدغر" و"غادامر" على وصف ماهية الفهم. وخلافاً للهرمنوطيقات السابقة، لا تنحصر الهرمنيوطقيا الجديدة بفكرة فهم النص، ولا تقيّد نفسها في نطاق فهم العلوم الإنسانية، إنما ترمي إلى مطلق الفهم، وتروم تحليل عملية الفهم كحادثة، والإفصاح عن شروط حصول الفهم.

وهكذا مزجت الهرمنيوطيقا الفلسفية الحديثة مع أمثال هيدغر، وغادامير الفن بالأدب، والعلوم الإنسانية، والنصوص بأنواعها (الأسطورية، التشريعية، الحقوقية، العقدية، التاريخية، الدينية، البشرية، و... الخ) مع الفلسفة، وتداخل كل شيء مع كل شيء كما تداخلت مع مجموعة من المجالات الأخرى كنظرية التلقي، الفنيوميولوجيا، و الوجودية السارترية، ويرى البعض أن الوجودية السارترية (التي تربعت الوجودية على عرش الفكر طيلة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي) هي بنت الفنومينولوجيا (الفلسفة الظاهراتية) الهوسيرلية والهيدغرية. والوجودية تربعت على عرش الفكر طيلة الأربعينات والخمسينات قبل أن تسقط بعد الحركة الطلابية بفرنسا في مايو عام 1968 م، والتي أطاحت بالبنيوية ليبدأ عصر "ما بعد البنيوية"، وفرنسا مهد هذه التصورات، وربما قسم من ذلك يعود إلى ما أتصوره عن فرنسا، ويتلخص في أن الفكر المُسيَّس بفرنسا - في أكثره - يساري الهوى يميني المذهب، يقول "مارك ليلا" عن باريس عاصمة الفلسفة المفوهة بعد الحرب العالمية الثانية: «كانت السياسة تملى، والفلسفة تكتب»!.

وذهبت مع هيدغر، وغادامير إلى ان الهرمنوطيقا ليس من شأنها تقديم منهج، إنما رسالتها التأمل الفلسفي في أسس أنطولوجيا الفهم، واكتشاف شروط حصول الفهم، وظروفه. فهي تريد الإرتقاء بالهرمنوطيقا من مستوى المنهجية والأبستيمولوجيا، إلى درجة الفلسفة والأنطولوجيا.

ماذا يعني ذلك؟

يعني رفض جذري لموقف ما يسمى بعصر التنوير في الفهم، والذي كان نظرياً يجمع بين الفهم التفسيري، والفهم التأويلي، ولكل منهما مجاله، بعد جعل الأول هو القاعدة، والثاني هو الإستثناء لكن مع الهرمنيوطيقا الفلسفية مع أمثال هيدغر، وغادامير أصبح الفهم كله تأويل... وأصبح التأويل كليانياً فلسفياً بعد وصم مقولات أمثال "كرستيان وولف"، وهو من كبار فلاسفة التنوير للقرن الثامن عشر الميلادي بالمعيارية، وما نحو ذلك، ومن مؤلفات الأخير كتابه الأوسع إنتشاراً حول المنطق، ويتضمن عدداً من الفصول عالج فيها مشاكل التأويل، من بينها (حول قراءة كتب التاريخ والعقيدة)، و (حول تفسير الكتاب المقدس).

قبل "وولف" ظهرت عام (1689) م رسالة في علم التفسير للقانوني الالماني "جوهانيس فون فيلد" يضع مباديء تفسيرية يمكن ان تكون صادقة لكل اصناف النص، سواء كانت ادبية، او قانونية. بالنسبة الى "فون فيلد" فان القول (ان تفسر) يعني: أن تشرح لامرىء ما مايثبت عجزه عن فهمه.

يؤكد "وولف" على قصد المؤلف، ويتناول الإجابة في كتابه المذكور حول المنطق على أسئلة مثل:

- كيف ينبغي أن نقرأ؟

- كيف ينبغي أن نكتب؟

- هل اللغة عاجزة عن نقل قصد المؤلف؟

اذا ما استخدمت بشكل سليم، فيجيب:

إن الكلمات والجمل - اذا ما استخدمت بشكل سليم - يمكنها دائماً أن تحمل المعنى الذي يقصده المؤلف. إذا ما ظهر النص مبهماً أوغامضاً فهذا لأن الكاتب لم ينجح في الاستعمال السليم للغة، اوالشرح الصحيح للمصطلحات، او في البناء المناسب لبراهينه.

لكن الهرمنوطيقة الفلسفية الحديثة العامة أو التفكيكية انقلبت على ذلك فرفضت الحاجة الى المنهج، وأدعت موت المؤلف بعد كتابته لمنتجه، وإنه لا يوجد شيء خارج ذلك كتحديد وضبط عنوان بحثه، الشرح الصحيح لمصطلحاته، البناء المناسب لبراهينه، وما نحو ذلك كالقرائن الخاصة المتصلة، والمنفصلة، والقرائن العامة (المحكم والمتشابه، الناسخ والمنسوخ، و... الخ)، وأن لا مدخلية لقصد المؤلف، كما أدعت أن اللغة عاجزة عن نقل المعنى والفكر والمعرفة، وإن الأصل هو سوء الفهم، واختارت هي ماوراء الغموض في التعبير، كما زعمت أن اللغة هي التي هي التي تستخدم الإنسان، وكأننا أمام الجبرية في الوقت الذي نرى رؤية "وولف" لإستخدام اللغة أقرب للبديهة، كما هي تتوافق مع مقولة: "لا جبر، ولا تفويض (أي لا إختيار مطلق)، ولكن أمر بين الأمرين".

اللغة وسيلة للتعبير، وإيصال المعرفة عبر الكلام أوالكتابة، وللغات منطق عام، كما لكل لغة منطق، وعليه فالسؤال:

هل يمكن فهم الكلام أو الكتابة تلك؟

بالرجوع إلى المنطق اللغوي كالمنطق النحوي مثلاً، أم بالرجوع إلى المنطق الصوري، أم بالإعتماد على المنطق الرياضي المحض، أم بالإلتزام بالمنطق الوضعي (التجريبي)، أم بالرجوع إلى اللامنطق، أم لا هذا، ولا ذاك بحسب جاك دريدا عندما يُسئل عن المعنى بعد قراءة النص بواسطة نظريته "التأويل التفكيكي"، ويذكرنا ذلك بـ "الإرجاء"، و"المرجئة"، و"اللاأدرية "، ومانحو ذلك.

تقدمَ القول بأن الفهم في عصر التنوير كان نظرياً يجمع بين الفهم التفسيري، والفهم التأويلي، ولكل منهما مجاله، بعد جعل الأول هو القاعدة، والثاني هو الإستثناء لكن بالرغم من ذلك كانت هناك مشكلات،، وإنتقادات في الوقت الذي كان فلاسفة التنوير يدعون بأن ذلك التأويل مثله مثل المنطق ذاته، ويقوم على قواعد ومبادئ معينة قابلة للتطبيق بشكل عام، والتي هي صادقة لجميع حقول المعرفة التي ترتكن على التفسير.

إذن كانت هناك قواعد ومبادىء، وإنْ لم يكن هناك منطق خاص لكن ذلك أستبدل باللامنطق في عصر محاولات البحث عن اللغة المثالية (مثل محاولة لودفيج فتجنشتين 1889-1951) م كبديل عن اللغة العادية (المتعارفة المستخدمة في حياتنا اليومية)، وعصر صياغة العلوم التجريبية لنفسها المنطق الوضعي على يد "رودلف كارناب" (1891-1975) م.

ويُسمي البعض اللغة المثالية باللغة الرياضية، أو الفيزيائية، أو المنطقية، أو الذرية، أو الكونية، أو العلمية، والمهم ان جهود "فتجنشتين" الطويلة إنتهت إلى تراجعه عن المشروع لإستحالته عملياً (ولصالح اللغة العادية على تفصيل ليس محله هنا)، وأنتهى بإستنتاجات منها ما يرتبط بما يسميه بـ (ألعاب اللغة) ـ، والتي تنفي إدعاءت اللعب الحر في اللغة لبعض أعلام الهرمنيوطقيا مشبهاً ألعاب اللغة بالألعاب الفكرية، والرياضية مثل كرة القدم منبهاً أنه حتى في الألعاب المذكورة هناك قواعد ملزمة، وقواعد إختيارية، ولا بد من الإلتزام بالقواعد المشتركة للألعاب، والقواعد الخاصة بكل لعبة، وذلك كما فهمت من كلمات "فتجنشتين".

وهكذا أصبحت الهرمنيوطقيا فلسفية أكثر من الفلسفة نفسها، وإنتاجها الفلسفي أكثر من الفلسفة ذاتها، فانتجت فلسفة فلسفة "مابعد الحداثة"، "النسبية الجذرية"، وكأن مهمة الهرمنيوطقيا الفلسفية تحولت من الكشف عن الحقيقة بواسطة منهج الفهم إلى إختراع الحقيقة في كل الأشياء والمجالات، ومنها النص حيث يصرح البعض بأن قراءة النص لفهمه ليس فهماً لحقيقة النص، وإنما بالأحرى خلق لحقيقة النص!.

وكشفت النسبوية المطلقة عن وجهها أكثر فأكثر مع أطروحات أمثال جاك دريدا ''بعثرة الحقيقة''، وميشال فوكو ''موقعة الحقيقة''، وبول ريكور ''صراع التأويلات''، وغيرهم. وتحولت النسبية النسبية إلى النسبية المطلقة، أو الجذرية، أو النسبوية المطلقة.

وعن التأويل والنسبوية كان الفيلسوف الألماني فريدرخ فيلهيلم نيتشه (1844- 1900) م أيضاً يتصور بأنه لا توجد حقائق، وإنما هي فقط تأويلات. ولذلك يمكن إعتبار نيتشه، وهايدغر من المؤسسين الجدد للشكية الجذرية فالنسبية الجذرية (النسبوية أو النسبية المطلقة) فالعدمية بمعنى الإنسداد المعرفي، وما هو أعم من ذلك.

وهكذا تغيرت وجهة الهرمنيوطقيا من التنقيب عن الحقيقة الموضوعية إلى الحقيقة الذاتية... عن المعرفة الموضوعية إلى المعرفة الذاتية، ولذلك سميت المعرفة المُنتجة بواسطة الهرمنيوطقيا بـ "المعرفة الضعيفة".

وتحولت هواجس المطابقة (مع الحقيقة أو الواقع) إلى هواجس الملائمة... إلى هواجس التبرير... إلى هواجس التسويغ، وكما كانت تعمل في الهرمنيوطقيا القديمة في تأويل ما يسمونه بالنص اللاهوتي فقيل بأن المعرفة الضعيفة وقاية من الإستبداد!، وقوة للبلاد والعباد، للصراع فالتوتر (الذي يترتب على التعدد اللامتناهي، وغير النهائي للحقيقة الآتي من النسبوية المطلقة للمعرفة) لأن القوة لاتأتي إلا من العيش الدائم في أزمة!!، وإنعدام المعنى الأحادي للنص، أوللحقيقة هو السبيل إلى إختلاق الأزمة فالأزمات!!.

يمكنك مراجعة كتابات الفيلسوف الإيطالي "جانّي فاتيمو" وأمثاله عن "الفكر الضعيف"، وأتباعه كالإيراني "داريوش شايغان" وأقرانه، والأخير من تلاميذ "هنري كوربان"، وكوربان من أعلام القرن الماضي في فلسفة الإشراق الإيرانية والتصوف الإسلامي.

هذه هي قصة الهرمنيوطقيا المعاصرة.

إنتقد حكماء الغرب ذلك المسار، وحذروا من مآلاته، فولدت الهرمنيوطقيا النقدية، لكن جهود الإصلاح فشلت فكان السعي إلى بلورة وتكريس بحوث لحماية الحقيقة في المعرفة مثل: بحوث "إدارة المعرفة"، وبحوث "مابعد المعرفة"، "ما وراء المعرفة".

لكن ماذا نحن فاعِلون؟

نعم جهود الإصلاح تلك فشلت، ولذلك نراجع التعريف المتقدم لنقول بأن:

" الهرمنيوطقيا مشروع لفهم الأشياء ".

وبعبارة أدق، وللإبتعاد عن سوء الفهم نراجع التعريف مرة أخرى لنقول:

" الهرمنيوطقيا مشروع - لم يُنجز بعد - لفهم الأشياء ".

هل هناك من أمل؟

نعم، لأن توقف الأمل ممنوع.

لأن البديل متاح تماماً، ويتمثل في تقديم نظرية معرفية تعددية تكاملية تؤصل للعقل، وتضمن اليقين والوضوح المنشود، ولا تقتصر على البحث عن الحقيقة في نطاق المعرفة الحسية المباشرة.

وفي هذا الإطار، والإتجاه سنتناول الهرمنيوطقيا في دراستنا هذه إن شاء الله.

لماذا الهرمنيوطقيا؟

لأن الهرمنيوطقيا تشهد إنتعاش كبير، وإنعاش أكبر، وذلك يعود إلى ميزاتها، تشعباتها، توظيفاتها، مآلاتها من جهة، وإلى ظروف الساحات المحلية، الاقليمية، الدولية، إستشرافات، وطموحات الفاعلين في تلك الساحات من جهة ثانية، وإلى المساءلات التي تعرضت الهرمنيوطقيا لها في الدراسات النقدية من جهة ثالثة.

إن حجم الدراسات النقدية التي تناولت الهرمنيوطقيا كبير أيضاً لكن الكثير منها فردية، آنية، دفاعية، لا تعالج الأسس، ولا تستهدف القاعدة التي تنطلق منها الهرمنيوطقيا وأمثالها من المنتجات الفكرية المتعارضة المتناسلة كمنظومة مترابطة واحدة. وذلك لا يستهدف التقليل من شأن تلك الدراسات، وأهميتها، والحاجة إليها بل يستهدف التذكير بضرورات بلورة وصياغة المرجعية المعرفية، أي نظريتنا في المعرفة لأنها تشكل ضمانة على طريق التمكين من معالجة الأسس، والتعامل الفاعل السريع مع القاعدة التي تنطلق منها الهرمنيوطقيا وأمثالها من المنتجات الفكرية المتكاثرة بسرعة البرق.

إن النظرية المنشودة للمعرفة ستساعد على حضور اللحظة المعرفية العالمية الراهنة، تأصيل المعرفة، زيادة إنتاجنا المعرفي، وتفاعلنا المعرفي إحكاماً، فاعلية، جدوائية، ومردودية، وفي جملة واحدة يمكن لها أن تمهد للتدبير العمومي في المجال المعرفي.

كما يمكن لها أن تمد يد العون لمشاريع الإنتقال إلى إنتاج المعرفة بدلاً من توفيرها، إستهلاكها، تدويرها، إعادة تدويرها.

لأن الهجوم في الكثير من الحالات هو خير وسيلة للدفاع، وان الدفاع لابد أن يكون هجومياً.

وبذلك نكون قد أشرنا إلى وحدات عنوان بحثنا: الإنتعاش، الإنعاش، الإصلاح، وإلى إطار، وإتجاه دراستنا هذه للهرمنيوطقيا، وأعني المساهمة الأولية على طريق بلورة، وصياغة نظرية المعرفة المنشودة علاوة على إهتماننا البالغ بالتبسيط.

وهي غير منفصلة عن الدراسات السابقة ذات العلاقة حيث تحاشينا التكرار لأنها منشورة كاملة، أو كملخصات، ويمكن مراجعتها حيث تعرضنا سابقاً إلى:

- "النسبوية المطلقة"، وتحت عنوان: (النسـبية من "ما بعد الحداثة" إلى "الرجعية العدمية الخلاقة.

- "الصوفية الوضعية"، و"العرفانية الوضعية"، وتحت عنوان: (التصوف والعرفان بين الإنعاش والإنتعاش والإصلاح).

- وإلى الإســتغراب تحت عنوان: الإســتغراب بين الضرورة والترف والتحريف... محاولة لفهم الغـرب.

- إنتاجنا المعرفي بين الجامعات والحوزات.

- ثـقـافـة الـهـدم... الـنـقـابـات الإجتماعية مـثــالاً.

لنرجع إلى موضوع دراستنا هذه:

كما تقدمَ الهرمنيوطقيا طريق للكشف عن حقيقة الأشياء بواسطة تفسيرها بالإجتهاد الذي يقوم على الحدس، الإستبطان، التأويل، وما نحو ذلك، والنتائج التي يتوصل إليها الباحث الهرمنيوطقي (الذات subject) عن الموضوع (object) تٌسمى بالمعرفة، أوتحديداً بـ "المعرفة الهرمنيوطقية".

وهنا تبرز أسئلة منها على سبيل المثال:

- ما هي طبيعة المعرفة التي تكشف عنها الهرمنيوطقيا؟

- ما هي درجة الدقة والعمومية في نتائج الكشف الهرمنيوطقي؟

- هل هي معرفة موضوعية؟

تعبِّر عن الموضوع، أوالشيء على ما هو عليه.

- أم هي معرفة ذاتية؟

تعبِّر عن الذات، فهي أقرب إلى وجهة نظر صاحبها، وذوقه، وفهمه لذلك الشيء، أو الموضوع.

الهرمنيوطقيا الفلسفية الغادامرية - على سبيل المثال - نفت جدوى المنهج للفهم بدعوى أنه لا يقوم على أساس موضوعي، فهو مجرد اعتبارات ذاتية.

كما انتقدت التمكن من الموضوعية في الفهم من جهة أخرى، وبذلك اختارت الذاتية.

إذن الفهم الهرمنيوطقي المذكور ذاتي يرفض الضوابط العقلية، والمنطقية، ولا يٌقدِم ضوابط أخرى مناسبة للتقليل من لا موضوعية الذات، وذلك متاح بالرجوع إلى المنطق الإرتكازي مثلاً.

لماذا التخلي عن الضوابط المنطقية أو العقلية؟

للحديث صلة بإذنه تعالى

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/كانون الأول/2012 - 18/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م