السودان بعد انفصال الجنوب.... خطى تتعثر

 

شبكة النبأ: أسفر مولد دولة جنوب السودان العام الماضي عن أمتين: الجنوب نفسه وسودان جديد أصغر انفصل عنه جنوبه.. ولا تزال أصداء صدمة الحدث تتردد في عاصمة السودان وظهر ذلك جليا في قاعة للمؤتمرات في يوم من أيام منتصف سبتمبر أيلول.

فعلى مدى الأسابيع التي سبقت عقد مؤتمر بث ناشطون يمينيون في ألمانيا على شبكة الانترنت رسوما كاريكاتورية تسخر من النبي محمد كما أثار فيلم أمريكي مسيء للنبي جدلا كبيرا في العالم. واحتشدت في القاعة مجموعة من علماء الدين السودانيين المدعومين من الحكومة للدعوة إلى تنظيم مسيرة سلمية ضد الاساءة.

لكن - وفي علامة على الشقاق بين البراجماتيين والأصوليين داخل حكومة السودان وهي الفجوة التي أججها فقدان الجنوب ونفطه - احتشد أكثر من 200 إسلامي أصولي في القاعة مطالبين برد أعنف.

وصاح ضيف الله حسب رسول وهو داعية أصولي ظل لفترة طويلة نائبا في البرلمان عن الحزب الحاكم رافضا البيان الرسمي للرد على الاساءة للنبي بينما كان عالم الدين صلاح الدين عوض يتلوه على الحضور.

ودوت التكبيرات في ارجاء القاعة ودعا رجل دين آخر إلى تدمير سفارات غربية. وصرخ الشيخ ناصر رضا من حزب التحرير المعارض داعيا إلى نسف سفارة ألمانيا وتسويتها بالأرض ثم السفارة الأمريكية ثم القصر الجمهوري الذي سمح اصلا بوجود هذه السفارات في الخرطوم.

واستطلعت آفاق نجاح أو فشل الدولة الوليدة في جنوب السودان ويمكن طرح السؤال نفسه في السودان الدولة العاجزة التي انفصل عنها الجنوب.

وبعد 16 شهرا من الانفصال يواجه الشمال ورئيسه تحديات خاصة بهم. كان السودان حتى قبل انفصال الجنوب غير مستقر والان فقدت الخرطوم ثلاثة أرباع نفطها فيما يسبب غلاء الاسعار الذي وصل إلى 45 في المئة ألما للسودانيين العاديين. ونظم نشطاء شجعتهم انتفاضتا مصر وليبيا احتجاجات محدودة لكنها منتظمة ضد الحكومة بيد ان قوات الأمن السودانية أجهضتها حتى الان.

الأهم من ذلك أن خسارة الجنوب فاقمت من الانقسامات السياسية في حكومة الرئيس السوداني عمر حسن البشير الذي تولى السلطة في انقلاب عام 1989 في الوقت الذي يكافح فيه زعماء البلاد الذين أقاموا دولة دينية متشددة لارضاء الفصائل المتناحرة. ويشعر علماء دين سودانيون ان البشير (68 عاما) تخلى عن روح الانقلاب الذي قام به ودللوا على ذلك بانفصال الجنوب ذي الاغلبية المسيحية. ويريد ناشطون شبان في حزب المؤتمر الوطني السوداني أن يكون لهم صوت أعلى كما يشعر ضباط الجيش بأن الرئيس لا يزال يقدم الكثير من التنازلات للجنوب.

وطالما استمرت تلك الانشقاقات -المدنيون في مواجهة العسكريين والمعتدلون في مواجهة الأصوليين- في الخرطوم لكن البشير كان في الماضي قادرا على السيطرة عليها وأضرت خسارة الجنوب وخاصة نفطه بقدرته على تحقيق ذلك. ولم يكن الرئيس الذي خضع لعمليتين جراحيتين خلال الاشهر القليلة المنصرمة قط في مثل هذا الموقف الهش منذ توليه السلطة قبل 23 عاما.

وبعد يوم من اجتماع سبتمبر ايلول لم تتدخل الشرطة بينما اقتحم محتجون مبنى السفارة الألمانية بالخرطوم وأحرقوها وشقوا طريقهم صوب مجمع السفارة الأمريكية ورشقوا السفارة البريطانية بالحجارة.

وعندما تدخلت الشرطة في نهاية المطاف وقتلت ثلاثة أشخاص في اشتباكات في محيط السفارة الأمريكية تحول الاحتجاج وهو الأكبر منذ سنوات ضد الحكومة وردد عدة آلاف متظاهر هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام."

ووأد الهجوم خططا بعقد مؤتمر للاستثمار بالسودان في برلين وأبعد السودان عن واحد من أصدقائه القلائل في الغرب. وسلط الهجوم الضوء أيضا على مدى هشاشة الرئيس. ويعتقد فيصل محمد صالح الصحفي السوداني والمحلل أن بعض الوزراء السودانيين ربما أيدوا الهجمات وأضاف أنهم لم يتوقعوا أن يكون الهجوم بهذا العنف وقال إن الحكومة السودانية تخشى هذه الجماعات المتشددة وهي تدرك الان أنها خطيرة.

ولم يرد البشير ولا اي مسؤولين آخرين على طلبات إجراء مقابلة. وقالت وزارة الاعلام السودانية إن الحكومة لا تزال تحظى بالدعم الشعبي وإنها ستتغلب على مشاكلها الاقتصادية بفضل خطة تقشف. وقال ربيع عبد العاطي وهو مستشار في وزارة الإعلام إن السودان سيتمكن بحلول نهاية العام من حل كل الأزمات الاقتصادية الخاصة بعام 2011 .

ربما يجيء الخطر الأكبر الذي يواجه البشير من داخل حزبه. فالحركة استولت على السلطة في عام 1989 وسط نشوة حماسة دينية ضمرت الآن. ويشعر مسؤولون أقل سنا بالغضب لأن نفس الأشخاص يحكمون البلاد منذ أكثر من عقدين. وكثير من المسؤولين المتعلمين غير سعداء لان عزلة السودان تقوض أحلامهم المهنية.

وقال مجدي الجزولي الزميل في معهد ريفت فالي وهو مؤسسة بحثية مقرها لندن ونيروبي وتقوم بأعمال بحث وتدريب إن هناك الكثيرين في حزب المؤتمر الوطني في الأربعينيات من العمر ويريدون وظائف في الحكومة وامتيازات ومصالح من منظومة المحسوبية وأضاف أنهم ينتظرون منذ سنوات كثيرة.

وكشف الرئيس السوداني النقاب عن حكومة جديدة في ديسمبر كانون الأول لكن المناصب المهمة آلت إلى كبار شخصيات الثورة السودانية. فعلى سبيل المثل تولى وزارة النفط عوض الجاز وهو من المخططين لانقلاب عام 1989 وتولى من قبل وزارات الطاقة والتعدين والصناعة والمالية.

ويقول دبلوماسيون غربيون إن كل القرارات الكبيرة تقريبا يتخذها أربعة رجال فقط في السودان وهم البشير ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين ونائب الرئيس علي عثمان طه والمستشار الرئاسي نافع علي نافع.

وقبيس أحمد مصطفى مهندس في مجال بناء الطرق يبلغ من العمر 32 عاما ويتولى مناصب عدة في جناح الشبان بالحزب الحاكم وهو براجماتي وطموح وليبرالي نسبيا. ويثني مصطفى على الحرس القديم لأنه طور السودان لكنه ينشد التغيير أيضا.

وقال إن هناك بعض الشبان في قيادة حزب المؤتمر الوطني وإن هذا أمر جيد يحظى بالتقدير لكنه ليس نهاية المطاف. وأضاف أنه يتوقع المزيد وأن حركة الشبان تريد المزيد من المناصب. وأعرب عن أمله في أن يغير حزب المؤتمر الوطني والدولة في السودان من جلدهم.

وقال الحزب العام الماضي إن البشير لن يسعى للفوز بفترة رئاسية جديدة في عام 2015 لكن مسؤولين في الحزب حاولوا الكف عن الحديث عمن سيخلفه في المنصب. ونفى الحزب بغضب الشهر الماضي تقريرا بثته صحيفة وأفاد بأن طه الذي تفاوض بشأن اتفاقية السلام مع الجنوب عام 2005 ربما يكون مرشحا قويا لخلافة البشير.

وعلى عكس البشير ومسؤولين كبار آخرين لم توجه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لطه بالتخطيط لجرائم حرب في دارفور بغرب السودان. وتقدر الأمم المتحدة أن ما يصل إلى 300 ألف شخص قتلوا في دارفور منذ أن تحركت الخرطوم لقمع تمرد قبائل غير عربية تشعر بأن الحكومة تهملها. وفي عامي 2009 و2010 أصدرت المحكمة ومقرها لاهاي مذكرة توقيف بحق البشير لاتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية مما يصعب من سفره للخارج. وينفي البشير هذه الاتهامات ويقول إنها تجيء ضمن مؤامرة غربية لكن هناك شكوكا محدودة في أن الاتهامات أضرت به حتى في الداخل.

وقال الجزولي إن البشير أصبح ينظر إليه على أنه عبء بسبب توجيه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات له.

وبات السودان وجنوب السودان على شفا حرب في ابريل نيسان بعدما اختلفا حول مبلغ المال الذي يجب أن يدفعه جنوب السودان للخرطوم لاستخدام خط أنابيب النفط السوداني الذي يوصل إلى ميناء على البحر الأحمر.

وفي محادثات سلام بأديس أبابا عاصمة دولة اثيوبيا المجاورة على مدى الشهور القليلة المنصرمة انقسم وفد الخرطوم على نحو ملحوظ بين من كسبوا ثقة الجنوب و"من أرادوا القتال" وفقا لقول دبلوماسيين غربيين في إشارة لقادة عسكريين سودانيين.

ولم يسامح العديد من المتشددين في الخرطوم وبينهم علماء دين وعسكريون البشير عن اتفاقية السلام التي أبرمت عام 2005 ومهدت الطريق أمام الانفصال. ويتذكر الآلاف من ضباط الجيش ومسؤولي الحكومة دعوات علماء مسلمين لمحاربة "الكفار" في الجنوب فهم يرون في الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تحكم جنوب السودان الان عدوا. وعندما سافر البشير إلى أديس ابابا في سبتمبر للقاء نظيره الجنوبي سلفا كير علت أصوات بعض المتشددين.

وكتب الطيب مصطفى وهو خال البشير ورئيس تحرير صحيفة الانتباهة مقالة يتهم فيها وزير الدفاع الذي كان في المحادثات بتجاهل قتال المتمردين والذهاب للاستمتاع في أديس أبابا. وأصدر مصطفى وأصوليون آخرون بيانا يحثون فيه الحكومة على إقرار دستور إسلامي جديد.

وعندما تم التوقيع أخيرا على اتفاق لانهاء العداوة واستئناف الصادرات النفطية الجنوبية في سبتمبر ندد مصطفى ببنود فيه. وقال مصطفى إن رجال أمن أجبروا الصحيفة على تهدئة نبرتها الهجومية وجرت مصادرة أحد أعدادها على الأقل.

وقال مصطفى في إشارة إلى الذراع الدينية في الحزب الحاكم إن هناك صراعات داخل الحركة الإسلامية وإنها تهدف إلى قيادة حزب المؤتمر الوطني لكنها تتبع الحزب وحسب. وأضاف أن الحزب بحاجة إلى تغيير لهياكله.

ويملك مصطفى شركات قابضة تستفيد من حكم البشير ومن غير المرجح أن يوجه نقدا لاذعا لابن أخته لكنه يحث الناس على التساؤل بشأن الوضع الراهن في صحيفته وهي الأوسع انتشارا في البلاد.

وفي مقر حزب التحرير بالخرطوم قال إبراهيم عثمان وهو متحدث باسم الحزب إن حكومة البشير فشلت في إقامة دولة إسلامية حقة. وأضاف أن الحكومة لا تطبق مباديء الشريعة على الإطلاق فهناك نساء يرتدين ما يخالف شرع الإسلام في الشوارع وفي الحدائق العامة والنوادي هناك اختلاط بين الجنسين مثلما هو الحال في الغرب.

ويطبق السودان بالفعل تفسيرا أكثر تشددا للشريعة الإسلامية مقارنة بمعظم الدول العربية فيطبق عقوبة الجلد لشرب الخمر ويحظر إنشاء البنوك التقليدية.

لكن الإسلاميين في السودان انقسموا إلى جماعات أصغر خلال العقد المنصرم وتشتبك هذه الجماعات في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى تلتف حول قضية مشتركة. وتشمل هذه الجماعات مقاتلين دينيين سابقين يطلقون على أنفسهم اسم السائحون وغالبا ما يجتمع هؤلاء لسرد حكايات تبعث على الحنين للماضي والشكوى من الحكومة.

وقال أحد هؤلاء المقاتلين الذين ساعدوا على تنظيم اجتماع في الخرطوم في يوليو تموز لرويترز "الحكومة فقدت أي مصداقية لها. إنها تسرق موارد الدولة. يجب أن يرحل البشير. نحن بحاجة إلى بداية جديدة."

وأجبر الشمال والجنوب على الإدخار منذ نزاع النفط. وفي الخرطوم التي تتضرر من نظام المحسوبية الذي استخدمه البشير وسابقوه في المنصب لابقاء الحلفاء في الداخل جرى خفض وظائف حكومية ذات رواتب عالية والاستغناء عن مزايا مثل سيارات تويوتا ولاند كروزر.

وحاولت الحكومة جذب الاستثمارات الأجنبية من اسيا وأوروبا لكن اقتحام السفارة الألمانية أقصى واحدة من بين آخر الدول الغربية التي تربطها علاقات طبيعية بالسودان.

والشركات الألمانية من بين قلة في الغرب تدير أعمالا في السودان. وتواصل خطوط طيران لوفتهانزا الألمانية رحلاتها الجوية إلى الخرطوم منذ 50 عاما وساعدت شركة البناء الألمانية لاماير على بناء سد مثير للجدل على النيل.

ويقول دبلوماسيون إن الاحتجاجات العنيفة خرجت عن نطاق السيطرة لكن لقطات التقطها تلفزيون رويترز تضم تعليقات شهود ودبلوماسيين ومسؤولين تظهر أن أسلوب الحكومة في الدفاع عن السفارة كان باهتا في أفضل الأحوال.

وفي صباح أحد أيام شهر مارس آذار لم ير صحفي من رويترز وجود أي رجل شرطة أمام السفارة الألمانية. وقبل دقائق من هجوم المحتجين على السفارة أذاعت وكالة السودان للأنباء (سونا) خبرا عاجلا يفيد بأن الخرطوم استدعت السفير الألماني والقائم بالأعمال الأمريكي في السودان للاحتجاج على الفيلم المسيء للنبي الأمر الذي ربط برلين بما حدث. وقالت وزارة الخارجية الألمانية إنها كانت قد استدعت السفير السوداني لديها لمطالبته بتأمين السفارة.

ويمكن تأمين مبنى السفارة المكون من ثلاثة طوابق بسهولة عن طريق غلق تقاطعين للطرق. وفي الجمعة التالية للهجوم على السفارة خرجت احتجاجات أصغر وأمنت الشرطة السودانية المبنى. لكن في يوم 14 سبتمبر استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع بينما حطم محتجون النوافذ وأخرجوا الأثاث وأشعلوا حريقا عند مدخل السفارة. وصعد عدة أشخاص على السقف لتمزيق العلم الألماني ورفع علم إسلامي مكانه.

وساعد رجال شرطة المحتجين على النزول فيما بعد واحتفى مصطفى بالأمر امام السفارة. وبعد ساعة ركب المحتجون حافلات وفرتها لهم سلطات الحكم المحلي في الخرطوم لنقلهم إلى السفارة الأمريكية حيث كانت قوة شرطة أكبر في انتظارهم. ونجح البعض في دخول المجمع ورفعوا علما إسلاميا آخر.

ويقول دبلوماسيون إن وزير الخارجية السوداني علي أحمد كرتي اعتذر في حديث خاص للسفير الألماني لكنه تفادى إعلان الأسف. وعندما طلب وزير الخارجية الألماني جيدو فسترفيلله تفسيرا رسميا لما حدث أصدر كرتي بيانا أعرب فيه السودان عن أسفه للعنف وقال إنه سيدفع تعويضا عن بعض الأضرار. وقال الوزير إن الأحداث ربما كانت قد تغيرت لو أن برلين انتقدت الرسوم.

وأجج الهجوم على السفارة إحساسا متناميا بجنون العظمة لدى الخرطوم. وظهر البشير في عدد أقل من المظاهرات خلال الاشهر القليلة المنصرمة. وفي أكتوبر قال مسؤول حكومي إن الرئيس خضع لعملية جراحية صغيرة في الحلق في قطر لكن صحته جيدة. وسافر البشير جوا إلى السعودية الأسبوع الماضي لاجراء جراحة وصفتها وكالة الأنباء الرسمية بانها "جراحة صغيرة."

وحتى مع تمسكه بالسلطة يقول دبلوماسيون غربيون إن قبضة البشير على مقاليد الامور تراجعت كثيرا على ما يبدو. وقال رسول رجل الدين الذي مزق الدعوة لاحتجاج سلمي الشهر الماضي وهو جالس في مكتبة البرلمان على مقربة من نقطة التقاء نهري النيل الأزرق والنيل الأبيض إن الهجمات كانت حتمية.

وقال إن العنف كان ضروريا فكان يجب أن تتحول الاحتجاجات إلى العنف حيث أنه لا يمكن قبول الاساءة للنبي محمد. ويتفق عثمان من حزب التحرير السوداني المعارض معه لكنه يقول إن السفارات كانت هدفا خاطئا. وأضاف أن المكان الذي استحق الهجوم هو الحكومة التي سمحت بوجود السفارات الأجنبية في السودان.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 1/كانون الأول/2012 - 16/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م