التداولية... محاولة في تأسيس فكر سياسي عراقي جديد

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لم يكن فوز اوباما بدورة رئاسية ثانية ناشئا من فراغ، بل هو نتيجة منطقية وطبيعية لمفهوم التنوع الديني والاثني في أمريكا الذي عمل الآباء المؤسسون وعبر إضافاتهم على الدستور الأمريكي، ولاحقا الفكر السياسي الأمريكي،  هو الذي قاد الى هذا الفوز دون النظر الى لونه او ما اثير عن ديانته. إضافة الى ذلك ، لم تكن المواد الدستورية الأمريكية، نصوصا سياسية او قانونية نظرية فقط، بل هي نصوص تداخلت مع حركة المجتمع الأمريكي طيلة عقود  ، وأصبحت تسير معه، أحيانا يتقدم المجتمع عليها بخطوات فتحاول اللحاق به من خلال تغيير بعض النصوص.

وقريبا من فوز اوباما ، هناك أيضا النخبة السياسية التي تقود في أمريكا، وهي نخبة أنتجت الكثير من الأفكار السياسية، إضافة الى إنتاجها لجملة أخلاقيات سياسية أصبحت بمثابة قوانين حتى وان لم تكن مكتوبة.. ولعل ابرز مثل على ذلك، التهنئة التي تقدم بها مرشح الجمهوريين ميت رومني لغريمه بعد إعلان النتائج رغم شراسة الحملات الانتخابية بينهما طيلة فترة المنافسة  ، بعيدا عن محاولات سرقة الفوز او الاستهانة به او التقليل من شانه كما يحدث في الكثير من البلدان. هذه الدروس وغيرها، تؤشر لعدد من الحقائق في المجال السياسي العراقي  ، منذ تشكل الدولة العراقية وحتى اليوم وربما لمستقبل ليس بالقريب.

أولى تلك الحقائق أننا ليس لدينا نخبا سياسية بالمعنى الذي تعارفت عليه السياسة علما وممارسة في الديمقراطيات العريقة، بل ما لدينا هو نخب تمارس السياسة. كل الدساتير العراقية، الدائمية منها والمؤقتة، ومنذ أول دستور في العام 1925 وحتى الدستور الأخير 2005، بقيت موادها نصوصا نظرية جامدة، لم تستطع الممارسات السياسية ان تعمل على تفعيلها اجتماعيا، وبالتالي بقيت في خانة التنظير الذي سمح بظهور الاجتهادات التي كثيرا ما كانت تقود الى ولادة الدكتاتوريات تحت مسميات الدفاع عن مصالح الشعب العراقي.

عدم إعطاء المكونات العراقية نصيبها، وحتى عدم الاعتراف بها في المواد الدستورية، مما خلق نوعا من الإقصاء والتهميش لها، وهو ما سمح باستبداد مكون واحد وتسلطه على باقي المكونات  ، رغم الاعتراف الدستوري النظري بحقوق المواطنة وان الجميع متساوون أمام القانون.

خلق ذلك حالة من عدم الثقة والتوجس والريبة بين هذه المكونات، وأصبحت في سبيل الحفاظ على وجودها، او الحصول على بعض من حقوقها، تتجه الى خارج الحدود بحثا عن مراكز قوى تعادل بها كفة الميزان التي مالت لصالح مكونات أخرى بعد العام 2003 .

جميع القوى السياسية العراقية التي دخلت الساحة العراقية بعد العام 2003، لم تستطع بلورة مشروع سياسي عراقي يخرج عن الأطر التقليدية للفكر السياسي العراقي الذي بقي دون إضافة او ريادة فكرية طيلة عقود طويلة، إلا اللهم من بعض الاستثناءات التي قوبلت بالرفض لكونها أفكارا كانت تخاطب المستقبل، والمعترضون يختنقون بلحظتهم الراهنة.

المجتمع العراقي، متنوع بأطيافه ومكوناته، الدينية والاثنية، وهذا التنوع مصدر قوة رغم ما يتبدى أحيانا عند كل نزاع سياسي تشهده الساحة العراقية كل يوم تقريبا وهو نزاع في حقيقته، يستمد وجوده واستمراره من حالة عدم الاعتراف بتلك المكونات وحقوقها.

التداولية، التي عنونت بها هذه السطور، لا اقصد بها ذلك المصطلح المتعلق بالدراسات الأدبية والذي ساد منذ ثمانينات القرن الماضي، بل هو تداول السلطة بين المكونات تداولا ديمقراطيا وعبر صناديق الاقتراع بعد تحقيق جملة من الاشتراطات، لعل أبرزها عدم تغييب هوية اي مكون، بل الجهر بها وجعلها شرطا ناجزا في هذه الممارسة.

قد تبدو التداولية في الواقع الاجتماعي والسياسي العراقي الحالي فكرة طوباوية، او هي محاولة لتأسيس جمهورية فاضلة جديدة تضاف الى الجمهوريات الفاضلة الأخرى على مر التاريخ، وهي تبدو كذلك للوهلة الأولى إلا ان التدقيق في اشتراطاتها واليات تنفيذها يجعلها قابلة للتحقق عبر سلوك سياسي ممارس يوميا وسلوك اجتماعي نجده يأخذ بالكثير منها دون تسميات او توصيفات نظرية.

الفكرة عبارة عن مشروع سياسي طموح صدر عبر بيان منشور على شبكة الانترنت في شهر أب الماضي، وفيه يطالب البيان التأسيسي لأصحاب المشروع (الفكر السياسي العراقي بالإقرار بواقع التعددية في الاجتماع العراقي، وبالتالي إيجاد أنسب الوسائل وأكثرها ملائمة لنقل (التوافقية) من اعتبارها مدخلاً للاختلاف والتعطيل المتبادل لمهام الدولة، إلى تعاقد حرّ بين مكوّنات الشعب وتفاعل حيوي لا يلغي دور أحد، ولا يكرّس كذلك استئثار أحد ، ذلك ما يقتضي الابتعاد أولاً عن المقولات الجاهزة ومغريات استهلاكها، للانتقال من ثم إلى أعمال العقل ومتطلبات الموضوعية  ، كي لا يبقى الفكر السياسي العراقي أسير المفاهيم الطوباوية واستحضاراتها الجامدة). المشروع يهدف الى خلق هوية وطنية عراقية جامعة لكل مكونات المجتمع العراقي عبر عدة مبادئ هي :

تعديل الدستور الحالي من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي ينتخب فيه الشعب رئيساً للجمهورية لأربع سنوات، يكون المرشحون للرئاسة من طائفة واحدة لكلّ دورة ، ولأن الشيعة يمثلون الأكثرية السكّانية ، فيمكن جعل حصتهم دورتين متتاليتين، مقابل دورة واحدة للسنّة العرب، ومثلها للكرد، يكون لرئيس الجمهورية الصلاحيات المنصوص عليها في النظام الرئاسي. ذلك سوف يحقق جملة من الأمور:

استعادة اللحمة الوطنية وسيادة الخطاب الوطني، ذلك لأن المرشحين للرئاسة أو الطامحين إليه،لابد أن يروجوا لأنفسهم بالقيام بزيارات ولقاءات متكررة لكافة المحافظات العراقية دون استثناء، وسيقدم كل منهم خطاباً وطنياً جامعاً يتعهد فيه الحفاظ على وحدة العراق ودستوره وتماسك شعبه، ما يؤدي تدريجياً إلى انحسار التقوقع الطائفي أو الإثني وانفتاح المكونات العراقية بشكل أكمل، لمعرفة كل منهم بحاجته إلى الآخر، خاصة مع وجود الحافز الدستوري الذي يجعل التوجّه الوطني سلوكاً وخطاباً، هو المقياس الأوّل للنجاح السياسي.

إزالة الشعور بالغبن أو الإقصاء أو الاستهداف، وترسيخ حقوق المواطن العراقي بحظوظه المتساوية للوصول إلى أعلى مناصب الدولة (الرئاسة ) من دون منّة أو ضغط أو اتفاقات جانبية أو سرّية تنفرط بمجرد اختلاف الزعامات السياسية، ذلك لأن الحقّ يصبح مقونناً ومصاناً بمادة دستورية تمنع استئثار الأكثرية الطائفية أو القومية بالحكم، لقدرتها على تأمين أكثرية نيابية في كل دورة ، ما يعيد الأمور إلى التعقيد، والمشكلات إلى التكرار.

ولمزيد من الضبط وإلزام المرشح بتوجه وطني، يتم اختيار الرئيس بمادة دستورية تلزمه الحصول على أصوات معينة من كافة المحافظات حسبما يحدد من نقاط لكلّ محافظة طبقاً لنسبتها السكّانية، ويكون الفائز بالرئاسة، هو المرشّح الذي ينال العدد الأكبر من النقاط ومن كّافة المحافظات أو حسبما يحدده القانون.

وبما أن مشروع ( التداولية) ، يهدف إلى الحفاظ على حقوق جميع المكونات، ويفسح في المجال أمام جميع الأفراد، فمن شأن ذلك توفير فرص حقيقية لتعديل الدستور الحالي بشكل أكثر يسراً وأقلّ ممانعة، ومن ثم تجاوز الحساسيات عند من يشعر بأن التعديل قد يأتي على حسابه أو الحدّ من مكتسباته . تقدّم التداولية نموذجاً على أهمية الاعتراف بمكونات الشعب من دون مواربة أو شعارات بلا مضمون تعتمد على النوايا والصفقات، ما يعني رسالة اطمئنان إلى أن الجميع شركاء حقيقيون في الوطن وبرضا واتفاق بين أبنائه، المُعترف كذلك بخصوصياتهم الطائفية أو القومية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/تشرين الثاني/2012 - 30/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م