احتواء الصين في الاستراتيجية الأمريكية

(الجزء الثاني)

علي الأسدي

في نهاية الجزء السابق من هذا المقال اوردنا نص كلمة الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان التي حدد فيها تعهده باحتواء الشيوعية منهيا في الوقت نفسه عهد التحالف مع الاتحاد السوفييتي تمهيدا لحرب باردة ما زالت قائمة لحد اليوم. ففي كلمته أمام الكونغرس في 13\3\1947تعهد ترومان بأن الولايات المتحدة ستدعم الناس والأفراد الذين يعارضون محاولات القهر والاستعباد من قبل أقلية مسلحة داخلية أو من الخارج. وطلب من الكونغرس تقديم المساعدة العسكرية والمالية الى اليونان في محاربتها للشيوعية. واقترح تقديم 400 مليون دولار لهذا البرنامج، وأعلم الكونغرس أنه سيرسل قوى عسكرية ومستشارين الى البلدان التي تواجه تهديدا من الشيوعية.

 الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما لم يتحدث في العلن عن اي موقف كموقف الرئيسين ترومان وايزينهاور حول اجراءاته لاحتواء الصين، فالصين لم تعد شيوعية كما كان الاتحاد السوفييتي، لكنه ومع علمه بذلك يمارس نفس السياسة بهدوء بعيدا عن الأضواء. المهم بالنسبة للرئيس الأمريكي هو كبح صعود الصين بأقل ما يمكن من التكاليف وبأسرع ما يمكن من الوقت، ولا يتوقع أن يغير الرئيس القادم المحتمل رومني من هذه الاستراتيجية اذا لم يذهب بها أبعد من الرئيس الحالي. ويرمي أوباما باستراتيجية الاحتواء كسب بعض التأييد من كبار الراسماليين اللذين يلقون باللائمة على الصين بكونها المستفيد الأكبر من السوق الأمريكية على حساب أرباحهم.(3) يسوق الرأسماليون هذه الحجة لتبرير مطالبتهم الرئيس أوباما بتخفيض نسبة التأمين الاجتماعي التي يجب عليهم دفعها بدون استثناء بالاضافة الى مطلبهم بتخفيض الضرائب على الدخل. منافسه رومني الذي يتفق مع أوباما في شأن العلاقات التجارية غير المتوازنة مع الصين وبضرورة اتخاذ اجراءات حازمة ضدها، لكنه بنفس الوقت يسعى لتنفيذ سياسة رفع القيود عن الصادرات الأمريكية بنفس الوقت الذي تشدد القيود على الاستيرادات لحرمان الصين من المنافع التي تحققها من صادراتها الى الولايات المتحدة الأمريكية.

السياسة التجارية التي ينادي بها المرشح الجمهوري ليست ابتكارا من عنده، بل هي فكرة قديمة مضى عليها مئات السنين عرفت Mercantilist Policy، لم تعد تلائم التطورات السياسية والاقتصادية في وقتنا الحالي، فقد ساد استخدامها فترة ما بين القرن السادس عشر- والقرن الثامن عشر وهي فترة الاستعمار القديم. كان الهدف منها تحقيق المكاسب الاقتصادية للدول الاستعمارية على حساب الدول الأخرى المهيمن عليها. حيث اعتبرت الأخيرة مصدرا رخيصا أو مجانيا للمواد الأولية وسوقا لتصريف منتجات الدول الصناعية المهيمنة. لقد جنت الدول الاستعمارية من تلك السياسة ثروات هائلة بأقل التكاليف عبر تدفق الذهب والفضة من الدول المهيمن عليها الى الدول المهيمنة فتزداد ثراء وقوة، يوم لم تكن العملة الورقية كأداة للتبادل التجاري قد ظهرت بعد. ومع أن الاستعمار القديم قد انتهى لحساب الاستعمار الجديد السائد الآن الذي يحقق نفس المكاسب لكن بتكلفة أعلى نسبيا، مايزال سياسيون من أمثال المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية رومني يطالبون بالسير على نفس مبادئ الاستعمار القديم. وما علينا الا الانتظار لنرى عجائب ما تتفتق عنه عقول الرأسماليين من وسائل جديدة لاستغلال الدول الأخرى وخاصة الفقيرة منها، وفيما اذا سينجح رومني في دفع الولايات المتحدة الى القهقرى الى القرن السادس عشر ليتمتع بخيرات الدول الفقيرة كما كان يفعل أجداده البريطانيون في تلك الفترة الذهبية من العصر الاستعماري القديم بأدواته الاحتكارية. ولا يجب أن نستغرب تعلق المرشح الجمهوري رومني بافكار اقتصادي فترة القرن السادس عشر\الثامن عشر، ففي أيامنا هذه يوجد من الاقتصاديين المرموقين، بعضهم حائز على جائزة نوبل للاقتصاد من يؤيد افكار السياسة التجارية لتلك الفترة التاريخية. فالاقتصادي الأمريكي بول كروكمان الحائز على جائزة نوبل يقول التالي:

If you want to create jobs, go as mercantilist as possible. Maximise your exports; minimise your imports، " اذا اردت أن تزيد فرص العمل طبق سياسة التجاريين بتعظيم الصادرات مقابل تخفيض الواردات. " سياسة التجاريين قد عظمت ثروة الدول الامبريالية لكنها وبنفس الوقت قد أفقرت شعوب دول المستعمرات وما الاستعصاء الذي تواجهه عملية النمو الاقتصادي فيها الا بسبب تلك السياسة القائمة على الاستغلال والنهب. ما عدا ذلك، يظل سؤالنا قائما: الى أي مدى سيذهب الفائز في السباق الرئاسي لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية.. لاحتواء الصين؟

والى أن تتضح نتائج التصويت ونتعرف على الفائز لابد من التعرف قبل ذلك على ماقام به الرئيس الحالي وما يقوم به من خطوات لاحتواء الصين. السيد اليكسي بيلكو أستاذ التاريخ المشارك في جامعة موسكو كتب مقالا حول موضوع احتواء الصين، وقد ترجمته للقراء الأعزاء ليطلعوا على ما يحدث على الأرض بعيدا عن مسامعنا في كواليس السياسة التآمرية الأمريكية. عنوان:

 " السياسة الأمريكية لاحتواء الصينAmericas Policy of Containment (3) المنشور في صحيفة موسكو تايمز الروسية، وأدناه موجزا لأهم ما جاء فيه:-

 ان الولايات المتحدة تعزز قواتها في أستراليا وسنغافورة، وتقوم طائرات أمريكية بتقديم المساعدة العسكرية لبلدان في مناطق أسيا والباسفيك. ومن خلال مناقشة المشكلة مع خبراء أمريكيين يعملون على هذا الموضوع العسكري، أصبح واضحا أن هناك على الأقل ثلاثة خطوط للردع تقع في المحيط الباسفيكي.

الأول: ويقع بالقرب من الأراضي الصينية في قواعد عسكرية موزعة بين اليابان وكوريا الجنوبية وأوكيناوا وتايوان. وهناك محادثات مكثفة جارية الآن لإعادة بناء الميناء الأمريكي والقاعدة العسكرية في خليج الفلبين. وقد تم التأكيد بأن أمريكا والفيتنام قد عقدتا محادثات غير رسمية لاستئجار القاعدة السابقة في كارن رانه. ومن ملاحظة الخطوط الرابطة بين البلدان المذكورة يتبين أن الولايات المتحدة الأمريكية قد احتوت الصين ضمن دائرة تكون فعالة في منع الصين من التحول الى قوة بحرية. وحاليا عند تحرك الأسطول البحري الصيني نحو المياه المفتوحة سيكون مراقبا من قبل الأمريكيين.

الثاني: ومركزه القاعدة العسكرية في غوام وهواي.

والثالث: وهو خط استراتيجي للاحتياط تكون قاعدته في كاليفورنيا والألاسكا. وبحسب مصدر مقرب من القصر الأبيض فأن الصين مصنفة من قبل السياسيين الأمريكيين باعتبارها الأكثر تهديدا للمصالح الأمريكية في المدى الطويل، وأنه من المطلوب البدء بمراقبة الصين. الولايات المتحدة لن تقوم لوحدها بمراقبة الصين، بل تقوم باشراك اكثر ما يمكن من الدول والحلفاء. ويمكن تقسيم هذا الجهد الى عدة مجموعات.

 المجموعة الأولى – وتتكون من الدول المعتمدة كليا على الولايات المتحدة، فاليابان هي تابع وأداة أمريكية مباشرة لها. وكذلك كوريا الجنوبية ( فهي الأخرى تابع للولايات المتحدة وتعيش تحت كابوس التهديد الكوري الشمالي، وتعمد الولايات المتحدة لإبقائها تحت هذا الشعور ابتزازا لتكون أداة حسب الطلب لتنفيذ سياساتها في شرقي أسيا ضد الصين أو ضد كوريا الشمالية – ملاحظة المترجم). تايوان غير المعترف بها دولة تعتمد هي الأخرى اعتمادا كليا على الولايات المتحدة، وتشكل مع اليابان وكوريا الجنوبية ترسانة من السلاح قابلة للانفجار في أي وقت تحدده الولايات المتحدة للدول الثلاث. تشكل الدول الثلاث هلالا يطوق الصين من شرقها مما يجعل من مياه بحرها الشرقي ساحة مكشوفة للضغط والاستفزاز تنفذ في وقت يقرره البيت الأبيض ضد الصين.

الوضع أكثر تعقيدا مع دول أخرى، فامريكا في محاولتها احتواء الصين قد وضعت نظاما بموجبه تستطيع أن تحرم الصين من الحصول على السلع التي لها علاقة بالطاقة في أي وقت تشاء من خلال غلق خط الملاحة الشرقي والجنوبي للنقل البحري. فخط الملاحة الجنوبي الذي يمر نحو نقطة استراتيجية عند ملقا ذات أهمية بالغة للصين لقربها منها. واذا ما اغلقت هذه البوابة فان الاقتصاد الصيني قد لا يستمر اكثر من شهر، وحتى تتحكم الولايات المتحدة بالملاحة في هذا الممر قامت بتوجيه مجموعة من السفن الحربية لتتجمع في سنغافورة، كما ارسلت مجموعة أخرى لتتجمع في أستراليا والفلبين.

المجموعة الثانية، وتتمحور في الممر الشمالي وهو الأكثر تعقيدا حيث روسيا. وتعقد الولايات المتحدة منذ عدة شهور محادثات مع روسيا لاستحصال موافقتها على احتواء الصين ولا توجد أي مؤشرات بأن المحادثات مع روسيا قد حققت اي نجاح لحد الآن. ولتحقيق بعض النجاح تحاول الولايات المتحدة تقديم بعض التنازلات ( فيما يخص الصواريخ الدفاعية ومساعدات مالية واقتصادية – ملاحظة المترجم). وينهي بيلكو مقاله قائلا: كسب روسيا في موضوع الخط الشمالي يعتبر حاسما لأجل فرض بعض الشروط على الصين، ولهذا فان الامريكيين مستمرون بهذا الاتجاه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 14/تشرين الثاني/2012 - 29/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م