تُركِيَا وَالعِرَاقُ.... وَ رَبِيْعُ الحَربِ البَارِدَةِ

محمّد جواد سُنبه

عَرَضَتْ بعض الفضائيات، مساء يومِ الخميس 18 ت1 2012، خبرَ إيقاف تنقّل قافلة مِن الحجّاج الأتراك، مِنْ قِبَلّ أجهزة شرطة محافظة بابل. ذلك لعدم حصول أفراد القافلة، على تأشيرة الدخول إلى العراق. والاكتفاء بحصولهم على تأشيرة الدخول من سلطات اقليم كردستان فقط. وهذه القافلة المكونّة من 148 حافلة سياحيّة تقل 1000 حاج تركي. وفي وقت سابق، قامت الجّهات الحكوميّة الاتحاديّة، بإعادة 1200 حاج تركي، من منفذ عرعر للسبب نفسه. وتزامناً مع ذلك، أعلنت محافظة صلاح الدّين، بأنّها اعترضت 90 حاجّاً تركيّاً، وأعادَتّهم حيّث أتوا للسبب نفّسه. وعلى نفس الصعيد منعت السلطات الحكوميّة في محافظة صلاح الدّين، عمالاً أتراك كانوا ينوون تقديم الخدمات للحجّاج الاتراك.

وجدير بالذّكر، قامت إحدى الفضائيّات بعرض تقرير إخباري، عن الحجّاج الأتراك، اللذين أبدوا تذمّرهم الشديد، من عدم السماح لهم بالمرور عبر الأراضي العراقيّة وصولاً إلى السعوديّة، وادعائهم بعدم تقديم الخدمات لهم، من قِبَلِ الجّهات العراقيّة، فوجهوا انتقادهم إلى السيّد المالكي بصورة خاصّة. ومن الملاحظ أنّ أحد المسؤولين في محافظة بابل، أشار بأنّ هؤلاء الحجّاج، لا يحملون أمتعة، ولم تكن بصحبتهم أّية إمرأة. كما أشار المسؤول، أنّ الحافلات التي تنقل هؤلاء الحجّاج تستوعب 6000 شخص، بينما لم تنقل سوى 1000 شخص. ولابدّ من التنويه، بأنّ أعمار هؤلاء الحجّاج، تتراوح بين فئة الشباب وفئة الخمسين من العمر.

هذه المعطيات الخبريّة، تحمل دلالات مهمّة، خصوصاً إذا كانت مترادفة مع أحداث سياسيّة، حولّت تركيا إلى بلد مستثمر في العراق، حقق في عام 2011 مبلغاً استثمارياً، قدره 11 مليار دولار. وكانت ذروة تطوّر العلاقات بيّن البلديّن، عندما زار رجب طيب أوردوغان العراق في 28 آذار 2012، وكان يرافقه وفد كبير من الوزراء ورجال الاعمال. وفي هذه الزّيارة، ألقى أوردوغان، خطاباً في البرلمان العراقي جاء فيه: (نريد أنْ يكون العراق موحداً ومحافظاً على السلام في المنطقة، ونحن ندعم استقلاليّة وسيادة العراق ووحدة أراضيه، ونحن مع أمان واستقرار العراق، ونحن أيضاً نقف بمسافة واحدة مع جميع العراقيين ونحتضن الجميع مهما كان عرقهم ومذهبهم).

لكنْ هذه الصورة المتفائلة تغيّرت، في 19 نيّسان 2012، عندما زار رئيس إقليم كردستان العراق اسطنبول، الأمر الذي تحسّست منه الحكومة الاتحاديّة، بسبب وجود أوجه من التعاون بيّن الجانبيّن، على حساب سلطة المركز. منه عمليّة تصدير النّفط من الإقليم إلى تركيا، بطريقة تعتبرها الحكومة الاتحاديّة غيّر شرعيّة. واستغل أوردغان هذه الزّيارة، وأطلق تصريحات وصفت السيّد المالكي فيها، بالاستئثار بالسلطة، وتهميش السنّة والاكراد. مما أدى إلى صدور ردّ من قبل السيّد المالكي، فوصف تصريحات نظيره بـالطائفية ومنافية لأبسط قواعد التخاطب بيّن الدّول، واعتبر أنّ هذه السّياسات ستلحق الضرر بتركيا ويجعلها دولة (عدائيّة).

وفي تمّوز 2012، أعلن العراق، عن قلقه من الأوّضاع الأمنيّة في سوريا، التي أخذت تأخذ منحىً طائفياً. في الأوّل من آب 2012، وجّهت الدّبلوماسيّة التركيّة، ضَرراً جديداً، في علاقتها مع الحكومة الاتّحاديّة العراقيّة، عندما زار وزير خارجيّة تركيا، أحمد داوود أوغلو، إقليم كردستان، بدون التّنسيق مع الحكومة المركزيّة. وبدون الحصول على إذنٍ مِنَ الحكومة الاتّحاديّة، للدّخول إلى الأراضي العراقيّة. والاعتماد على سِمَة الدّخول، التي منحته إيّاه حكومة الإقليم، (وهذا ما كرّره الحجّاج الاتراك (مدار الخبر) بالضبط). وتأكيداً لنَهج تجاهل سلطات الحكومة المركزيّة، توجه أوغلو في الثاني من آب 2012، لزيارة محافظة كركوك، والتقى بعدد من المسؤولين فيها. إنّ تحدي وزير خارجيّة تركيا، للعُرف الدبلوماسيّ، أُدين من قِبَلِ وزارة الخارجيّة العراقيّة، التي اعتبرت هذه الزّيارة (انتهاكاً)، لا يليق بدوّلة جارَة، ويشكّل (تدخلاً سافراً) بالشأن الداخلي العراقي. وبذلك وضعت زيارة أحمد داوود أوغلو، خطاً أحمراً على العلاقات بيّن العراق وتركيا.

وتصدّعت صورة العلاقة التركيّة العراقيّة بشكل كبير، عندما قَبِلَتْ تركيا، لجوء طارق الهاشمي إلى أنقرة في شهر أيلول 2012، وهو المتّهم من قبل القضاء العراقيّ، بقضايا تتعلق بالإرهاب. فأخذت السّياسة التركيّة إزاء العراق، تسير في طريق العداء. وكأنّ خطاب أوردوغان، أمام البرلمان العراقيّ، لمْ تَعُدّ له أيّة قيمة سياسيّة البتّة.

 لذا فالسّمات الرئيسيّة، التي تحددّ معالم السّياسة التركيّة مع العراق، يمكن إجمالها بما يلي:

1. إنّ تركيا تطرح نفسها كمرجعيّة سنيّة، مفوّضة للدفاع عن سنّة العراق. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار، أنّ حزّب العدالة والتنمية، يمثل القيادة العالميّة لحزب الاخوان المسلمين، فإنّ النّظرة (الآيديولوجيّة) تضع تركيا، بقيادة حزّب أوردوغان، بأنّها النقيض الآيديولوجي لجارتها إيران. وتنسحب هذه النّظرة، على العراق وسوريا أيضاً.

2. وجود مصالح تركيّة كبيرة في إقليم كردستان، جعلت من السّياسة التركيّة، أنْ تأخذ موقفاً داعماً لتوجهات الإقليم، لضمان ديّمومة مصالحها فيه. وهذا الموقف تتحسّس كثيراً منه الحكومة المركزيّة.

3. تركيا تستخدم أراضي كردستان العراق (أرض قتل)، لعناصر حزّب العمّال الكردستاني. حيّث تسعى تركيا، تصفيّة هذه العناصر خارج الحدود التركيّة، وهذا ما يفسّر تفويض البرلمان التركي (بصورة متكرر)، حكومة أوردوغان لشنّ هجمات عسكريّة، على عناصر حزّب العمّال، خارج الحدود التركيّة.

4. موقف تركيا من الأوضاع في سوريا، يقف بالضدّ تماماً، من موقف العراق من تلك الأوضاع.

5. تعتبر تركيا جزءاً من منظومة حلف (الناتو)، وأحد مفاتيح السّياسة الامريكيّة في الشرق الأوّسط. هذا الوضع يجعل تركيا، أقرب للتوجّهات السعوديّة منه للتوجّهات العراقيّة. ومن مصلحة تركيا، أنْ تكون محطّ ثقة السعوديّين والقطريّين. فهذان البلدان يوفران فرصاً استثمارية لتركيا، تفُوْق بكثير تلك الفرص التي يقدّمها العراق لها، مع لحاظ وضعه الأمني القلقّ. من جهة أخرى، فإنّ تركيا تطمح بأنْ يكون، لها حصّة معتبرة من الغاز الذي تنّتجه قطر.

 إجمالاً هناك مواقف كرديّة/تركيّة، أبسط ما توصف به، بأنّها (غير مريحة)، بالنسبة للحكومة المركزيّة. وإذا ما أضفنا إليها أحداث الحجّاج الأتراك، كورقة جديدة للأوراق السابقة، يمكننا استنتاج عدة نقاط منها:

1. هناك مساحة من عدم الفَهم والتّوافق الإداري، بيّن الإقليم والمركز، على مستوى القوانين والتّعليمات السّارية بيّن الطرفيّن. والمفروض أنْ تكون حكومة الإقليم، بمثابة حارس البوابة الشماليّة للحكومة الاتّحاديّة، فتستطيع أنْ تُخبر الحجّاج الأتراك، بأنْ منحهم سِمَة الدّخول إلى إقليم كردستان،لا يمنحهم حقّ دخول المحافظات العراقيّة خارج نطاق الإقليم.

2. تسرّب الحجّاج الأتراك، إلى المحافظات الأخرى (ما بعد الإقليم)، يعّكس انعدام أيّ جهد لجهاز المخابرات العراقيّة، الذي من واجباته مراقبة المنافذ الحدوديّة.

3. محافظات (ما بعد الإقليم)، والتي مرّت بها القوافل التركيّة، لم تتّخذ أي (ردّ فعل) إزاء هذه الحالة، وهذا يعّكس ضَعف التّنسيق بيّن المركز والمحافظات.

4. فمَنْ يستطيع أنْ يُجزم بأنّ النيّة التركيّة، لا تستبطن أمراً يراد منه، استهداف الأمن الداخلي لمحافظات (ما بعد الإقليم)؟.

5. ومَنْ يستطيع أنْ يُجزم، بأنّ عدد الحجّاج (الألف) اللذين أقلتهم 148 حافلة سياحيّة كبيرة، وبمجموعها تستوعب نقل 6000 شخص، بأنّ عدداً منهم لم يتسرّب، إلى المحافظات التي مرّت بها القافلة؟.

6. مَنْ يُدقّق في شكوى الحجّاج الأتراك، بسبب ضَعف الخدمات المقدمة لهم، يحسّ بشكّل واضح، أنّهم معبئون مسبقاً، ضدّ شخص السيّد المالكي. ومن المعروف أنّ أيّة مجموعة تفد لأيّ بلد في العالم، وتلاحظ معاملة غيّر جيّدة، من سلطات البلد المضيّف، فإنّها تتحدّث بالشكوى من الإدارة المباشرة التي لمْ تَعتنِ بهم، لا أنّ يوجه اللوم إلى رئيس حكومة تلك الدّولة (كما حصل من قبل الحجّاج الأتراك).

أعتقد مِنْ حقنا أن نَشُكّ بالآخرين، لأنّ الظروف الأمنيّة الصّعبة التي يعيشها الشّعب العراقي، تعطينا كامل الحقّ في التّوجُس من نوايا الآخرين. خصوصاً إذا كانت العلاقات الرسميّة غير مستقرّة معهم. فتوتر الأوضاع السّياسيّة يفرض على المسؤولين العراقيّين، اعتماد مبدأ (سُوءُ الظّنِ مِنْ حُسْنِ الفِطَنْ)، والله تعالى المستعان.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/تشرين الأول/2012 - 6/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م