مسلمو فرنسا... مجتمعات صريعة التطرف

كمال عبيد

 

شبكة النبأ: خلال الآونة الأخيرة، شددت الحكومة الفرنسية الخناق على المسلمين بشكل كبير وخاصة ً الإسلاميين المتطرفين، فقد هددت بطردهم وقامت بمواجهة مباشرة واستخدمت وسائل قمع متطرفة كالقتل والاعتقال والملاحقة، من خلال سن مجموعة من القوانين التي من شأنها أن تقيد الكثير من الحريات الدينية في ذاك البلد، الذي يعد المثال الأوربي في التسامح وقبول الاخر، غير أن الاجراءات الأخيرة ضد الإسلاميين الأصوليين أظهرتها بصورة متطرفة، وهو أمر طبيعي لأن التطرف ينتج تطرف موجه من الجانب الآخر، إذ تمثل تلك الإجراءات خطوة لردع التشدد وتبرز مخاوف الحكومة الفرنسية من انتشار الإسلام، وفي حقيقة الامر أن الضحية الأولى والأخيرة في الصراع هم  المسلمون المعتدلون في فرنسا، ويرى بعض الخبراء بأن الجهات السياسية التي تتبنى بعض أفكار اليمين المتطرف في قضايا تهمهم على غرار الهجرة واستهلاك اللحم الحلال وارتداء النقاب وغيرها من القضايا الاخرى، من شأنها أن تضر بالمسلمين في المستقبل، وبحسب استطلاع رأي  أجراه مركز الدراسات العربي - الأوروبي في باريس أن البعد العنصري ضد المسلمين في فرنسا هو احد الأسباب التي دفعت بأحد مسلمي فرنسا الى ارتكاب مجزرة، مما دعا بعض الجهات السلامية الى مناشدة الجهات المسئولة لوضع حد لسياسة استهداف المسلمين في فرنسا، ولعل اختيار الحكومة الفرنسية مؤخراً الدخول في مواجهة مباشرة مع المسلمين عامة، ربما تكون ذريعة للحد من انتشار الإسلام بعدما حقق تطورات ايجابية  للمسلمين في الاندماج والتعايش السلمي داخل المجتمعات الأوروبية.

تظاهرات جديدة

فقد تظاهر عشرات المسلمين في منطقة ابيناي-سور-سين للتنديد ب"تدخل" رئيس البلدية اليميني لهذه المدينة في الضاحية الشمالية لباريس في شؤونهم الدينية، وتجمع المتظاهرون امام مبنى البلدية رافعين لافتات كتب عليها "ايها المسلمون اصمتوا : فرئيس البلدية هيرفيه شيفرو يقرر عنكم" او "شيفرو، انت رئيس بلدية او امام؟"، وقد ندد هيرفيه شيفرو (يمين) بعمل "عدد قليل من الاشخاص (...) اتى بعضهم من خارج" بلديته، نافيا "اي تدخل" في الشؤون الدينية لمسلمي ابيناي، وقال "انا لا ادير المسجد، انه المسجد الكبير في باريس الذي يقوم بهذا الامر"، واضاف ان "هؤلاء الناس لا يمثلون احدا. انهم سلفيون"، وهذه التظاهرة تشكل حلقة جديدة من عرض القوة الجاري منذ سنتين بين اعضاء في اتحاد الجمعيات المسلمة في ابيناي-سور-سين الذي يقف وراء التظاهرة، وبين البلدية بشان ادارة قاعة للصلاة، واوكلت البلدية التي صرفت 2,8 مليون يورو لتهيئة مكان العبادة البالغة مساحته 700 متر مربعا في 2010، ادارته الى جمعية ادارة مسجد ابيناي المنبثقة من المسجد الكبير في باريس، وهي مؤسسة مرتبطة بالجزائر وتشرف على حوالى 700 مسجد في فرنسا. بحسب فرانس برس.

وقررت محكمة بوبينيي التي تقدمت اليها الجمعية بشكوى، منع امام المسجد مصطفى حلومي من امامة المصلين. وهو ما يعتزم اتحاد جمعيات المسلمين في ابيناي-سور-سين الذي يتمتع بحق الاشراف الفعلي على المسجد، الاعتراض عليه، وقال رئيس الاتحاد نبيل عبداللاوي ان "رئيس البلدية يعتقد ان له كلمة في الامر، بحجة انه مول المسجد. لكننا لا نفهم لماذا يرسلون الينا شخصا من الخارج. كان لدينا الامام نفسه منذ 15 سنة وكانت الامور تسير بشكل جيد جدا"، واضاف ان "معركتنا هي معركة من اجل حرية العبادة. نامل في ان نتمكن من تنظيم انفسنا بحرية. انهم يقدموننا على اننا متطرفين لتشويه سمعتنا، لكن هذا ليس صحيحا".

قانون الملاحقة

فيما تبنت الحكومة الفرنسية مشروع قانون سيسمح بملاحقة الفرنسيين الذين يرتكبون اعمالا ارهابية في الخارج او يتدربون على الجهاد، على امل مصادقة البرلمان عليه قبل نهاية السنة، ويأتي هذا المشروع بعد ستة اشهر على المجزرة التي ارتكبها في اذار/مارس محمد مراح في تولوز (جنوب غرب). وكان مراح قتل باسم القاعدة ثلاثة مظليين وثلاثة اطفال ووالدهم في مدرسة يهودية قبل ان ترديه قوات الامن، وقالت المتحدثة باسم الحكومة نجاة فالو-بلقاسم في ختام اجتماع لمجلس الوزراء ان الحكومة تراهن على تبني البرلمان مشروع القانون "قبل نهاية السنة".

واضافت المتحدثة ان المشروع يرمي الى "رصد الاتجاهات الفردية او الجماعية نحو التطرف والعنف الارهابي بصورة افضل وكشف الشبكات التي تنقل مجندين الى معسكرات التدريب الموجودة في دول عدة في شكل افضل"، وقالت وزارة الداخلية ان مشروع القانون يمنح المحاكم الفرنسية "صلاحيات تتعدى الحدود الوطنية لمحاكمة فرنسيين يرتكبون اعمالا ارهابية في الخارج". والمادة الثانية توازي مادة جديدة في قانون العقوبات تنص على ان "القانون الجنائي يطبق على الجرائم والجنح المصنفة بانها اعمال ارهابية ارتكبها فرنسي خارج اراضي الجمهورية الفرنسية"، ولتحاكم المحاكم الفرنسية مثل هذه الاعمال، كان على سلطات البلد التي ارتكب فيها العمل الارهابي حتى الان توقيف المشبوهين وتحديد الوقائع وابلاغ فرنسا بها الى ان تتم عملية التسليم. وهذا لا ينطبق على الفرنسيين الذين يتدربون على الجهاد في دول تدعم او تغض الطرف عن وجود معسكرات تدريب. بحسب فرانس برس.

وبعد تبني النص، سيعتبر اي فرنسي توجه الى معسكر لتلقي تدريبات منتميا الى عصابة مجرمين على علاقة بشبكة ارهابية حتى لو لم يرتكب اي عمل ارهابي في فرنسا، وقد يحكم عليه بالسجن 10 سنوات وبغرامة قيمتها 225 الف يورو، وقالت وزارة الداخلية انه بموجب مشروع القانون يمكن للمحاكم ايضا ان تنظر في ملفات فرنسيين نشأوا في الخارج واعتنقوا الاسلام وتحولوا الى متطرفين قبل العودة الى فرنسا للنظر في "توجهات ارهابية لا علاقة لها" بالاراضي الوطنية.

مداهمات حكومية

كما فككت الشرطة الفرنسية "خلية" اسلامية متطرفة وقتلت احد افرادها وهو فرنسي في الثالثة والثلاثين من العمر في مدينة ستراسبورغ (شرق) بعدما اطلق النار على رجال الامن الذين جاؤوا لاعتقاله للاشتباه بانه هاجم محلا تجاريا يهوديا في ايلول/سبتمبر، وقد اودع احد عشر شخصا الحبس بعد هذه العملية، وقال رئيس الوزراء الفرنسي جان مارك ايرولت في تعليق من ليل (شمال) "انها عملية خطيرة جدا وواسعة جدا، اطلقت منذ اسابيع وتهدف الى تفكيك شبكات ارهابية"، وشددت السلطات الفرنسية على تصميم وعنف هؤلاء الفرنسيين المولودين في الثمانينات والتسعينات، واطلق المشبوه الذي قتل في ستراسبورغ ويدعى جيريمي لوي سيدني النار من مسدس ماغنوم-357 على الشرطيين الذين ردوا بالمثل ما ادى الى اصابته برصاصات قاتلة، وقد اصيب شرطي بالرصاص عند الرأس والقلب لكن معدات الوقاية من الرصاص انقذته، وصرح مدعي عام باريس فرنسوا مولان ان رجلا آخر اوقف في منطقة باريس كان لديه 22 رشاشا (لونغ رايفل)، موضحا انه سلاح "جاهز للاستخدام"، وشملت العملية مدينة كان (جنوب) حيث كان يعيش عدد من الاشخاص الذين يعتقد انهم اعضاء في الخلية بينهم جيريمي لوي سيدني، وقال مولان ان هذه العملية مرتبطة بالقاء "قنبلة يدوية دفاعية يوغوسلافية" في 19 ايلول/سبتمبر على متجر للمنتجات الحلال لليهود في سارسيل شمال باريس، واسفر ذلك الهجوم عن اصابة شخص بجروح طفيفة واثار صدمة كبيرة في اوساط الطائفة اليهودية الكبيرة في هذه المنطقة الشعبية، بعد ستة اشهر تماما من اطلاق النار قرب مدرسة يهودية في تولوز (جنوب غرب) حيث قتل محمد مراح ثلاثة اطفال ورجل دين، وعثر المحققون في 25 ايلول/سبتمبر على القنبلة اليدوية على آثار من الحمض النووي المطابق لجيريمي لوي سيدني "المعروف من قبل الاستخبارات الفرنسية منذ ربيع 2012".

ووصف المدعي نفسه هذا الرجل المولود في ميلان شرق باريس والذي صدر عليه حكم قضائي في 2008 لتهريبه مخدرات، بانه "منحرف اعتنق الاسلام المتشدد"، وقال مصدر قريب من التحقيق انه اقرب الى "الزعران"، والاشخاص الآخرون الذين ينتمون الى ما اعتبره المدعي "شبكة او خلية"، يتسمون بالصفات نفسها. وثلاثة منهم واجهوا مشاكل قضائية لوقائع تتعلق بالحق العام. بحسب فرانس برس.

من جهته، قال وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس الذي سيستقبل مع الرئيس فرنسوا هولاند ممثلين عن اليهود، لقناة "تي اف1" انها "ليست شبكات ارهابية قادمة من الخارج بل فرنسيين اعتنقوا الاسلام فرنسيين مسلمين"، واكد مصدر قريب من الحلف ان "اثنين او ثلاثة" من الموقوفين هم من معتنقي الاسلام، وقال مولان ان المحققين عثروا على اموال وادب اسلامي ومواد معلوماتية و"وصايا كتبها اربعة" اشخاص. وكان مدعي عام ستراسبورغ باتريك بواريه صرح ان جيريمي سيدني "كان على ما يبدو مصمما على انهاء حياته شهيدا"، لكن اهداف هذه "الخلية" ما زالت غامضة، وقال مولان ان الشرطة عثرت خلال العملية على "لائحة باسماء الجمعيات اليهودية في المنطقة الباريسية". واضاف ان "التحقيق سيحدد ما هي" المشاريع الارهابية المحتملة، واكد مصدر قريب من التحقيق "انهم يعتبرون انفسهم بشكل واضح جهاديين"، وصرح فرنسوا مولان ان جيريمي لوي سيدني كان ينتمي الى "مجموعة يشتبه، وليس من المؤكد، انها تريد الالتحاق باراضي الجهاد"، وكان هجوم سارسيل الذي قال شهود ان شخصين يرتديان الاسود ويعتمران قلنسوة قاما بتنفيذه، بعد تظاهرة اسلامية غير مرخص لها رفعت خلالها شعارات معادية لليهود قرب السفارة الاميركية في باريس احتجاجا على فيلم "براءة المسلمين" المسيء للاسلام، ونشرت مجلة شارلي ايبدو عشية ذلك رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد، وتضم منطقة سارسيل التي تعد 60 الف نسمة، مجموعة يهودية كبيرة جاءت من شمال افريقيا في ستينات القرن الماضي.

طرد الاسلامين المتطرفين

الى ذلك هددت الحكومة الفرنسية بطرد الاسلاميين المتطرفين الاجانب الذين يشكلون خطرا على النظام العام في فرنسا وذلك خلال تدشين جامع في ستراسبورغ (شرق) يشمل اكبر مصلى في البلاد، وقال مانويل فالس وهو ايضا وزير الشؤون الدينية "لن اتردد في طرد الذين يعلنون انتماءهم الى الاسلام لكنهم يشكلون خطرا كبيرا على النظام العام والذين من بين الاجانب في بلادنا لا يحترمون قوانيننا وقيمنا"، واضاف الوزير ان "دعاة الحقد وانصار الظلامية والاصوليين، اولئك الذين يريدون النيل من قيمنا ومؤسساتنا، اولئك الذين ينكرون حقوق النساء، اولئك ليس لهم مكان في الجمهورية"، وتابع ان "المتواجدين على ارضنا لتحدي قوانيننا والنيل من اسس مجتمعنا لن يبقوا فيها"، واكد ان "الاسلام ليس عنصريا ولا اصوليا"، وتم تدشين جامع ستراسبورغ في اجواء لا تزال متوترة بعد الفيلم المسيء للاسلام الذي اثار استنكار المسلمين والرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها مجلة شارلي ايبدو الساخرة، ويتسع جامع ستراسبورغ الجديد الذي بني على مسافة تقل عن كيلومترين عن الكاتدرائية، لنحو 1500 مصل وتبلغ مساحة المصلى 1300 متر مربع وهو الاكبر في فرنسا، اي اكبر من جامع ايفري (800 متر مربع) قرب باريس، وتعلو الجامع قبة نحاسية قطرها 16 مترا، لكن ليس فيه مئذنة، وقال عمدة ستراسبورغ رولان ريس "انها علامة اساسية في تاريخ مدينة ستراسبورغ وتعدديتها الدينية"، واكد سعيد اعلى، رئيس الجمعية التي تدير الجامع، ان "هذا المشروع شهد عراقيل كثيرة لكنه انجز بالنهاية، الناس فرحون لان لديهم الان مكان محترم لاقامة الصلاة، هذا يعزز شعورنا بانتماء كامل ونهائي الى الاسرة الوطنية". بحسب فرانس برس.

وشدد مانويل فالس ايضا على انه "حان الوقت كي يتحمل مسلمو فرنسا مسؤولياتهم كاملة وينتظموا" لمعالجة "المشاكل الحقيقية" مثل تمويل اماكن العبادة وتاهيل الائمة والمشرفين على اماكن العبادة، وبلغت تكاليف مشروع جامع ستراسبورغ الذي يعود الى 1993 نحو 10,5 ملايين يورو منها 26% مولتها المؤسسات المحلية العامة و37% الحكومة المغربية و13% المملكة السعودية والكويت، وفي المجموع حضر 1200 شخصية حفل التدشين بمن فيهم ممثلي هذه الدول وغيرهم من ممثلي الديانات الاخرى الكاثوليكية والبروتستانية واليهودية ورئيس مجلس الشؤون الاسلامية محمد الموسوي، وتعد الجالية الاسلامية في منطقة ستراسبورغ ما بين اربعين الى ستين الف شخص اي ما بين 8 الى 12% من مجمل السكان وكان عناصرها حتى الان يؤدون الصلاة في عدة مصليات معظمها بسيطة لان سابع كبرى المدن في فرنسا لم يكن فيها جامع كبير.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 9/تشرين الأول/2012 - 22/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م