نتاج انانية الساسة

نزار حيدر

استعراض عسكري لتنظيم القاعدة الارهابي في كركوك، والمحكوم عليه بالإعدام لازال يتقاضى مرتبه الشهري كنائب لرئيس الجمهورية، والارهابيون يصادقون على قانون العفو العام قبل مجلس النواب فيطلقون سراحهم من السجون بانفسهم، اما الساسة ففي سكرتهم وانانياتهم يعمهون.

ان ما يثير السخرية هو حديث الساسة العراقيين عن ما يسمونه بمؤتمر المصالحة الوطنية الذي يقولون ان رئيس الجمهورية سيبدأ بالتشاور معهم لعقده في اقرب فرصة ممكنة، فان الاستغراق في مقدمات مثل هذا الجهد اشهر عديدة دليل مسبق على فشله وعدم قدرته على انجاز شيء يذكر، فلو كان الفرقاء جادون في انجاز المصالحة فيما بينهم، وحريصون بالفعل على المصالح العليا للبلاد لاعتبروا دماء العراقيين الابرياء التي لازالت تراق من نحورهم في الشوارع والطرقات بسبب موجات العنف والارهاب التي تعصف بالبلاد، وكان آخرها ما حصل اليوم في عدة مناطق من العراق، اكبر محفز على الاسراع في انجاز الوئام فيما بينهم للتفرغ للقضايا الاستراتيجية التي يتوقف على اساسها مصير البلاد والعراقيين، ولما انشغلوا بالاحاديث الاعلامية الفارغة والمتناقضة.

 ان على الحكومة العراقية ان تسحب قانون العفو العام من مجلس النواب العراقي، بعد ان لم يعد له معنى، فمن اختلفوا على العفو عنه قد عفى عن نفسه وتحرر من السجون، كما حصل مؤخرا في تكريت، عندما تمكن تنظيم القاعدة الارهابي من اطلاق سراح العشرات من اخطر الارهابيين المحكوم على بعضهم بالاعدام، فيما سلمت الحكومة العراقية، في ذات الوقت، عدد آخر منهم الى سلطات آل سعود قالت انه عربونا منها لترطيب الاجواء السياسية بين البلدين، وذلك، طبعا، على حساب دم العراقيين الابرياء.

 فبعد ان صادق الارهابيون على قانون العفو العام واطلقوا سراح انفسهم، لم يعد للقانون من معنى فلتحترم الحكومة نفسها وتبادر الى سحب القانون من امام مجلس النواب، واقولها بصراحة لكل من يبرئ الحكومة من (غزوة) سجن تكريت ان يقدم للراي العام العراقي ادلته المقنعة.

 ان من المعيب والمخزي ان يتاجر الساسة بقضية تخص القضاء والحق العام والخاص، فما معنى ان تقدم الحكومة قانون العفو العام والذي ظل اشهرا عديدة مثار جدل فيما بينهم، يبيعون ويشترون ويساومون ويوظفون على حساب مهام القضاء؟ والتي فيها مسؤولية دماء واعراض وممتلكات والحق العام والخاص؟ وما معنى ان يناقش الساسة قضية العفو كسلة واحدة، وكأن كل السجناء اعتقلوا لسبب واحد ومشابه؟.

 للاسف الشديد لم يعد في العراق اليوم اي معنى لمؤسسات الدولة العراقية، بعد ان استغرق الساسة بالمحاصصة سيئة الصيت من قمة راسهم الى اخمص اقدامهم، وبعد ان غرقوا في انانياتهم ووحل مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة والمقيتة، فبينما ينشغلون في البحث عن مصالحهم الضيقة تنظم عناصر من تنظيم القاعدة الارهابي وتنظيم ما يسمى بدولة العراق الاسلامية الارهابي، استعراضا عسكريا في كركوك، متحدين بذلك هيبة الدولة العراقية وقرقوشية الحكومة التي لم تعد تبسط نفوذها الا في المنطقة الخضراء التي تتعرض للخروقات الامنية، هي الاخرى، بين الفينة والاخرى.

 وتأخذ العراقيين الدهشة وهم يرون انشغال السياسيين ونواب الشعب بقانون العفو العام في الوقت الذي يرون فيه الارهابيين يسرحون ويمرحون بلا رادع، لدرجة انهم قادرون على الضرب متى ما يشاؤون واين ما يشاؤون، فيما عادت كواتم الصوت تحصد اهدافها متى وانى ارادت، فاي معنى للسلطة بقي في ظل مثل هذا الانفلات الامني؟ ثم يخرج علينا المسؤولون الامنيون وغيرهم ليفسروا لنا معنى هذا الانفلات الامني ان كان خرقا امنيا ام تدهورا امنيا ام انفلاتا امنيا، ولم يبق لهم الا ان يعربوا لنا الجملة، وتبقى النتيجة واحدة هي اراقة دماء العراقيين واشاعة الخوف والرهبة في صفوف المواطنين وتصفية الضحايا وبدم بارد.

 ان مثل هذا الانفلات الامني يبرر كذلك سحب قانون البنى التحتية من المداولات في مجلس النواب، لان اهميته انتفت بانتفاء الموضوع، كما يقول المناطقة، اذ كيف تنتظر الحكومة ان تستهوي الاستثمارات الاجنبية والوطنية اذا كان العراق قد وضعه الارهاب على كف عفريت؟ اوليس من الاولى بالحكومة العراقية ان تستفرغ كل طاقاتها للامساك بالملف الامني لإشاعة الامن والسلام والاستقرار قبل ان تنتظر مجيء رؤوس الاموال؟ اوليس من واجبها ان تثبت لنا بانها بالفعل جادة في محاربة الفساد المالي والاداري المستشري في كل مفاصل الدولة والذي بات يشكل تهديدا خطيرا لا يقل عن تهديد العنف والارهاب، قبل ان تنتظر ان يحط الاستثمار رحاله في البلاد؟.

 اوليس من واجب الحكومة ان تثبت لنا (رجولتها) قبل ان تقرر الزواج من الاستثمار الاجنبي والوطني؟ رجولتها التي ضاعت لحظة اصدار القضاء العراقي حكم الاعدام بحق المتهم طارق الهاشمي، من دون ان يقطع هذا الحكم مرتبه الشهري الذي لازال يتسلمه من خزينة الدولة العراقية كنائب لرئيس الجمهورية؟ اية رجولة هذه؟ واية حكومة هذه؟ واية دولة هذه التي تمنح المحكوم بالاعدام مرتبه الشهري مع الاحتفاظ بدرجته الوظيفية، وهي سيادية في هذه الحالة؟ ليس الا الحكومة المخصية فقط هي التي تفعل هذا.

 الا يحق للعراقيين ان يطالبوا الحكومة العراقية بان ترتدي نقاب النساء وتتوارى عن الانظار؟.

 اية دولة هذه التي تتناقض مؤسساتها الدستورية بعضها مع البعض الاخر لدرجة التصادم؟ فبينما تصف الحكومة العراقية تركيا بانها الاخطر على العملية السياسية الجارية في العراق فتشن عليها الغارات السياسية والدبلوماسية الواحدة تلو الاخرى، اذا بعدد كبير من (زعماء) العراق يحضرون مؤتمر الحزب الحاكم في انقرة وبكامل البروتوكولات السياسية جنبا الى جنب المحكوم عليه بالاعدام (نائب رئيس الجمهورية) صاحب المرتب الشهري المستمر الى الان؟.

 انه قانون قرقوش، اليس كذلك؟ انها دولة افلام الكارتون، اليس كذلك؟.

 ايها الساسة العراقيون، قليلا من الحياء والغيرة والشهامة لتحترموا انفسكم على الاقل ان لم تكونوا تحترمون ارادة الناخب العراقي الذي تورط فمنحكم ثقته.

 كونوا احرارا ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، وكونوا عربا، على الاقل، كما تزعمون.

 فبينما تسيل الدماء انهارا من نحور العراقيين الابرياء، نراكم منشغلون بانفسكم وبمصالحكم الضيقة وبحملاتكم الانتخابية المبكرة، فاحدكم يوظف المال العام وشاشة الدولة العراقية للحديث عن نضالات وهمية علق عليها احد الظرفاء بقوله بئس النضال نضال المفلسين، فيما ينشغل آخر بتسويق نفسه عند هذه الدولة الجارة او تلك الاخرى البعيدة، اما الثالث فقد اتخمنا كلاما معسولا لا يغني ولا يسمن من جوع وهو يتناقض مع واقعه الشخصي جملة وتفصيلا، وعلى حد قول احد المراقبين مستغربا: ترى ما الذي تمتلكه على ارض الواقع لتقدم لنا كل هذه التنظيرات الخائبة؟.

 ان العراق اليوم في مهب الريح، وهو على كف عفريت، وهو بحاجة الى وقفة مسؤولة من كل الفرقاء لقيادته الى بر الامان، فالمنطقة حبلى بالمفاجآت، والعالم يغلي، وسوف لن يكون العراق بمنأى عن كل ذلك لينشغل السياسيون بانفسهم تاركين حبل الامور على غاربها.

 وفي العراق مشاكل سياسية حقيقية، من الخطأ الفاحش التغافل عنها، كما يحاول الساسة ذلك، عندما يخرجون علينا بين الفينة والاخرى وهم يتحدثون عن توافقات هشة وكاذبة وغير حقيقية بعد كل اجتماع يجمع طرفين منهم او اكثر، فاجتماعات المجاملات وسياسات تبويس اللحى وترحيل الازمات لا تجدي نفعا.

 عليهم جميعا ان يضعوا انانياتهم جانبا، فاذا غرقت السفينة فسوف لن ينجو منهم احدا ابدا.

* مركز الاعلام العراقي في واشنطن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 8/تشرين الأول/2012 - 21/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م