أمريكا الفاشية والبحث الداّئم عن الحروب؟

مصطفى قطبي

أمريكا كما يعرف الجميع دولة غربية إمبريالية رأسمالية استعمارية تقوم علاقاتها على مبدأ المصالح وتتغير بتغيرها، فلا عدو دائم ولا صديق دائم فهي التي حاربت الاتحاد السوفياتي طيلة نصف قرن بلا هوادة حتى تفكك وما تزال وهي التي ضربت اليابان بالقنبلة الذرية فأودعت في جنباتها تشوهات تدوم مدى الحياة وهي من عشقت حسني مبارك وصادقت شاه إيران واستبطنت زين العابدين ابن علي ودعمت علي عبد الله صالح وعضّدت بالأسطول السادس كميل شمعون وأثنت على القذافي وتحالفت مع طالبان والقاعدة في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وما لبثت أن رمت الجميع رمية الكلاب عندما (نشف كازهم) على مبدأ (في الوجه مرايه وفي القفا صرمايه) كما يقول العامة.

 وها نحن اليوم نشهد فصلاً جديداً من تلك الملهاة الأمريكية المضحكة المبكية، والمضحك في الأمر أن أمريكا تتودد اليوم للشعوب العربية والإسلامية بدغدغة أحلامها (بجزرة) الحرية والديمقراطية وهي التي طالما أشبعتهم قتلاً وجوعاً وتخويفاً وعلى مدى نصف قرن من الزمن بدعمها اللامحدود لإسرائيل عدو العرب والإسلام وعامل تخلفهم الأوحد وأما المبكي في هذا السياق فهو تلك السذاجة العجيبة التي يتبارى في إظهارها بعض من حكام العرب وهم يصفقون طرباً لقاتل آبائهم ومغتصب أعراض شعوبهم، وسجون غوانتنامو ومعتقلات الجيش الأمريكي في العراق برهان ساطع على جريمة من أراق أو تسبّب في إراقة وهدر الدم العربي في تونس و ليبيا والعراق والصومال والسودان ومصر وسورية ولبنان وفلسطين بدعاوى ماكرة ومنها ربيع موعود لم تقطف الجماهير العربية من ثمراته سوى علقمها إذ أصبحت الساحة العربية برمتها مرتعاً للقتل والتخريب والفوضى العارمة وتسربلت شعوبها بالحسرة والندم والدم، فقد خسرت أمنها واستقرارها ولم تربح الحرية ولا الديمقراطية ولعل أسوأ ما في الفصل مشاهده الأخيرة فقد علق العرب في الشص الأمريكي وغاصت الصنارة في حلوقهم فلم يعد الهروب إلى الأمام ينجيهم ولا الاستسلام للصياد يشفيهم لأن خروج الصنارة يعني خروج حلوقهم معها فقد وقعوا في الفخ الأمريكي إيذاناً ببدء عصر جديد من الصراعات الداخلية الدموية تكون نتيجتها سيطرة أميركا على مقدرات الشرق العربي المادية والبشرية.

والسؤال الذي يجب على كل مواطن حر في هذا العالم أن يطرحه: هل توجد في العالم منطقة واحدة لم يصل إليها مكر حكومة الولايات المتحدة من أجل المزيد من السيطرة، أو من أجل التأثير فيها، أو من أجل التواجد العسكري فيها؟!

فالسياسة الأمريكية لدى كافة الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقوم على الثوابت التالية:

1ـ الثروات النفطية وهي التي تعتبرها الولايات المتحدة ملكاً خالصاً لها أينما وجدت، ومهما كانت بعيدة خارج القارة الأمريكية، وهي تشكل جوهر ومضمون أمنها القومي ـ حسب هنري كيسنجر ـ أحد كبار منظري السياسة الأمريكية المعاصرين... المهم لدى أية إدارة أمريكية ضمان تدفق الثروات النفطية، وبشكل أخص الثروات النفطية العربية وبأبخس الأسعار... إنها بوصلة السياسة لدى كافة الإدارات الأمريكية السابقة منها أو اللاحقة، ومن أجلها خاضت الولايات المتحدة، وتخوض كافة حروبها القذرة...

2 ـ المجمع الصناعي العسكري بما تشكله تروستات صناعة وتسويق آلة الحرب والدمار (ومنها شركات جنرال موتورز ـ لوكهيد إيركرافت ـ فيكيرز وغيرها) وهذه تضخ في الاقتصاد الأمريكي أطناناً متدفقة من الدولارات، يقابلها على الجانب الإنساني أنهارٌ، وشلالات من الدماء الآدمية، وتلالٌ متكدسة من الأشلاء والجماجم البشرية... وحرائق وخرائب وحروب لا محصورة، ولا ممنوعة في العالم أجمع، لم تتوقف أبداً، ولم تنته بعد... كلما أطفأها الله، أوقدتها أبالسة الشر الأمريكي الصهوني... كي تبتلع بنهمٍ شديد كل ما تنتجه الصناعة الحربية الأمريكية من صواريخ وطائرات وحاويات قنابل، ويكتنز الاقتصاد الأمريكي حتى التخمة... إنهم في أمريكا يرقصون طرباً على دوي الانفجارات... إنها موسيقى الجاز لديهم !

3 ـ المجمع اللاهوتي الكهنوتي وله اليد الطولى في رسم السياسة الأمريكية، وتحركه وتديره العقيدة الدينية المتصهينة لما أصبح يعرف (بالمحافظين الجدد)... وفحواها أن الإيمان المسيحي في أمريكا خصوصاً لا يكتمل إلا بالإيمان اليهودي أولاً، مع التسليم المطلق بكل نبوءات وخرافات (توراتهم، وتلمودهم)، مع ما في ذلك من عقيدة استعلاء واستكبار، وإنكار فوق كافة الأمم والشعوب، بحيث أصبحت وفق عقيدة هؤلاء الذين دأبوا على تسمية أنفسهم بـ (الأغلبية الأخلاقية ـ مع أنها غير أخلاقية)، أصبحت (أمريكا هي شعب الله المختار، وهي التي تقود العالم وفق إرادة إلهية) مزعومة. وهذا بحد ذاته هو القاسم المشترك، والغطاء اللاهوتي في تمازج ووحدة كل من المشروعين الأمريكي والصهيوني في مشروع إجرامي مؤامراتي واحد،  في السيطرة على العالم ونهبه وإخضاعه وفق عقيدة عنصرية فوقية تقوم على مصادرة وإلغاء كافة بني البشر من غيرهم... أما هذه الشعارات البراقة التي تسوّقها آلتهم الدعائية عبر إمبراطورياتهم الإعلامية، ومحافلهم الماسونية في (الحريات، والديمقراطيات، والحقوق الإنسانية، والإصلاحات... وحقوق المرأة...) هذه ونحوها... ليست سوى مصيدة وأفخاخ لا يعرف كنهها وحقيقتها إلا من وقع في شركها وتلظى بنارها.

فجل ما يشغل الفكر السياسي والاستراتيجي الأميركي اليوم، الكيفية التي ستؤول اليها مكانة الولايات المتحدة في العالم، والمعضلة التي تواجه جهابذة الفكر الاستعماري الأميركي، أن الشعب الأميركي وشعوب العالم الأخرى، لم تعد تنطلي عليها الشعارات المزيفة التي استخدمتها أميركا لفرض سيطرتها على الآخرين، فشعارات الحرية والديمقراطية، أصبحت مساوية للقتل والدمار والظلم وسلب الحقوق الانسانية، لأن ما يحدد السلوك السياسي والعسكري للولايات المتحدة في الساحة الدولية، هدف واحد لا غير، وهو إتاحة المجال لتوسيع وترسيخ هيمنة الأمبراطورية الأميركية في العالم، بمساعدة قوتها العسكرية واستخدام قواعدها الحربية البالغة أكثر من 700 قاعدة موزعة في أكثر مناطق حيوية واستراتيجية، وللحفاظ على هذه الامتيازات، وجدت الادارات الأميركية نفسها مضطرة لشن الحروب القذرة في كل مكان، ولن يثنيها الفشل هنا وهناك، لتعيد السعي لتجهيز ادواتها لشن حروب جديدة، وثمة من يؤكد أنه بعد هزيمتها في افغانستان والعراق، فانها وضعت في قائمة أولويات الاستعداد للهجوم على ايران وكوريا الديمقراطية، وفي سياق هذا الاحتمال، لابد لها من تجريد ايران من حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، لاسيما جبهات المقاومة لمشاريعها الجهنمية الاستعمارية في الشرق الأوسط، الجبهة السورية، والمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وهذا التوجه الأميركي المرتبط عضوياً بالمصالح الاستراتيجية للكيان الصهيوني والحركة الصهيونية العالمية، وأدواتهما التنفيذية داخل دول المنطقة، أملاً في تحقيق الهدف الأميركي، وفي ضوء الهدف، تحاول أميركا خلق أوضاع متوترة في المنطقة العربية وفي شبه الجزيرة الكورية، وضبط الحركات والدول المناهضة للهدف الأميركي.

لقد ارتفعت نسبة النفقات العسكرية الحربية في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى 43 في المائة من حجم النفقات الحربية العالمية في العقد الأخير من القرن الحالي، وذلك حسب إحصاءات معهد Sipri وبما أن هذه النفقات تتضمن نفقات إضافية أخرى ذات طابع عسكري، فقد تجاوزت نسبة الـ 50 في المائة من النفقات العسكرية العالمية.

فمنذ أن وصلت إدارة أوباما إلى الحكم، ظهرت قواعد جديدة في بولندا وبلغاريا ورومانيا، وفي أفريقيا، أمريكا ضالعة في حروب ومجاعة الصومال، وترسل قواتها البحرية إلى أوغندا، وتتآمر مع كينيا وأثيوبيا لتهدئة الأوضاع في القارة، وذلك تحت مسمى ''الحرب على الإرهاب''، لكن في الواقع هي تمثل ردة فعل على التغلغل الاقتصادي الصيني في القارة السوداء، والذي تراه الولايات المتحدة كنوع من التهديد؟!...

وإضافة إلى ذلك هناك سلسلة من القواعد العسكرية التي يتم إنشاؤها في اليمن وأثيوبيا والسعودية وسيشيل من أجل إطلاق طائرات ''درون'' التي تسير بلا طيار، ضد البؤر الإرهابية في الصومال وشبه الجزيرة العربية، ولن نفشي سراً إذا قلنا بأن القواعد السرية التي يقال بأنها تعمل في إسرائيل والكويت والفلبين وأماكن كثيرة أخرى، كما صرحت كاثرين لوتز، تعتبر أمثلة عن ''إمبراطورية القواعد العسكرية الأمريكية''.

وفي جنوب ووسط أمريكا، يتوسع التواجد العسكري للقوات الأمريكية بسرعة، وذلك من خلال سبع قواعد جديدة في كولومبيا 2008، وقاعدتين بحريتين في بنما، وهذا ما نعرفه فقط، لكن الذي لا نعرفه هو المدى الذي تصل إليه العمليات الخفية لواشنطن في الحدود الجنوبية، بما في ذلك تقديم السلاح لمحتكري المخدرات في المكسيك والفضيحة المثيرة للدهشة التي تمثلت بسلسلة ''وسائل الإعلام'' الدعائية المؤيدة لأوباما.

إن الكثير من القوة المفرطة، وفائض جبروت القوة الأمريكية في العالم، يدعو إلى القول: إنه على الرغم من فوزه بمنصبه على أساس برنامج انتخابي يعارض الحرب ويدعو إلى التغيير، فإن السياسة الخارجية لإدارة أوباما، لم تكن إلا استمراراً للعسكرة التي اعتمدتها إدارة جورج بوش ومحافظيه الجدد. وأوباما لم يفتقر للإرادة من أجل تغيير الوضع القائم في واشنطن الذي يسيطر عليه هاجس العسكرة فحسب، بل هو رفض أيضاً الإقرار بأن استراتيجية الحرب الأمريكية في أفغانستان أفلست تماماً، كما أنه ورط الولايات المتحدة في ليبيا، وكذلك قدمت إدارته العملية العسكرية في ليبيا دون إعلام الكونغرس، على أنها عمل ''وقائي'' لمنع مجزرة بحق المدنيين على يدي القذافي، في تناقض مع الموقف الحازم الذي أعلنه أوباما خلال حملته الانتخابية عندما قال: ''الرئيس لا يملك سلطة بموجب الدستور للتصريح من طرف واحد بهجوم عسكري في وضع لا يتطلب وقف تهديد فعلي أو وشيك للأمة، ومن الأفضل دائماً إبلاغ الكونغرس والحصول على موافقته قبل أي عمل عسكري''، فالرئيس أوباما أمر بالمشاركة في عملية ليبيا دون إبلاغ الكونغرس مسبقاً، وبالتالي دون الحصول على موافقته، حسبما ينص الدستور الأمريكي، وقد أثار قراره ولا يزال الكثير من الجدل، لا سيما أنه جاء في وقت تواجه الولايات المتحدة أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ سنين، وتخفض فيه مخصصات البرامج الاجتماعية.

إن التدخل العسكري الأمريكي على امتداد العالم يتم بسرعة قصوى، على الرغم من تهديد الأزمات الاقتصادية على امتداد العالم بالقضاء على الإمبراطورية الأمريكية، وإن هذه الاستجابة المستعجلة لهذه العملية الامبريالية تعود إلى ردود أفعال عنيفة ومتزايدة عالمياً. فقد أشار وزير الدفاع بانيتا إلى أن القوات الأمريكية ستغدو في إطار الاستراتيجية الجديدة، أكثر خفة وسرعة ومرونة، وسيتم نشرها بسرعة قياسية. وأضاف أن الاستراتيجية الجديدة ستتضمن الاستعانة بالاستخبارات السرية، والقوات الخاصة إضافة إلى استخدام أسلحة تقنية متطورة، ويشار إلى أن بانيتا سرّع عملية تحويل الوكالة إلى مؤسسة عسكرية حقيقية عندما كان مديراً للسي آي إيه، حيث استخدمت طائرات الاستطلاع دون طيار لشن الهجمات والغازات على أفغانستان، وأنشأت قواعد سرية خاصة لعمليات الكوماندوس في اليمن وفي دول أخرى. وحسب تحقيق أجرته الواشنطن بوست فإن قوات العمليات الخاصة منتشرة حالياً  في (75) بلداً، وهي مزودة بمرتزقة وشركات خاصة تعمل في الظل هي الأخرى. هكذا ستتم إدارة الحرب بأشكال وطرق خفية لكنها ليست أقل كلفة أو ثمناً، بخاصة إذا ما علمنا أن ميزانية الاستخبارات تبقى ''سرية'' ولا يستطيع أحد معرفة كيف ترتفع النفقات العسكرية والحربية.

ولكن لتحقيق نجاح مضمون للاستراتيجية الجديدة، سيكون البنتاغون بحاجة إلى أنظمة أسلحة متطورة جداً مثل الطائرات المطاردة طراز (F-35) التي ترسخ الزعامة الأمريكية على الأجواء بوجه حلفاء واشنطن وخصومها. إضافة إلى أنه سيكون بحاجة لأن تكون القوى النووية على أتم الاستعداد للهجوم في الوقت المطلوب.

إذاً ومن خلال ما تقدم، بوسع المرء الاستنتاج أن ما أعلنت عنه واشنطن لا يأتي في إطار تخفيف حدة سباق التسلح، بل هو تصعيد عسكري جديد وخطير، ومضاعفة النفقات العسكرية العالمية التي تتجاوز الـ (3) ملايين دولار في الدقيقة الواحدة.

بانيتا شرح أن مركز الاستراتيجية الجديدة هو منطقة الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادي والهدف منها ''ترسيخ الزعامة الأمريكية على العالم''، معلناً أن الولايات المتحدة ''طوت الصفحة القديمة'' وعادت إلى الوراء في التاريخ، عادت إلى حقبة الإمبريالية الذهبية.

ولم تنتبه أميركا أو هي مرغمة على تجاهل حقيقة ساطعة، وهي أن حروبها الدائمة تؤدي بالضرورة الى حركة مناهضة لحروبها في كل مكان ـ وتدرك الادارة الأميركية أن حروبها الفاشلة والعبثية تدفعها رغماً عنها الى الوقوع في أزمات داخلية ودولية خطيرة، تفوت عليها ادعاءاتها، بأنها تريد أن تثبت للعالم وللشعوب، بأنها ما زالت الملكة على كرسي عرش العالم، ولو كلفها ذلك استخدام قوتها العسكرية المفرطة ضد الدول الأخرى، بيد أن ما ينغص عليها هذه الأحلام، فقدانها القدرة الاقتصادية ويأس قادتها، من إمكانية ترسيخ هذا الحلم الذي يخبو شيئاً فشيئاً مع تعميق أزمتها المالية والاقتصادية التي بدأت من جديد تطل برأسها، لتهديد الكيان الأميركي برمته بالانزلاق نحو هاوية الافلاس الاقتصادي والسياسي ومن ثم العسكري، لتصبح العملاق العجوز المريض الآيل للسقوط إلى مراتب دنيا في الترتيب العالمي للدول القوية، وقد تجد نفسها في زمن قياسي دولة بمستوى دول مأزومة كاليونان والبرتغال أو إيرلندا.

 وهذا الكلام ليس مجرد تمنيات وإنما يعكس الواقع الفعلي لما تعانيه اليوم أميركا من إرهاصات السقوط المدوي.‏ فواضعو السياسة الأميركية، لم يكترثوا بفعل الطبيعة الملازمة للامبريالية، أن دخول الحرب أسهل بكثير من الخروج منها.‏ وربما المثل الافغاني والعراقي الأكثر عبرة في ذلك، لقد تورطت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو في مأزق افغانستان واليوم وبعد مرور كل هذه الأعوام، فهي غير قادرة على البقاء وكذلك لا تستطيع المغادرة مباشرة، وينسحب ذلك على العراق. فهي تعتقد أن المصير الفيتنامي ينتظرها في كلا الدولتين، اللتين شعوبهما لم تعد قادرة على تحمل كابوس الاحتلال الأميركي، وما تركه من آلام ودمار ودماء فيهما. والشعب الأميركي لم يعد يحتمل التكاليف الباهظة لحروب إداراتهم العبثية.

 فكلفة الحربين في العراق وأفغانستان تتراوح بين 3200، وأربعة آلاف مليار دولار تتحملها الخزينة الفيدرالية ودافعو الضرائب و الأميركان، بخاصة بعد قرار بوش الصغير بإعفاء الشركات الاحتكارية العملاقة ولاسيما شركات النفط والسلاح من الضرائب وهذا القرار مازال ساري المفعول في عهد أوباما، ما أرهق الميزانية الأميركية، التي خصصت 900 مليار دولار سنوياً للنفقات العسكرية. وتراكم ديون داخلية وخارجية بأرقام فلكية وصلت إلى 14.300 ألف مليار دولار، لم تعد قادرة على تسديد فوائدها. صحيح أن أوباما نجح في رفع سقف الدين المسموح به الى 16.300 ألف مليار دولار.‏ ولكن هذا الاجراء لم يحل المشكلة بل أجّلها لأمد قصير جداً.‏

ويؤكد العديد من الاقتصاديين الأميركان، أنه لولا الحرب لكانت نسبة الدين العام لإجمالي الناتج الداخلي أقل بتسع أو عشر نقاط مما هي عليه اليوم، حيث ارتفعت حوالي مائة في المائة.‏ وأكد هؤلاء الاقتصاديون، أن الحرب ونتائجها وخصوصاً ارتفاع أسعار النفط، عوامل استنزفت من الولايات المتحدة مبالغ هائلة كان يمكن إنفاقها لضمان تنمية مناسبة في أميركا، وقد صرح ضابط كبير في الجيش الأميركي الأميرال مايكل مولن: بأن الدين العام يشكل ''أكبر تهديد للأمن القومي''. وانعكس ذلك على المجتمع الأميركي، وتشير المعطيات الصادرة عن جامعة بورد الأميركية، ان أعداد الشباب الذين حصلوا على الشهادة الجامعية انخفض بنسبة 12 مرة جراء التركيز غير المتوازن على صناعة الأسلحة، وزاد من نسبة العطالة والفقر إذ بلغت البطالة وسطياً اليوم نحو 17 في المائة من القوى العاملة، ويعاني أكثر من عشرين مليون أميركي من الجوع، ومليون ونصف من الأطفال محرومون من الحليب، إلى جانب أزمة العقارات وانخفاض الخدمات الصحية...

وكتب العالم الأكاديمي الأميركي جيمس بيتراس: إن الولايات المتحدة تنفق عشرة مليارات من الدولارات في الشهر أي 120 مليار دولار في السنة على الحرب في افغانستان، ويقول: إن الأغبياء وحدهم، يمكن أن يصدقوا أن البنتاغون والبيت الأبيض ينفقان عشرة مليارات دولار من أجل ملاحقة حفنة من الإرهابين المختبئين في الجبال الأفغانية، بل هي حرب ضد المقاومة الأفغانية التي لم تقم يوما بأي عملية ضد الولايات المتحدة. والحقيقة أن أميركا تستخدم أفغانستان كرأس جسر من أجل دعم ''المعارضين'' والانفصاليين وتأجيج الخلافات العرقية وتنفيذ سياسة ''فرق تسد'' ضد إيران والصين وروسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، ليتسنى اقصاء إيران وحتى روسيا عن شواطىء بحر قزوين، المالك لأكبر احتياطي نفطي في المنطقة، وكانت أفغانستان بداية لحروب متتالية تعزز مكانة الولايات المتحدة بوصفها دولة عظمى قادرة على فرض ارادتها على أي مكان في العالم. ولكن الدول المستهدفة استطاعت بهذا الشكل أو ذاك من اتخاذ مواقف شبه موحدة لمواجهة غزاة العصر الأميركان وردهم على كيدهم، وباتت هزيمة هذا الوحش مرتهنة بوحدة الدول المهددة مصالحه الاستراتيجية والحيوية في بلادها ومجالاتها الجيوسياسية، وبسقوط الولايات المتحدة في هاوية أزمتها المالية والاقتصادية التي باتت شبه مؤكدة. ومع انحسار الدور الأميركي، سيتنفس العالم التواق للحرية الصعداء.‏

ولأن أميركا تعتبر نفسها سيدة العالم عسكرياً ، فإنها تعطي نفسها الحق في أن تفعل ما تشاء وهي تفرض على العالم دينها الجديد ''البراغماتية'' والتي في تحليلها الأخلاقي ليست إلا الطلب من الإنسان أن يعيش يومه، وألا يفكر في الماضي وينسلخ عنه ليكون إبن يومه وإبن الملذات الجسدية، وألا يفكر في المستقبل، بل أن يترك لسادة البيت الأبيض أن يحفروا إسمهم عميقاً في ذاكرة التاريخ بأنهم سادة اليوم والمستقبل! ويسألونك لماذا يكرهنا العالم ؟!‏

لقد تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت ايزنهاور عن هذه المقارنة المأساوية فيما يتعلق بتعزيز القدرات الأمريكية لنشر القوة العسكرية في الخارج على حساب تلبية احتياجات المواطنين قائلاً: ''كل مدفع يصنع، وكل سفينة تدشن، وكل قذيفة تطلق، هو في المحصلة النهائية سرقة من أولئك الذين يجوعون ولا يجدون طعاماً، وأولئك الذين يعانون من البرد ولا يجدون ثياباً... إن هذا العالم المسلح لا ينفق مالاً فحسب، وإنما ينفق أيضاً عرق عماله، وعبقرية علمائه، وآمال أبنائه''، مضيفاً: ''هذه ليست طريقة للحياة على الإطلاق''.

إنَّ المشكلة في العقليّة الأمريكية التي يحملها كلّ أمريكي منذ نعومة أظفاره والتي تقول: إننا الأمريكيين رقم 1 ولذلك نحن أتقياء، ولهذا الأمر انعكاساته بالرَّغم من أنَّ المبررات لهذا الاعتقاد تقلُّ من يومٍ إلى آخر حيث اتضح أنَّ الأمريكيين ليس بوسعهم الآن أنْ يحلوا بمفردهم القضايا العالمية في مجال السياسة والاقتصاد ولكنَّ الاستمرارية في هذا الاعتقاد قد تدوم فترة أخرى. إذاً هذه العقلية الاستعمارية الاستهتارية بدمِ الشعوب ومبادئهم وقيمهم...

على أيةِ حقائق ومبادئ تَسْتَند؟! أينَ أدنى الصفات الأخلاقية والإنسانية في هذه السياسة..؟!

أما أوجدت أنظمة وحكاماً موالية لها وموظفة عندها... تقدّم لها الولاء والطاعة والذهب والبترول وتنكل بشعوبها ثمَّ بعد أن نفذت أدوارها على أكمل وجهٍ... تتهمها بالاستبداد والفساد وتستبدلها بأنظمةٍ أشد تطرفاً وأكثر طاعة وأقدر على الفساد.

هذه الإدارة المتشيئة عبَّرَ عنها أحد الفلاسفة الألمان بقوله: إنَّ أمريكا تشيئَت وفَقَدَت الرّوحَ وأدارت الظهر للحضارةِ الأخلاقية. لقد بات واضحاً: إنَّ هذه السياسة أكثر السياسات همجية ووحشية عبر عصور التاريخ الاستعماري وبخاصة ما ينفذه فيها المحافظون الجدد. وما يحيّرُ حتى الدَّهشة...

كيف لآلات الخليج والجزيرة، أقصد عائلات البترول كيف تقبل على نفسها أن تضعَ كلَّ أموالها ومقدراتها تحت تصرف الغدر الاستعماري لتقتل به أبرياء الأمة العربية..؟!

أليسَ هؤلاء الأدوات هم أشدُّ همجيّةً ووحشيةً من العدوِّ ذاته؟!

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/أيلول/2012 - 29/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م