الكفاف في المعيشة

من فكر المرجع الشيرازي

عبدالكريم العامري

 

شبكة النبأ: من الموضوعات المهمة في الحياة العامة، موضوعة الكفاف. فقد تناولها المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي(دام ظله) في محاضراته القيمة، التي تحدد الطريق الصحيح في الحياة.

فالكفاف هو المقدار الذي يكفي الإنسان لسنته. يظهر من عدة أمور، منها:

1ـ المقدار الضروري الذي يحتاجه لمعيشة نفسه.

2ـ ما يحتاجه لحفظ كرامته. مثلا، لا يليق بالرجل أن يخرج الى الشارع بسروال قصير فقط وإن كان يمكنه أن يعيش به وحده، لكنه يحتاج الى ما هو أكثر من ذلك لحفظ كرامته الاجتماعية، لأنه لو خرج بسروال قصير فقط لتعرض للسخرية والحط من شأنه وشخصيته.

3ـ ما يحتاجه لتوفير العيش الكريم لمن يعيلهم، كالزوجة والأولاد، وبحكمهم الضيوف، خاصة لمن كان من شأنه ذلك. ولا شك أن الإنسان يستحب له أن يتقشف في مصارفه الشخصية، لكنه لا يستحب له أن يتقشف على عائلته وضيوفه، بل العكس هو الصحيح.

4ـ ثم إن الله تعالى أمر المسلمين بالعمل من أجل بلوغهم الاكتفاء الذاتي وعدم خضوعهم اقتصاديا للكفار، فقد يريد التاجر مثلا أن يترك عمله لأنه قد حصل على ما يكفيه من المال، لكن الإسلام يأمر أتباعه بالتجارة لئلا تنتقل أزمة اقتصاد البلاد والعباد الى الكفار، وهكذا تكون مواصلة العمل بالتجارة جزءا من الكفاف المطلوب اجتماعيا وإن كان التاجر المسلم قد وصل الى مرحلة الكفاف الشخصي.

ما عدا هذه الأمور المتقدمة يعد زيادة، وفخا، على الإنسان المسلم أن يحذر منه بدلا من أن يتمناه... ما الهدف من ذلك؟

ينبغي للإنسان أن يتقشف على نفسه، لكنه يستحب له أن يبذل على عائلته وضيوفه، وينبغي للإنسان المسلم أن يقنع بما يسد حاجته ولا يمد عينيه الى المزيد إلا فيما أمر الإسلام. هذه الأمور وأمثالها تكشف عن أن هدف الإسلام هو تربية الإنسان لكي يسمو ويتكامل روحيا، وإن ذلك لا يتحقق إلا إذا آثر الإنسان بما يحب. قال تعالى: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) سورة آل عمران/ 92.

يرى السيد المرجع الشيرازي أن للإنفاق هدفين:

الأول: سد حاجة المنفق عليه.

الثاني: تحقيق الكمال للمنفق نفسه.

إن الله تعالى قادر على أن يعطي الفقير ويغنيه كما هو قادر على أن يسلب الغني ويفقره، لكنه سبحانه جعل هذا التفاضل من أجل الامتحان والابتلاء والتربية لهما معا؛ ولذلك قال تعالى وهو الحكيم (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) سورة آل عمران/26.

الاستشهاد بمواعظ السيد المسيح

يستشهد السيد صادق الشيرازي، بقصة نافعة في هذا المجال، والاستشهاد بذات الوقت يدل على سماحة المرجعية الشيرازية المتفتحة على أديان الله سبحانه وتعالى، يقول: ذهب عيسى الى مكان ما وصحبه يهودي وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى تشاركني؟ قال اليهودي: نعم، فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما نام عيسى جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف: أكل لقمة، قال له عيسى ما تصنع؟ فيقول له: لا شيء. فيطرحها حتى فرغ من الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى: هلم طعامك، فجاء برغيف، فقال له عيسى أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد. فسكت عنه! انطلقوا فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاة من غنمك. قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال لليهودي: كل ولا تكسر عظما. فأكلا فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه، وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة تثغو، فقال يا صاحب الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: من أنت؟ قال عيسى: أنا عيسى ابن مريم. قال: أنت الساحر. وفر منه.

قال عيسى لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدما أكلناها، كم كان معك من رغيف؟.

فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد.

فمر بصاحب بقر فقال له: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلا.

فقال: ابعث صاحبك يأخذ.

فقال: انطلق يا يهودي فجئ به.

فانطلق فجاءه به فذبحوه وشووه وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسر عظما.

فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه وقال: قم بإذن الله.

فقال له خوار.

فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك.

قال: ومن أنت؟

قال: أنا عيسى.

قال: أنت الساحر ثم فر منه!

قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعدما أكلناه؟!

قال: يا يهودي، فبالذي أحيى الشاة بعدما أكلناها، والعجل بعدما أكلناه، كم رغيفا كان معك؟.

فحلف بذلك ما كان معه إلا رغيف واحد.

فانطلقا حتى نزلا قرية، فنزل اليهودي في أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى وقال: أنا الآن أحيي الموتى. كان ملك تلك القرية مريضا شديد المرض، فانطلق اليهودي ينادي من يبغي طبيبا، حتى أتى ملك تلك المدينة فأخبره بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه.

فقيل له: إن وجع الملك قد أعيى الأطباء قبلك، ليس من طبيب يداويه ولا يغني دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب.

فقال: أدخلوني عليه فإني سأبرئه.

فأدخل عليه، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات. فجعل يضربه وهو ميت ويقول: قم بإذن الله.

فأخذ ليصلب فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟.

قالوا: نعم.

فأحيى عيسى الملك، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علما. والله، لا أفارقك أبدا.

فخرجوا، فمروا بثلاث لبنات، فدعا الله عز وجل عيسى فصيرهن من ذهب.

قال: يا يهودي، لبنة لي ولبنة لك، ولبنة لمن أكل الرغيف.

قال أنا أكلت الرغيف.

ثم إن عيسى عليه السلام تركه مع اللبنات الثلاث وانصرف. فأتاه رجلان، فأراد أن يأخذاه ويقتلاه.

قال: هو بيننا أثلاثا.

فقالا له: إنا لا نستطيع هذا الذهب إلا أن نحمله على شيء، فخذ من هذا الذهب فاشتر لنا به طعاما واشتر لنا ظهرا نحمل عليه من هذا الذهب.

فانطلق لما أمراه به، فأتى الشيطان الرجلين فقال لهما: إذا أتاكما فاقتلاه واقسما المال نصفين.

فلما أحكم أمرهما انطلق الى الآخر فقال: إنك لن تطيق هذين فاجعل في الطعام سما فأطعمهما واذهب بالمال وحدك.

فابتاع من المدينة سما فجعله في طعامهما. فلما أتاهما وثبا عليه فقتلاه ثم قربا الطعام فأكلا منه، فماتا.

فانطلق عيسى الى حاجته ثم رجع فإذا هو بهم قد ماتوا عند الذهب.

فقال لصحابه : انظروا الى هؤلاء.

ثم حدثهم حديثهم، ثم قال: النجاة النجاة، فغنما هي النار.

فعندما نسمع بمثل هذه القصص من سير الأنبياء ينبغي أن نعتبر بها، لأنها تذكرنا فيما إذا مررنا أمام امتحان مشابه، فهل يا ترى سنكون كهؤلاء الرجال الثلاثة الذين ضحوا بحياتهم من أجل ثلاث قطع ذهبية،، أم سنعتبر بقصتهم!؟.

قد لا نركض وراء الذهب لأننا نعلم أنا لا نحصل عليه، لكن بالنسبة الى أمور أخرى أيضا قد نكون كذلك كحب التفوق على الأقران وحب الظهور وغير ذلك.

جعلنا الله من المستفيدين من مواعظ القرآن الكريم ووصايا أهل البيت عليهم السلام والمعتبرين بما جرى على الأمم الماضين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/أيلول/2012 - 24/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م