التجديد والحرية والعلم وبناء الدولة المدنية

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: في هذه الحلقة من سلسلة بناء الدولة المدنية، سوف نتطرق الى أهمية تجديد الفكر والحياة معا، في ظل اجواء متحررة، لا قيود فيها على الابداع، مع سعي حثيث لتحويل العلم الى عمل، حيث تتآزر هذه الشروط والمرتكزات معا، لتشترك كلها في بناء الدولة المدنية.

وقد سعى الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، عبر نظرياته ورؤاه في مؤلفاته الكثيرة، الى انتقال المسلمين - بلدانا وشعوبا ومجتمعات- من مرحلة التخلف والتأخر، الى مرحلة التمدّن، عبر بوابات الحرية والاصلاح والعلم وتجديد الفكر، وقد ركز سماحته على أهمية اصلاح الذات أولا، فكل شيء يبدأ بالفرد، أي بنفسه وامكانية تقويمها والتحكم بها وترويضها، واطلاق القدرات والمواهب بالاتجاه الصحيح.

لذا يقول الامام الشيرازي في كتابه القيّم، الموسوم بـ (لنبدأ من جديد): (إن أوّل التغيير إلى الصلاح أو الفساد هو الإنسان).

تجديد الفكر وبناء الدولة

الدولة المدنية لا تختلف عن غيرها من الاشياء في مراحل البناء، فكما هو البيت يبدأ بالاسس الصحيحة وتواصل البناء الصحيح من حيث التصميم الخارجي والداخلي، وطبيعة وجودة مواد البناء، كذلك تتطلب الدولة المدنية أفكارا عظيمة يتم غرسها في نفوس الشعب، لتتحول الى منهج سلوك حياتي عملي فكري، قابل للتطور والتجدد مع الزمن، كي يكون مواكبا للعصر ومستجداته.

أما اذا فشل الانسان في بناء ذاته واصلاحها اولا، فإن العواقب ستكون وخيمة، عليه اولا ثم على المجتمع، ثم العجز في بناء دولة المؤسسات التي تضمن حرية الرأي والتعدد والتعايش وكل شروط الدولة المدنية الاخرى، لذا ركّز الامام الشيرازي كثيرا على اهمية بناء الانسان، لأنه مادة وفكر الدولة، ولكن ينبغي أن يكون هناك استعداد مسبق لدى الانسان من اجل التغيير نحو الافضل، لذا يقول سماحته في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (إن التجديد يبدأ من نفس الإنسان، فإنه إذا لم يصلح الإنسان نفسه لا يمكنه إصلاح غيره من بني نوعه أو المحيط المتعلق به ، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والطبيعي وغيرها، وقد قال سبحانه: إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم).

وهكذا يحتاج المسلمون الى ارادة فعالة، تحملهم من خانة الجهل والتردّي، الى خانة التطور والاستقرار، وهذا الامر يتطلب القضاء على الفساد بكل انواعه، من خلال تحديث شخصية الانسان، وتطوير ملكاته وتجديد فكره، وإتاحة فضاءات الحرية امام ابداعه وطاقاته، ولا يصح أن نلقي اللوم على جهات اخرى بخصوص اسباب التخلف والجهل.

حيث يؤكد الامام الشيرازي على أن السبب هو ضعف ارادتنا وكسلنا، وعدم وجود الاستعداد المطلوب للتغيير، ولهذا يقول سماحته في هذا الصدد: (إن بلاد الإسلام وقعت ضحية التخلف والفساد والجهل والمرض والفقر والفوضى والرذيلة، لماذا؟ في الغالب يكون الجواب: انه من صنع الغرب، لكن لنتذكر انه لولا إرادة نفس المسلمين وضعفهم لم يستطع الغرب من النفوذ إطلاقاً).

ماهي أسس التقدم؟

ويتساءل الامام الشيرازي، ما هي السبل التي تقود المسلمين الى التقدم؟ ويطرح البدائل التي تتمثل لديه، بالحرية والعلم، ومن ثم تحويل الأخير الى صناعة او مادة ملموسة، أي تحول افكار العلم المجردة، الى منتجات وسلع تخدم الانسان في حياته، لذلك يؤكد سماحته قائلا في هذا السياق: (من أهم ما يلزم في البدء من جديد: رعاية أسس التقدم وهي الحرية والعلم والصنعة،  فاللازم على من يريد التحرك لإنقاذ البلاد وإسعاد العباد أن يهتم بهذه الأمور الثلاثة).

ويعطي الامام الشيرازي حيزا كبير لاجواء الحرية، ودورها الاساس في اتاحة الفرص الكبيرة والكثيرة امام الانسان، كي يتطور ويبدو فاعلا ومنتجا وقابلا للتطور في نفس الوقت، لذا يرى الامام الشيرازي أن الحرية من أهم الركائز التي يستند إليها المجتمع في تطوير قدراته، وسعيه لبناء دولته المدني المعاصر، حيث يقول سماحته في كتابه نفسه: (الحرية هي أساس البقاء ثم التقدم، إن الإنسان إذا لم يكن حراً لم يبق حياً فكيف يمكنه أن يتقدم؟).

ويربط الامام الشيرازي صحة الحياة السليمة، بشرط الحرية، فمن دون الحرية، لا تكون هناك حياة مكتملة وراقية، بل يؤكد سماحته، أن غياب الحرية يعني انتفاء الحياة برمتها، هكذا هي قيمة الحرية في منظور الامام الشيرازي حسبما يرد في نظرياته ومؤلفاته ومعظم كتاباته، وهو امر اكدته تجارب الامم والشعوب التي تحتل الآن موقع الصدارة في التمدن، حيث جعلت هذه الامم مكن الحرية هدفا حياتيا حاسما لها، وسعت اليها بكل ما تملك من قدرات، وقدمت التضحيات الجسام من اجل الوصول الى الحرية غير المنقوصة، لأنها تعي وتؤمن، أن الحياة من دون الحرية لا تساوي شيئا البتة، لذا يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إن العمل للحياة لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم تكن حرية لم يكن عمل للحياة).

ما هي متطلبات الانقاذ؟

لقد ادرك الامام الشيرازي محنة المسلمين في دولهم ومجتمعاتهم، ووصفها بأنها تحتاج الى عمل حقيقي ومدروس ومنظم من اجل الانقاذ التام، ولعل مفردة الانقاذ تعني امرا حاسما ومصيرا نهائيا، حيث تعاني الامة من الجهل والتخلف والمرض والفساد وكل عناصر التدمير المجتمعي وسواه، لذا يتطلب الامر حالة من الانقاذ الفعلي المتواصل، وهذه تتطلب بعض الشروط والمتطلبات، يرى الامام الشيرازي أولها يكمن في صنع اجواء التحرر للانسان، حيث يقول سماحته بوضوح تام: (الحرية هي أوّل متطلبات العمل للإنقاذ).

ولذلك يدعو سماحته بقوة الى اعادة الحريات المسلوبة من الناس، بغض النظر عمّن سلبها، هل هو المستعمر، أم الحاكم، أم السلوك الاداري البيروقراطي المتعجرف، حيث يؤكد سماحته قائلا في هذا الجانب: (من الضروري، أن نبدأ بإعادة الحريات إلى بلاد الإسلام).

لذا مطلوب السعي الحثيث نحو الحرية من خلال غرسها في النفوس، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: إن (إعادة الحرية تحتاج إلى ملء النفوس بها والتواصي فيها حتى يطلبها الكل، فلا يجد الدكتاتور ومَن وراءه من الغرب وقواه سبيلاً لإبقاء الدكتاتورية).

ولا ينسى الامام الشيرازي دور العلم في بناء الدولة المدنية، ومدى قدرته على مؤازرة الحرية في هذا المجال الحيوي، اذ يقول سماحته: (من أسس التقدم لتجديد الحياة: العلم، فإنه إذا توفرت الحرية، أتى دور (العلم) لأنّ العلم لا يكون إلاّ بالحرية، إذ العلم يأتي بالخطابة والكتابة وبسائر الوسائل السمعية والبصرية وما أشبه، وإذا كان الحاكم يمنع كل ذلك ـ إذ لا حرية ـ فهل يمكن التعليم والتعلم؟ ولذا لم يكن من الغريب أن تكون مختلف وسائل نشر العلم في بلاد الاستبداد تحت الرقابة الشديدة ووضع القيود الصارمة عليها، وإن كان المنع عن هذه الوسائل بمختلف الأعذار، لكن الجوهر واحد، وهو سياسة التجهيل).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/آب/2012 - 8/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م