الملفّقات العراقية السبع

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: للعرب في الجاهلية، حضورهم الحضاري، هكذا تقول المدونات التاريخية، وهو حضور لا يعدو عن كونه خطب قصيرة، بغية الإقناع والإمتاع، بكلام بليغ وجيز. فهي قطعة من النثر الرفيع، قد تطول أو تقصر حسب الحاجة لها.

من قبيل (ما فات قد فات، وما مات قد مات، وما هو آت أت)، او هو مجموعة من الامثال، من قبيل: (لا يطاع لقصير أمر, ولأمر ما جدع قصير أنفه)، (بيدي لا بيد عمرو). وكذلك الأمثال الواردة في قصة ثأر امرئ القيس لأبيه ومنها: (ضيعني صغيرا وحملني ثأره كبيرا)، (لا صحو اليوم ولا سكر غدا)، (اليوم خمر وغدا أمر).

وهناك القصص، الذي كانت تهفو إليه النفوس وتسمو إليه الأعين عند عرب الجاهلية كما عبر عن ذلك بروكلمان، فكان القاص أو الحاكي، يتخذ مجلسه بالليل أو في الاماسي عند مضارب الخيام لقبائل البدو المتنقلة وفي مجالس أهل القرى والحضر، وهم سكان المدن بلغتنا اليوم، وامثلة ذلك حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس... وايضا يندرج ضمن هذا الادب (الحكم -النثر المسجوع أو سجع الكهان – الوصايا).

في مجال الشعر تفوق العرب كثيرا على بقية الامم، من خلال شعرائهم والاغراض التي تناولها الشعراء في قصائدهم، وكانت تندرج تحت عدة اغراض منها: الفخر والحماسة – الهجاء –الغزل – الوصف – المدح – الرّثاء – الاعتذار.

وقد نبغ عدد من الشعراء في ذلك العصر، ولشدة اعتزاز العرب بقصائدهم فانهم كتبوها بماء الذهب وعلقوها على جدران الكعبة، وهي ماعرف لدى الدارسين بالمعلقات السبع.

وهي:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ (امرؤ القيس).

لخولة أطلال ببرقة ثهمد، لـ (طرفة بن العبد).

آذَنَتنَـا بِبَينهـا أَسـمَــاءُ (الحارث بن حلزة).

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ (زهير بن ابي سلمى).

أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا (عمرو بن كلثوم).

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ (عنترة بن شداد).

عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَـا (لبيد بن ربيعة).

وهناك من يجعلها عشر معلقات باضافة ثلاث اخرى لها، والقصائد المضافة هي:

ودع هريرة إن الركب مرتحل، لـم (الأعشى).

أقفر منا أهله ملحوب، لـ (عبيد بن الأبرص).

يا دارمية بالعلياء والسند لـ (النابغة الذبياني).

ومنذ قرون طويلة والعرب يفاخرون بهذه المعلقات، التي ماعاد العرب انفسهم يفهمون كلماتها، او مراميها الا المختصين منهم.

والمعلقات، ومثلها بقية الشعر العربي في العصور اللاحقة تكشف عن الظاهرة الصوتية التي اتسم بها العرب، كما يذهب القصيبي الى ذلك.

العراقيون ورثة هذا الارث التاريخي، مثلهم مثل بقية العرب، وهم قد زادوا عليه الكثير هذه الايام، ايام ديمقراطيتهم الانتقالية، التي يفاخرون بها بقية العرب، وانهم الاسبق الى عوالم الانتخابات، والتمثيل السياسي، ومنهم من يذهب بعيدا في المفاخرة، ويعود الى العام 1991 ايام الانتفاضة الشعبانية، وانها اول انتفاضة بوجه حاكم مستبد مثل صدام حسين، بالمختصر يفاخر العراقيون بانهم الاوائل في كل شيء، بدءا من الكتابة، والعجلة والقوانين ونظم الري والبناء وغيرها الكثير مما حفظته المدونات التاريخية منذ عصور سحيقة.

طبعا لا مانع لدينا من مثل هذه المفاخرات لكنها كما نرى مفاخرات تقوم على عدم الوعي بها او البناء والتراكم فوقها، وهي مفاخرات مقطوعة عن جذورها الا اللهم ما نسمع به من الراطنين بالاحاديث الصحفية واللقاءات التلفزيونية.

هي مفاخرات لاتسمن من جوع ولا تقدم او تؤخر مثلما فعلت المعلقات السبع او العشر للعرب العاربة، او الغاربة شموسهم منذ دهور طويلة. وهي مفاخرات يقترح الكاتب تسميتها ب (الملفّقات السبع) على نفس الوزن في التسمية مع المعلقات السبع، هذه الملفقات هي:

انا عراقي انا اقرأ.

وهي الملفقة الاخيرة في سلسلة هذه الملفقات، من فضاء العالم الافتراضي أطلقت مجموعة من الشباب العراقي مشروعاً لاقى إقبالاً واضحاً من الأجيال الشابة في غضون مدة قصيرة عبر نافذة الفيس بوك، الأمر الذي ربما بإمكانه أن يحول الانطباع المأخوذ عن شبابنا من أنهم لا يقرأون الى العكس تماما، إذا ما توفر الجد والإصرار على إكمال الطريق حتى النهاية، والنهاية هنا تعني تحقيق أهداف المشروع، وفي مقدمتها عقد صداقة حميمة مع الكتاب والمكتبة، انطلاقاً من عالم الفيس بوك الافتراضي الى العالم الواقعي... هكذا جاء في التعريف بهذا المشروع.

تعرفت الى احد الاشخاص، في الخمسينات من عمره، ضابط قديم، من المحبين للقراءة، وهو يعمل سائق لسيارة اجرة يقوم بتوصيل مجموعة من الموظفين الى مقر عملهم، في احد الاقضية التابعة لمحافظة عراقية، يقول هذا القاريء: حين اوصل هذه المجموعة ابقى حائرا كيف اقضي بقية الوقت حتى خروجهم من الدوام، ذهبت الى المكتبة العامة في ذلك القضاء، اوقفت سيارتي وترجلت منها. ثم دلفت الى المكتبة. استقبلني عدد من الموظفين وهم يتساءلون عما افعله هنا. قلت لهم باني جئت للمطالعة. كانت دهشتهم لا توصف، وهم يطلبون مني التوجه الى مدير المكتبة، وحين دخلت عليه كان مندهشا ايضا من طلبي للمطالعة، وهو يقول انت اول مرتاد للمكتبة منذ سنوات طويلة جدا، حتى اننا نسينا مغزى وجودنا هنا. اشار لي بالتصرف على حريتي واوصى الفراش بتقديم اقداح الشاي لي كلما رغبت بذلك.

وفي محافظة اخرى، اشتكى عدد من موظفي مكتبتها العامة من تحول المكتبة الى مأوى للفئران والعقارب وبقية الزواحف الاخرى لعدم وجود المرتادين ناهيك عن بقية المحافظات العراقية.

أنــــا عراقــــي وافتخـــر.. واين وجه الافتخار؟

في المراتب المتقدمة للتصنيف العالمي للفساد؟ ام في التصنيف العالمي للدول الفاشلة؟ ام في عدد الاميين؟ ام في عدد سراق المال العام والمضاربين بالدولار ومهربي النفط ومزوري الشهادات والساسة الارهابيين وكل فضيحة لا يستحي منها المفضوح؟

انا عراقي شريف... وتلك ملفقة اخرى، من المضحكات المبكيات.

فقيم الشرف لامجال لها في مجتمعنا الا ما تعلق منها بالمرأة، وتحديدا جزء خاص من جسدها... اما باقي القيم النبيلة للشرف المتعارف عليه في بلدان العالم فلا اثر لها ابدا. من ذلك:

المواطن الشريف في امريكا هو من يدفع الضريبة، ويحترم القوانين. ومن قيم الشرف في بريطانيا هي احترام المواعيد، ومن قيم الشرف في اليابان، الدقة والاخلاص في الاعمال.

هل رأيت عراقيا شريفا يحبذ دفع الضرائب؟ انه لا يدفع اجور الماء او الكهرباء وخدمات الهواتف الارضية، لا يحترم القوانين، حتى ابسطها وهو حزام الامان، لا يحافظ على مواعيده بداعي الازدحام والطرق المغلقة، لا يخلص في عمله وليس دقيقا فيه. كيف تكون عراقيا وشريفا وانت لا تمتلك جزءا ولو يسيرا من ذلك؟

السيادة الوطنية... وهي تذكرنا بالخطابات العتيدة للقوميين والعروبيين ايام الاستعمار والصهيونية، وانت لا تنفك تسمع في كل تصريح هذه المفردة العقيمة، التي اطاحت بها اسعار البصل في شهر رمضان المبارك، مثلما طوّحت بها زيارة وزبر خارجية الباب العالي العثماني الى كركوك، ومثلما اسقطتها كثير من الممارسات للسياسيين العراقيين منذ العام 2003 وحتى الان، ناهيك عن العقود السابقة لذلك العام.

الرموز الوطنية... وهذه الملفقة ايضا واحدة من السبع العظام، في خطابات السياسيين وعلى صفحات الصحف والفضائيات، فشربت الحاج زبالة رمز وطني، وشارع ابو نؤاس رمز وطني، والسمك المسكوف رمز وطني، وباجة الحاتي رمز وطني، والبامية البترة رمز وطني، وكباب زرزور رمز وطني، وعضو مجلس المحافظة رمز وطني، والسياسي زعيم الكتلة الذي اوغل في الدماء رمز وطني، والزعماء الداعين الى الانفصال رموز وطنية، والنشيد الوطني الذي استعرناه من عرب اخرين رمز وطني، وعضو القائمة الفلانية رمز وطني... واي انتقاد بكلام او تلميح فهو انتهاك للرموز الوطنية، كم من رموز فيك ياوطني؟

ارفع راسك انت عراقي... في الثمانينات من القرن المنصرم، وفي عز الحرب العراقية الايرانية، ساد شعار بين الناس، عن طريق الجنود الذين ابتكروه وكانوا يقاتلون في جبهات القتال، كان الشعار هو (دنّك لا يلوحك القناص) وتعني (اخفض راسك لا يصيبك القناص)، من يومها ونحن نطأطئ رؤوسنا، (اجاك الذيب، اجاك الواوي)، وحتى في الدوائر الرسمية التي نراجعها، وقد انتبهت لهذه الظاهرة متأخرا، انك دائما ما تكون مطأطأ الراس حين تتحدث مع الموظف عبر الشباك، وانت تطالبه بتمشية معاملتك، وهو يطالبك بكيت وكيت واحيانا يطلب منك لبن العصفور، الذي لم نعد نراه في سماواتنا لاننا لا نستطيع رفع رؤوسنا او لانه اختفى من تلك السماوات.

وانت لا تستطيع ان ترفع راسك، فالسير في طرقات مدننا لا يحمد عقباه، ربما تعثرت بحفرة من مياه اسنة، او بعبوة متفجرة، او باكوام الزبالة التي تنتشر في كل مكان.

وانت لا ترفع راسك لانك لا تستطيع ذلك، لكثرة ما تحمل من هموم وما تفكر به من مكابدات.

ايها العراقي، تلك ملفقة من الملفقات فلا ترفع راسك.

انا عراقي بأخلاقي راقي... وهي قد تكون الملفقة الاخيرة من الملفقات السبع، وقد انتبه لها واضعوا ورقة الاصلاح الوطني حين ادرجوا كما قرأنا عبارة الاصلاح الاخلاقي... اضافة الى الاصلاح السياسي والاقتصادي وغيرها من اوجه الاصلاح.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/آب/2012 - 22/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م