الدولة المدنية... بناء ومتطلبات

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: يتطلب بناء الدولة المدنية، تطوير قيم راقية تنم عن وعي عال بالمسؤولية المتبادلة في العلاقات الاجتماعية وسواها، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التطور التصاعدي للجانبين المادي والفكري، ومن ضمنه منظومة القيم، فالتطور في البناء والعمران وما الى ذلك، من زيادة في الارصدة والبنوك والعملة الصعبة والتبادل التجاري الكبير وما شابه، كلها لا تستطيع ان تبني دولة مدنية معاصرة، مالم يتحرك الفكر الى امام، ليأخذ دوره في بناء القيم التي تصنع الفرد المنتج ماديا وفكريا، كونه خلية المجتمع المدني الناجح.

صفات لا تليق بالتمدّن

من الظواهر السلوكية والفكرية ايضا، ما يساعد على تأخير المجتمع وجعله يراوح في مكانه، بينما الشعب المتطلعة الى امام تحقق قفزات كبيرة باتجاه التحضر، ومثل هذه المجتمعات التي تحقق قفزات متسارعة نحو المدنية، تتمكن من القضاء على الظواهر السيئة في منظومتها السلوكية والفكرية ايضا، في حين تبقى المجتمعات المتأخرة أسيرة هذه الظواهر، كما يحدث في بعض البلدان الاسلامية والافريقية او بلدان العالم الثالث.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (فلسفة التأخر) حول هذا الموضوع:(من فلسفة التأخر التملّق، فإنه إذلال للنفس ومهانة، ووضع لها دون موضعها، بالإضافة إلى أنه ربما أغرى الطرف ــ إذا كان حاكماً ــ بالاستبداد والمد في الغي والطغيان).

وهكذا يمكن لظاهرة التملق، وانتشارها في السلوك المتبادل بين الافراد والجماعات، ان تكون عنصر اعاقة لتطور الدولة نحو التمدن، لأن هذه الظاهرة تقضي على احد اهم شروط التقدم وهو الكفاءات واستثمارها الامثل، في حين ان التملق يبعثر الفرص ويقوض الكفاءات، ويفتح الباب واسعا نحو الجهل والقبلية والتخلف.

وهناك ظاهرة اخرى تدمر البناء المجتمعي، وتقود الى تخلف البناء المدني للدولة، تتمثل بعدم احترام الناس سواء بعضهم لبعض او من لدن مؤسسات الدولة، والسلطة واجهزة الامن وما شابه، لذا فإن عدم الاعتداء على الاخرين، يمثل ركيزة للتطور في البناء المدني، كما يرى ذلك الامام الشيرازي، حيث يقول في كتابه المذكور نفسه حول هذا الجانب: (من فلسفة التأخر، عدم إعطاء الناس قدر حقهم، في أي بعد من أبعاد الحياة، فإنه ظلم وتعدّ وبغي، وقد قال سبحانه وتعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ). ويضيف الامام الشيرازي قائلا في هذا الصدد ايضا:(بالإضافة إلى أن من يفعل ذلك يهين نفسه ويسقطها عن نظر المجتمع، والاستبداد مذموم لألف انحراف وانحراف، ومن جملتها هذه الجهة حيث إن ذلك إعطاء للنفس أكثر من حقها، فالحاكم المستبد يخصص الرأي والحكم والإعلام والمال والسلطة ونحوها لنفسه، بينما أن أكثرها حق الغير الذي يستبد الحاكم به من دون حق، وقد تقدّم في فصل سابق أن الاستبداد من فلسفة التأخر).

احترام الكرامة الانسانية

ومن أساسات البناء المجتمعي الناجح، حفظ الكرامة الانسانية اولا، وجعلها تتقدم على جميع الاساسيات المعنوية الاخرى، فالانسان عندما يشعر بكرامته مصانة يكون اكثر ابداعا وانتاجا وتفاعلا من غيره، بالاضافة الى تزايد قدراته تبعا لاستقراره النفسي نتيجة لشعورة بكرامته واستحقاقاتها، لذلك لا يصح ابدا التشهير بالاخرين ولا النيل من سمعتهم واعراضهم، مهما كانت اسباب الخلاف سياسية او سواها، وكلما قل هامش هذا التجاوز، كلما اصبح المجتمع اقرب الى المدنية من سواه.

يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص: (من فلسفة التأخر، العيش على أعراض الناس والنيل من كرامتهم، كما يفعله بعض الشعراء والأدباء، فيسب هذا، ويهين ذاك، ويهتك الآخرين، في شعره أو نثره، في ندوته أو خطابه، إنّ هذا الإنسان إنما أظهر سوأته وإن زعم أنه يظهر سوآت الناس).

وثمة ظاهرة اخرى تتلبس الافراد، او ربما نسبة كبيرة من المجتمع، نتيجة لاسباب وظروف معينة، هذه الظاهرة هي حالة التشاؤم التي تسيطر على تفكير وسلوك الانسان، فتجعله في الغالب عاجزا عن التفاعل بوضوح وقوة مع الحياة برمتها، وبالتالي نكون ازاء مجتمع متشائم غير قادر على الابداع ولا على التطور.

يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بكتابه المذكور نفسه: (و من فلسفة التأخر، التشاؤم والتطيّر بالحياة والأحياء، بينما ليس الأمر إلاّ العكس، فالحياة جميلة، والأحياء حركة وبهاء، وحتى المشكلات والمآسي نوع من الجمال وتحفيز للتقدم. أرأيت النقش الجميل؟ فإنّ النقاط السوداء فيه جميلة أيضاً وتزيده جمالاً. ولذا اشتهر عند الفلاسفة، إنّ الله سبحانه لا يخلق إلاّ ما كان خيراً محضاً، أو كان خيره أكثر من شرّه، أما إذا كان شرّه أكثر فلا يخلقه سبحانه). هكذا يكون الخلق الالهي مساعدا للانسان، ولا يقف بالضد من طموحاته نحو البناء الامثل.

نتائج سوء الظن

من الامور التي يمقتها السلوك السليم، هو أن تظن بالآخر ما هو غير موجود فيه اصلا، بل استنادا الى تخيلات غير واقعية، قد تجعل من صديقك عدوا لك، ولذلك لابد من تطويع الامور والعلاقات كافة، كي تصب في صالح الانسان دائما، أي يجب على الانسان ان يستثمر حتى ما هو في غير صالحه ليجعله مساعد له.

ولذلك يذكر لنا الامام الشيرازي في كتابه (فلسفة التأخر)، هذه الحكمة التي تعبر عن قدرة الانسان، على استثمار كل شيء لصالحه، حيث يقول سماحته: (قال بعض الحكماء: اصنع من الليمونة الحامضة مُربىً حلواً، واجعل من الملح طعاماً مطبوعاً).

لهذا فان سوء الظن لا يساعد قط على بناء مجتمع متمدن، ولا دولة مدنية معاصرة، لأن هذه الظاهرة تشكل عائقا امام البناء المجتمعي السليم، كما نلمس ذلك في قول الامام الشيرازي في الكتاب نفسه: (ومن فلسفة التأخر سوء الظن بالله وبالناس وبالنفس، وقد يسيء الظن بالناس بأنهم حيّالون، مكّارون، مخادعون، سرقة، مفسدون وربما أساء الظن بنفسه، وتصور أنه لا يمكنه أن يعيش، ولا أن يتقدم في الحياة. وكل الأمور الثلاثة بالإضافة إلى أنها كذب وخلاف الواقع، توجب بؤس الإنسان النفسية، وتوقفه عن البناء والعمل، مما ترجع بالنتيجة إلى هدم نفسه وتأخيره عن الحياة والإحياء، وبالعكس من كل ذلك حسن الظن).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 6/آب/2012 - 17/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م