حياة المجتمعات الآسنة... قطعة شاش ومطلوب لا يباع!

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: قلعة المصائر المتقاطعة، رواية للكاتب الايطالي ايتالو كالفينو، لا تعنيني ثيمة هذه الرواية ومضامينها السردية وما كان يريده الكاتب، استعير منها فقط كلمتان هما (المصائر المتقاطعة) التي يمكن ان تكتنف حياة الانسان وتغيرها من حال الى اخر ليس في الحسبان.

المصير الانساني معروف ببداياته وخواتيمه، فهو بين ولادة وموت، وما بينهما مجرد تفاصيل تحيط باللوحة الكبيرة.

(المصير – المسير) متعلقان ببعضهما رغم تبادل السين والصاد، والثانية تقود الى الاولى لامحالة في نهاية المسير على طرقات الحياة، ولا مفر.

يدهشني في النفاق الاجتماعي عدم حياءه، حين دخلنا الى غرفة الضيافة كان متوجها الى القبلة يصلي فرض الغداء، انتظرناه حتى ينتهي من قيامه وقعوده، كنا نسمع حوقلته وبسملته، كان اولاده قد سطوا على منزل جارهم وسرقوا ثلاجة وتلفزيون ومجمدة، وكنا نريد استعادتها منهم، تحت طائلة الفصل العشائري، فهم قد (داسوا) البيت، لم نفلح في ذلك وخرجنا من محراب الصلاة مذمومين مدحورين.

قد يعود ذلك الى اننا لانتقن اصول اللعبة، لعبة المطالبات العشائرية، والتي اصبحت تجارة رائجة في عراقنا الديمقراطي، لا يمكن النظر الى الظاهرة العشائرية في العراق، من خلال فاصل زمني محدد بالعام 2003، بل يجب علينا النظر اليها من خلال العقود السابقة لذلك العام، وما أفرزته ايضا سنوات التسعينات العراقية.

من اجل تدعيم سلطته الرخوة والهشة والتي اصابتها كثير من الانتكاسات بدءا بالعام 1991 وانتهاء حرب الخليج الثانية والانتفاضة الشعبانية لمحافظات العراق، عمد القائد الضرورة الى السير باتجاهين يبدوان مختلفين للوهلة الاولى:

الاتجاه الاول: اطلاق الحملة الايمانية الكبرى في عموم العراق للتنفيس عن الاحتقانات الاقتصادية من فقر وحرمان وجوع ساغب، والاتجاه بالتفكير الجمعي العراقي الى قوى غيبية لمحاولة التخفيف من تلك الضغوطات. كان الدين وقتها هو الخاصرة الرخوة التي يمكن الدخول عبرها الى تطمين الجياع وبان كل شيء هو قدر مكتوب على العراقيين القبول به.

الاتجاه الثاني: التوجه الى التنظيمات العشائرية، واعادة احياءها ومنحها امتيازات كبيرة مع اخذ تعهدات خطية مكتوبة من شيوخ العشائر في ما يتعلق بالاخبار والتبليغ عن الخارجين عن سيطرة الحكومة او الفارين من الجيش او من لديهم ميول اعتراض على النظام او الحكومة. وكان ان انتشرت ظاهرة ماعرف وقتها ب (شيوخ الانابيب) كناية عن التلقيح الصناعي الذي بدأت به المختبرات الطبية من استنساخ للنعجة دولي الشهيرة.

ساد هذان الاتجاهان وعملا على تعميق الفجوة بين الدين والتدين، في الاتجاه الاول، وبين العرف العشائري والقانون المدني في الاتجاه الثاني.

هذه الفجوة اخذت تتسع باضطراد كبير، ومعها ظهرت جملة من الظواهر الاجتماعية والثقافية.

مع ازدياد عدد المساجد بدأت تزداد عمليات النصب والاحتيال (سامكو) والتدليس والسرقة والفساد المالي، ومع اتساع مساحات تلك المساجد، اتسعت رقعة الخراب الاخلاقي وموت الضمائر، ومعها ايضا توسعت عمليات الفصل العشائري والمنازعات التي لا تحلها الا الاعراف العشائرية في تناقض صارخ مع مفردات الحملة الايمانية والتوجه (التدييني) الجديد للمجتمع العراقي.

كانت تلك السنوات سنوات ركود، فلا طبقة وسطى، ولا نخبة مثقفة تستطيع ان ترفع لواء التغيير، وعمت ثقافة الاستنساخ مناحي الحياة كافة.

فالكتاب مستنسخ، والتقاليد الجديدة في السلوك اليومي تستنسخ وتصبح نسقا اجتماعيا، واللغة المحكية ايضا تاخذ دورها في عمليات الاستنساخ... كل شيء اصبح نسخة عن ومن شيء اخر، حتى امراضنا وهمومنا ومشاغلنا، هي صورة (كوبي) لتلك المستنسخات البغيضة.

لا يمكن للتميز ان يشق طريقه وسط هذا الزحام من الاستنساخ، واذا اخترت تميزا من نوع ما عليك ان تختار بين القبر او المنفى، بعد العام 2003، استمرت حالة التدين المغشوش في صعودها، واستمرت معها ايضا الحالة العشائرية في صعود موازي.

النخبة السياسية، متدينة بغالبيتها، والتحالفات الجديدة تتطلب التوجه الى العشيرة لادامة الزخم بين صفوف الاتباع. وحتى النخبة السياسية التي تدعي العلمانية وترفع شعارات الحداثة والليبرالية، نراها تتوجه الى العشائر بحثا عن دعم شعبي لطروحاتها.

لم تحدث قطيعة متوقعة بين الموروث من العهد السابق مع التوجهات الديمقراطية المفترضة لفعل التغيير، وتحول الاتجاهان الى سلطات موازية لسلطات القانون والدولة.

وكان كل اشكال سياسي يحدث يترافق معه حديث عن العشيرة والمذهب، استبدت الاعراف العشائرية بالواقع، واصبحت النزاعات بين الاخرين لا يمكن ان تحل الا باعراف عشائرية تتنافى تماما مع كل تعليم او تشريع ديني.

وانتقل ذلك الى الكثير مما ينشأ عادة بين الناس من سوء فهم او مشاكل يومية تفرضها طبيعة التعاملات بينهم، ليدخل الى طبيعة المهن التي يزاولها الناس وما يترتب عليها احيانا من اخطاء ليست نادرة الوقوع او مستحيلة.

احدى الطبيبات تدفع مبلغ اربعين مليون دينار، وتحكم بالسجن ثلاث سنوات بسبب موت احدى مريضاتها بعد سنة وفي عملية اخرى لطبيب هذه المرة، لانها حسب ادعاء الطبيب قد نسيت في بطنها قطعة شاش.

وكان القاضي من الذكاء بحيث انه قبل بشهادة الطبيب متناسيا او غير عارف ان قطعة شاش ولمدة سنة يمكن ان تتسبب بالتهابات كثيرة وانتانات جراحية خطيرة تظهر بعد فترة وجيزة ولا تستغرق سنة كاملة.

وينسحب العرف العشائري بظلمه على اي شخص يمكن ان يرتبط بعلاقة ما مع الطرف صاحب العلاقة المباشرة في النزاع المفترض، كما نقرأ احيانا ما يكتب على بعض الدور مثل عبارة (مطلوب لا يباع) اي ان هذا العرف يساوي بين جميع افراد العائلة في محاولة الاقتصاص من فرد واحد منها، وقطع الطريق على الجميع في التصرف بملك يعود للعائلة باكملها وليس للمطلوب حصرا.

انها تجارة رائجة اخذت تفرش ظلالها على المجتمع العراقي وهي تشي بمدى ركود هذا المجتمع الذي يرتضي مثل تلك الممارسات خوفا على ملك او حياة او مال من الضياع.

نحتاج الى وقفة شجاعة لمحاربة تلك الظواهر قبل ان تدمر ما تبقى من حياتنا وتصادر النزر اليسير المتبقي من حرياتنا وعقولنا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/تموز/2012 - 6/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م