سقوط الانظمة التسلطية واندثار الامم المستسلمة

في فكر الامام علي

هلال ال فخر الدين

ان اطلاع القارئ اللبيب والباحث الحصيف على فكر الامام علي (ع) في علل ظهور وشموخ الدول الفرعونية واستكبارها ثم انهيارها (امبراطوريات سادت ثم بادت) لجديرة بالتأمل الواعي والفهم العميق ودراسة كل عبارة فيها لما تنطوي عليه من قوانين طبيعية وسنن كونية ونظريات سياسية فهي كما تنسحب على الانظمة الحاكمة كذلك تنسحب على الامم والحضارات والايديولوجيات والجماعات وعلى مختلف العصور وحسب تباين الظروف..

ابتداء من ظهور الحكومات البائدة لأقوام عاد وثمود وسومر واشور وظهور نمرود والفراعنة والنظم السالفة كقيام دولة بني إسرائيل الدينية وما بلغته من قوة وعزة زمن حكم النبي سليمان بما سخره الله له من قوى خارقة وما حصل بعدها من خلافات ايديولوجية وتفرق ملوك بني اسرائيل الى مملكة يهوذا والسامرة وتدهورها وانهيارها وتدميرها على يد البابليين والى ظهور امبراطوريات الفرس والاغريق و الرومان وسريان نظريات الامام (ع) تلك كذلك على تجربة الدولة الاسلامية بتقمص الجعل الإلهي للإمامة لرهط اطلقوا على انفسهم هالات التقديس (الخلافة) ونزى الظلمة على سدة الحكم وبالخصوص طلقاء بني امية (اغيلمة قريش) وماتتابع على سدة الخلافة من تسلط الطغاة والجبابرة بابراد الدين من عباسية ومملوكية وعثمانية وبمباركة من احبار مدرسة السقيفة وما تتابع من انظمة فرعونية قبلية متعددة وان زعم البعض منها بالحضارية والدولة المدنية لكنها لاتخرج عن اطار سابقاتها من استبداد وظلم وارهاب.. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر....

ان العلماء واصحاب الاختصاص في قيام الامم ونشوء الحضارات ثم شيخوختها وموتها لهم اراء ونظريات مختلفة كلا حسب ايديولوجيته وثقافته وتحليلاته واستنتاجاته وهي قد تصدق على امة دون اخرى وتختلف من حضارة الى اخرى ومن نظام الى نظام وهي لا تعدو وكما يشبهونها بالكائن الحي من الولادة والنمو والقوة والضعف والانهيار... لكن فلسفة الامام علي تختلف عن اراء ونظريات اولئك العلماء فهي من طراز اخر متكامل لكونها نابعة من النظرية الالهية وسابرة لغور الوقائع الانسانية ومتماشية مع السنن وهذا سر عظمتها واستمرار عطائها لانها كانت ولازالت حية متفاعلة مع ظروف الامم المختلفة والانظمة المتباينة لما فيها من قواسم مشتركة... بيد ان الامة لو اخذت بتلك الغرر الفريدة والحكم البليغة لما تسلط عليها الطغاة ولا استعرت على رقابها سيوف الاوغاد والان فما احرى بالامة وما احوجها للأخذ بتلك النصائح الحكيمة لمواجهة التحديات الكبرى والمخاطر العظمى وما وصلت اليه من درك التقهقر والتمزق وتكالب كافة القوى عليها واجتماعهم على نهشها وابتلاع ثرواتها وتسخيرهم عبيدا لمأربها...

والاجدر بهذا الخصوص مايتوجب على اتباع اهل البيت من عدم التفريط بجواهر تلك الحكم العلوية السديدة وشد النواجذ عليها لكونهم لو عملوا بها كانوا دائما احرارا يختاروا بارادتهم لانفسهم قادة صلحاء يعملون بالشورى وتلبية متطلبات الاحوال والدفاع عن المصالح ولما كانوا الاكثر تضررا من جراء تضييعها واشدهم بلاءا لتركها ومنذ 1400 عام ولحد الان تحتوشهم سيوف الاعادي وبأفظع قسوة واقصى ارهاب ومن كل جانب ومكان لتفرقهم على حقهم واجتماع اعدائهم على باطلهم.

صحيح ان الامام علي ينظر الى الامور بعين الله ولكنه عايش التجربة الاسلامية وساهم فيها بشكل فعال وفي اقسى ظروفها وما شهدته من مخاضات انقلابية كما وانه اصبح الخليفة الشرعي في اخطر فترة واحرج ظرف يمر به الاسلام ومايميز الامام عن سابقيه من الخلفاء سعة العلم والعبقرية والصلابة في الدين والروح الانسانية المحضة ويبقى ما زبره الامام منجما غني بالأسس العلمية والاحكام والقواعد والتجربة الثرية وتراكم الخبرات وما ضرسته الاحداث الجسام وما لاقاه من اللدد والعنت من جموع المنافقين والحاسدين وجحافل الناكثين والباغين والقاسطين رغم سابقته واحقيته واستغنائه عن الكل واحتياج الكل اليه وو.

وكذلك صواب احكام الامام من سبر اغوار الاحداث والنفوس واستقراء اسباب انهيار الامم وانطفاء جذوة عطائها وخمود حضارتها وانهيار الانظمة او علل تماسكها وسر نجاحها وفي هذا السياق ينبه الامام لأمور جوهرية وقواعد اساسية سواء في بناء الامم ونهضتها ام في تنازل العد لتراجعها وتدهورها الى تكالب الامم عليها وطمس هويتها واستباحت مقدراتها..والامام(ع) يؤكد ان الامم عندما تتنكر لقيمها وتتراجع عن مبادئها وتخادع نفسها ولاتركن الى اساس قويم فانها لامحالة تتهاوى وتسقط وفي هذا الصدد يؤكد الامام(ع) مخاطبا الامة:(وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تغضبون ! وأنتم لنقض ذمم ابائكم تأنفون !كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع فمكنتم الظلمة من منزلتكم وألقيتم إليهم أزمتكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات وآيم الله لوفرقوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشر يوم لهم)...(فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من حظهم فمالوا مع الدنيا ونطقوا بالهوى واني نزلت من هذا الامر منزلا معجبا اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم وأنا أداوى(أداري) منهم قرحا أخاف أن يكون علقا).

 ويؤكد الامام ان اسباب هلاك الامم (أما بعد فانما هلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه وأخذوهم بالباطل فاقتدوه) كان الامام(ع) دائما يؤكد على تحرير الارادة وعتقها من التبعية وكسر جدار الخوف للامة ودائما يرفع عقيرة النكير على الامة لعدم نصرتها للحق وتخليها عن مساندة الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون الانحطاط والتردي نصيبها قائلا: (أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقوا من قوى عليكم لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل ولعمري ليضاعفن لكم التيه من بعدي أضعافا بما خلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الادنى ووصلتم الابعد واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول وكفيتم مؤونة الاعتساف ونبذتم الثقل الفادح من الاعناق) كما ويبصر الامام سوء عواقب غفلة الامة وعدم تنبهها للمخاطر الكبرى المحيطة بها وتبدل المفاهيم وعدم اخذ الاهبة لها مما ينذر بالعد التنازلي لتقهقرها في انذاره لها قائلا: (أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن كنود –شديد- يعد فيه المحسن مسيئا ويزداد الظلم فيه عتوا لاننتفع بما علمنا ولانسأل عما جهلنا ولانتخوف قارعة حتى تحل بنا.!!!).

 كما ويشير الامام(ع) الى عوامل هلاك البشر بافراطهم بالتعدى واسرافهم بالفجور ليس لديهم معيار للحق والباطل وكل يعمل على هواه فالله يمهل ولا يهمل: (فإن الله لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء ولم يجبر عظم أحد من الامم إلا بعد أزل وبلاء وفي دون ما استقبلتم من عتب وما استدبرتم من خطب معتبر وما كل ذي قلب بلبيب ولا كل ذي سمع بسميع ولاكل ناظر ببصير فيا عجبا ! ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها؟! لايقتصون أثر نبي ولايقتدون بعمل وصى ولايؤمنون بغيب ولايعفون عن عيب يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات المعروف فيهم ماعرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا مفزعهم في المعضلات الى أنفسهم وتعويلهم في المهمات على ارائهم كأن كل أمرئ منهم إمام نفسه قد اخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات)

الامام يستنهض الهمم للبناء الداخلي ومواجهة التحديات

وكثيرا ما كان الامام (ع)يستنهض همم رعيته لمواجهة التحديات والاخطار باليقظة والحذر وجمع الكلمة ونصرة الحق والذود عن الحياض بدلا عن الخوار والتناحر والتواكل وغفلتهم عن أعدائهم وما يشحذوه من مكائد وما يخططونه للإغارة عليهم لأجل ارعابهم وارهابهم حتى يستذلوهم: (مالي أراكم أشباحا بلا ارواح وأرواحا بلا اشباح ونساكا بلا صلاح وتجارا بلا أرباح وأيقاظا نوما وشهودا غيبا وناظرة عمياء وسامعة صماء وناطقة بكماء راية الضلال قد قامت على قطبها وتفرقت بشعبها تكيلكم بصاعها وتخبطكم بباعها قائدها خارج من الملة قائم على الضلالة).. ولعل اثوار والاحرار استفادوا من كنوز ودرر الامام وما عاناه من المستسلمين الخانعين يقول المناضل جيفارا: إذا فرضت على الانسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد عليها سيفقد انسانيته شيئا فشيئا.

كلما كان الامام ينفخ في الامة وينخل لهم الحكم البالغة ويوضح لهم مكامن المصائب وجليل الاخطار فمايزيدهم الا جموحا وتغافلا وخلودا الى الراحة كأنهم خشب مسندة فبعد غارة الضحاك بن قيس صاحب معاوية على قوافل الحاج وذبحهم ونهب ممتلكاتهم بعد قضية الحكمين خطب الامام اهل الكوفة قائلا: (أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصم الصلاب وفعلكم يطمع فيكم الاعداء! تقولون في المجالس كيت وكيت فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد! ماعزت دعوة من دعاكم...المغرور والله من غررتموه ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الاخيب ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت والله لا اصدق قولكم ولا اطمع في نصركم ولا اعد العدو بكم).

وقد استصرخ الامام قومه لنفض غبار النوم والنهوض لمواجهة الاخطار المحيقة بهم لان الطغاة لايملكون الا وسائل الرعب والاغواء والالة الباطشة فاذا تصدت الامة لهم وصاعتهم الصاع صاعين كفوا وبعكسها ان استكانوا واستسلموا فيتنمر عليهم ويبادوا ويتضجر الامام مخاطبا اهل الكوفة: (أف لكم لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة عوضا؟ بالذل من العز خلفا؟ إذا دعوتكم الى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ومن الذهول في سكرة..).

 المعلوم ان كل ما عند المتجبرين هو سلاح الفتك والقوة المرعبة فعند صدها وارجاع سهام غدرها اليها تتهيب وتحسب للامر الف حساب وحساب قبل قدومها على اي حماقة لكن عند خمود جذوة المقاومة في الامة وتكاسلها وخنوعها لسطوة الظالمين فلا تنهض وتدافع عن حقها وصون كرامتها عند ذاك فقد تودع منها وهذا ما يؤكده الامام بمرارة عندما اغار بسر بن ارطاة على حواضر المسلمين بأوامر من معاوية فاستباح ونهب فخطب الامام (ع) اهل العراق بالتهيب واخذ العدة للعدو الغاشم قائلا: (لاظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الامانة الى صاحبهم وخيانتكم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم).

 وفي مرة اخرى يخطب الامام اهل الكوفة وكله حزن والم لهزيمة الكوفيين بسبب تشتت اهوائهم وعدم اطاعتهم للقيادة والتسليم لإرشاداتها: (يا اشباه الرجال ولا رجال حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال لوددت أني لم أراكم ولم أعرفكم.معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدما قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش: إن آبن ابي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب.لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما منى لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرفت على الستين !لكن لا رأي لمن لا يطاع!)

واخيرا لم يستطع الامام ان يكسر حاجز الخوف لأهل الكوفة وحل عقد تفرقهم واحياء روح الانتفاض على رد البغاة فيختصر الامام أسباب هزيمة الكوفيين مؤكدا: (أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلت لكم مخزون رأي لوكان يطاع لقصير أمر فأبيتم علي إباء المخافين الجفاة والمنابذين العصاة حتى أتاب الناصح بنصحه وضن الزند لقدحه فكنت أنا وإياكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى...فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد

واخيرا علل انتصار الاسلام كما يشخصها الامام علي: (إن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأمده (أيده) حتى بلغ مابلغ وطلع حيث طلع ونحن على موعد من الله والله منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم بالامر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام عزيزون بالاجتماع).

وقد تنبأ المصطفى (ص) ما ستؤول اليه احوال امته وصورها احسن تصوير نتيجة لتسلط الطغاة عليهم قال (ص) كيف بكم اذا تداعت عليكم الامم كتداعي الاكلة على قصعتها؟قالوا: امن قلة يارسول الله؟ قال: لا ولكنكم كثير كغثاء السيل؟ صدق رسول الله(ص) فهذا هو حقا واقعا احوال الامة الاسلامية اليوم من تفرقهم على كثرتهم وما يملكونه من ثروات عظيمة ولكنهم في ما بينهم في صراع وتناحر مستديم ولكن للقوى الكبرى عبيد اذلاء.

وما اشبه اليوم بالبارحة... بل ما اشد فضائع اليوم من البارحة...

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 4/تموز/2012 - 13/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م