ايران وتعدد الاذرع

جاسم محمد

الثورة الاسلامية في ايران هي اول من وصفت اميركا بالشيطان الاكبر عام 1979 ـ 1980 وهي من صفعت الولايات المتحدة بقضية الرهائن في الايام الاولى من الثورة الايرانية لتبعث رسالة الى العالم، بانها "صفعت اقوى قوة في العالم ". ورغم محاولة ادارة كلنتون خلالها بانقاذ الرهائن بعملية الكومندوز لكنها زادتها تعقيدا بسقوط المروحيات الاميركية في الصحراء الايرانية، لتخرج الرئيس كارتر من البيت الابيض. أما خلال الحرب العراقية الايرانية 1980ـ 1988 فقد اقامت ايران واميركا علاقات سرية استخبارية عرفت ضمن فضيحة ايران كونترا في عهد الرئيس الاميركي الاسبق رونالد ريغن عندما استقبلت بوش الاب كرئيس للـ سي اي اية.

علاقات ايران مع دول الجوار

تقع ايران في قلب المنطقة التي يطلق عليها حافة اليابسة وتقترب من نقطة الارتكاز الجغرافي وفقا لوصف المعنيون بالدراسات الجغرافية. تجاورها الباكستان وافغانستان شرقا، هاتان الدولتان تشهدا صراعا دوليا واستخباريا مع الولايات المتحدة بينما يمتد العراق على حدودها الغربية والتي يشهد صراعات سياسية الى زمن ما قبل الميلاد، ففي عام 539 ق.م احتل الفرس بابل، حتى هزمهم الاسكندر المقدوني عام 321 ق.م، وظل العراق منطقة صراع بين الفرس والرومان حتى مجيء سرجون الأكدي الذي تمكن من دحر الايرانيين والاستيلاء على دولتهم عيلام.

هذه الحدود والعلاقة خلقت الكثير من التداخل الجغرافي والديموغرافي بين ايران والعراق وجيرانها. فالتداخل الايراني الديموغرافي والمذهبي في العراق واضح عبر التاريخ وكذلك مع افغانستان رغم الاختلاف المذهبي، ويجعلها تقع وسط معظم شركاء القاعدة واميركا.

وقد جعل الاحتلال الاميركي للعراق وافغانستان من ايران طرفا في هذا الصراع، لتكون جسرا بريا يمتد من افغانستان الى العراق ومنصة على الخليج العربي. ومن الجنوب تمتد مياه البحار بدءا من بحر الخليج العربي إلي بحر عمان ومن هذا الطريق تتصل بحرا. هذا الموقع خلق من ايران قوة بحرية ستراتيجية تشرف على خطوط إمداد النفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد العالمي وخاصة مضيق هرمز.

العلاقات الايرانية الاميركية

منذ ازمة رهائن السفارة الاميركية في طهران 1979 وايران تعيش هواجس التهديدات الاميركية ضدها وتحفزها لأي صراع مستقبلي مع الولايات المتحدة من داخل الاراضي العراقية، لتجعل ايران من العراق خط دفاع اولي ومنصة باتجاه دول الخليج العربي. لذا فهي حريصة على فرض سيطرتها على الوضع السياسي في العراق من خلال دعم حلفائها داخل العملية السياسية. هذه السياسة تعكس نظرية (غراهام فولر) التي تقول :" أن الصورة الذاتية " التي ترسمها ايران لنفسها هي نتيجة انعكاسات لصور التاريخ الايراني حيث تختلط صور التوسّع والهيمنة العسكرية والثقافية للإمبراطورية الفارسية مع صور الهيمنة الغربية على ايران من قبل الإغريق والعرب والأتراك والأفغان والروس ". ويولّد مثل هذا التشابك وفق تحليل فولر : "مركّب نقص يتحوّل إلى رؤية ومقاربة معقّدة لدور ايران السياسي تجاه جيرانها والعالم." ووصف (جيفري غادسن) من صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأميركية الحدود الفاصلة بين العراق وايران بأنها من أكبر الهوات الأمنية والثقافية على سطح الأرض.

أما تصريحات أحمدي نجاد فهي تعكس سياسته المتشدّدة في برنامج ايران النووي والموقف من إسرائيل واشعار جيرانها وخاصة دول الخليج العربي بانها حريصة على تصدير الثورة الاسلامية وكأنها امبرطورية فارس اكثر من دولة ايران. ووجدت طهران بعد الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003 الفرصة للتدخل في العراق، مما دفع بالولايات المتحدة بفتح حوار مع طهران من اجل الوصول الى التوافق الاميركي الايراني في العراق.

ويبدو أن ايران قد نجحت بالتعامل مع الأميركيين في العراق وأفغانستان، لتفرض نفسها كلاعب إقليمي وباعتراف الولايات المتحدة، ففي حالة أفغانستان أجبرت اميركا على التفاوض علنا مع طالبان بوساطة قطرية 2012.

لقد شّكّل العراق وأفغانستان عدوّين تقليديين بالنسبة لإيران لذا فهي تتعامل معهما مباشرة على الارض وتمسك بصناع القرار العراقي على وجه الخصوص لتفرض ـ ايران ـ نفسها كطرف ومفاوض مراوغ، لذا فايران لم تدخل مفاوضات وتخرج منها "بخفي حنين "، فهي تمسك باوراق ضغط على خصومها لتطرحها على طاولة المساومات وتعمل على زيادة نفوذها داخل العراق، لإجبار الولايات المتحدة على الاعتراف بنفوذها.

 وبرز التناقض الاميركي الايراني في برنامج ايران النووي بالتوازي مع قوتها الصاروخية التي ممكن أن تشكّل تهديدًا للشرق الأوسط و أوروبًا. ويبدو أن أحمدي نجاد يعكس طموحات الحرس الثوري الايراني المتشددة خصوصًا في موضوعي برنامج ايران النووي والموقف من إسرائيل لتصعد من حدة تلك التناقضات والمواجهات ولتكون المفاوضات مارثونية اكثر.

المؤسسة الامنية في ايران

أن الامن القومي في ايران قائم على اساس تعدد مؤسسات الدفاع والخارجية وفقا الى مفهوم نظرية الامن القومي، لكن في ايران المؤسسة العسكرية والاستخبارية : ـ فيلق القدس واطلاعات والحرس الثوري ـ القريب من القيادة الايرانية والذي تميز بصلاحياته غير المحدودة، لتصبح بصماتها واضحة في كل من العراق ولبنان وافغانستان. لذا فايران تتبع سياسة تعدد الاذرع داخل دول النزاع ومنها العراق وافغانستان لتمسك خيوط اللعبة السياسية وتشد من خطوط دفاعاتها عسكريا واستخباريا ضد اميركا وتفرض قراراتها على حلفائها، فهي تعرف متى تتدخل سياسيا او استخباريا لسد ثغرات خطوط دفاعاتها، وان تطلب الامر الى ضرب حلفائها داخل تلك الدول. وماتعجز عنه دبلوماسية طهران تنفذها مؤسساتها الاستخبارية و حكوماتها الخفية، وهي تنظر الى نفسها بانها قوة بديلة للاتحاد السوفيتي السابق في المنطقة.

علاقة ايران بتنظيم القاعدة

تقيم ايران والقاعدة علاقات مركبة ومزدوجة رغم اختلافهما الايدلوجي والعقائدي لخدمة مصالحهما ويشتركا في عدائهما للولايات المتحدة. وهنالك أدلة عديدة لشراكة ايران والقاعدة وكانت هناك مئات الوثائق من قاعدة بيانات (هارموني في وست بوينت) والوثائق الملغاة سريتها قد تم نشرها في الاعلام الاميركي وتناولتها عدد من وسائل الاعلام العربية، حيث ذكرت بان ايران تمثل بوابة الخروج والدخول لتنظيم القاعدة من خلال امتدادها الجغرافي مابين العراق وافغانستان والباكستان والبحر العربي.

وبعد انهيار حكم طالبان2001، فرت أغلب قيادات القاعدة وعوائلها وبضمنها أسامة بن لادن وأيمن الظواهري إلى الباكستان، ولكن البعض فضل الذهاب الى ايران. وفي عام 2001 أرسلت الحكومة الايرانية وفدا لأفغانستان لضمان السفر الآمن لقيادات القاعدة وعائلاتهم لايران بينما كانت القوات الاميركية منشغلة في (تورو بورا).

وعملت ايران على نقل العديد من مقاتلي القاعدة بينهم قيادات الخط الاول والقيادات الوسطى من تنظيم القاعدة المركزي واسست القاعدة في ايران عام 2002 مجلس ادارة تنظيمها بتكليف من بن لادن لدعم التنظيم في افغانستان وباكستان. ويشمل أعضاء المجلس البارزين : عادل وسليمان أبو غيث وأبو الخير المصري وأبو محمد المصري وأبو حفص الموريتاني، وقد كان حرس الثورة الايرانية الجهة المسؤولة على المجلس وعلى عملية لم شمل عوائلهم. وقد استغلت ايران ضعف القاعدة ومطاردة الولايات المتحدة لها لتخضعها للمساومة والاقامة الجبرية لبعض قياداتها وهذا ماجعل العلاقة مابين القاعدة وايران شد وجذب اشارة الى مراسلات التنظيم التي كشفت عنها الادارة الاميركية في الذكرى الاولى لمقتل بن لادن شهر مايس 2012.

ووفقا لمعلومات وزارة الخزانة الاميركية فان المدعو ياسين السوري من مواليد 1982 هو الذي كان مسؤولا عن تمرير قيادات القاعدة وعوائلهم من والى ايران، مما دفع ايران مؤخرا الى فرض الاقامة الجبرية علية كخطوة احترازية، لما يمثله من مصدر معلومات مهمة وفقا لتقرير شبكة سكاي نيوز بتاريخ 15.02.2012. وهي خطوة ليست بالجديدة على ايران كونها سبق ان مارستها مع (الملا كريكار) زعيم تنظيم انصار الاسلام خلال احدى زياراته المتعددة الى ايران عام 1988 وكذلك نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي. علما بان ايران جددت الدعوة الى (الملا كريكار) للعودة الى العراق في كانون الثاني 2012 وفقا لما نشرته وكالات الاعلام، بالاضافة الى تاريخ تعاملها مع قادة الاحزاب الكردية العراقية خلال العقود السابقة.

وجغرافيا تمثل ايران ممرا مركزيا للقاعدة مابين افغانستان والباكستان والعراق واليمن بحرا. وما تملكه ايران من خزين بشري لمقاتلي القاعدة وقياداتها خاصة من الخط الاول دفع المراقبون ان يصفوها "بالاحتياطي " الذي يسد استهلاك قيادات القاعدة في تلك الدول. والعلاقة مابين القاعدة وايران تأخذ المد والجزر وفقا لتطورات الملف النووي والتهديدات الاميركية.

الولايات المتحدة حريصة على علاقتها الاستخبارية مع الباكستان بتقويض نشاط القاعدة استخباريا وعسكريا وهذا ما تستغله ايران كإحدى اوراق ضغطها في توافقها مع اميركا، اي احتمالات دفع ايران بزخم ما تملكه من مقاتلي القاعدة وخاصة قياداتها، لتعويض اي نقص في افغانستان وهذا ما لايخدم المصالح الاميركية.

ومن بين قيادات القاعدة التي كانت محتجزة في ايران هو ناصر الوحيشي زعيم القاعدة في اليمن، والتي ـ سلمته إلى السطات اليمنية ـ وفي جانب آخر، قال ابو جندل الحارس الشخصي لبن لادن سابقاً في حوار مع قناة "العربية" إن تنظيم القاعدة يقيم علاقة وصلات مع الحكومة الايرانية لأن" عدوهما " واحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية. واكد : "هناك شخصيات في القاعدة تتابع ملف التعاون مع ايران مثل سيف العدل وأبو حفص الموريتاني ووجود شخصيات من القاعدة في ايران هو للتنسيق وهذا لا يعني أبدا أن القاعدة تقاتل وفق الطريقة والأجندة الايرانية". وكشفت وسائل الاعلام عن دور سعد بن لادن، كوسيط بين القاعدة وايران التي يعيش فيها تحت الإقامة الجبرية منذ سقوط حركة طالبان في أفغانستان عام 2001.

رسائل بن لادن حول ايران

نشرت الولايات المتحدة 17 وثيقة من بين أكثر من ستة آلاف تم العثور عليها في منزل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في(أبت آباد) بباكستان أثناء العملية التي قتل فيها يوم 2 مايو/أيار 2011، وقالت إحدى الوثائق إنه بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، فر بعض قيادي القاعدة وأسرهم إلى ايران، ووضعتهم السلطات هناك قيد الإقامة الجبرية، ثم أفرجت عن بعضهم ومن بينهم أفراد من أسرة بن لادن، وأبقت على آخرين. وبحسب الوثائق شكى عطية عبدالرحمن، الذى أصبح الرجل الثاني في القاعدة بعد مقتل بن لادن قبل اختيار الظواهري، من تعامله مع الايرانيين في التفاوض.

وقال عمر بن لادن لوسائل الاعلام، أن هناك وساطة سابقة قام بها علماء بباكستان وأفغانستان للتوسط لدى الحكومة الايرانية لإطلاق سراح أولاد بن لادن المحتجزين في العاصمة طهران منذ عام 2001. وقال إن رسالة شقيقه خالد التي ناشد فيها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في ايران آية الله علي خامنئي التدخل لإطلاق سراح أفراد عائلته في ايران، تعني الكثير للعالم. وتكشف الرسالة عن أن جميع أولاد بن لادن وزوجته أم حمزة وصولوا إلى داخل الأراضي الايرانية بعد 2001. وكانت السلطات الايرانية قد احتجزت أولاد بن لادن في مجمع سكني لأكثر من ثماني سنوات.

وفي رسالة مؤرخة بتاريخ 17 رمضان 1431 هجرية، كتب بن لادن إلى الشيخ محمود الليبي عطية عبد الرحمن، قائلا : "بخصوص ما ذكرتم في رسالة سابقة بأنه قد يذهب بعض الإخوة إلى ايران ضمن خطة المحافظة على الإخوة ؛ فإنني أرى أن ايران غير مناسبة ", بينما كان بن لادن في رسالة سابقة نشرتها الشرق الأوسط، أرسل تعليمات إلى ابنيه محمد وعثمان بعدم مغادرة ايران للشريط القبلي بسبب غارات طائرات (الدرون) الأميركية من دون طيار التي استهدفت العشرات من عناصر القاعدة.

وبتاريخ 11 حزيران 2009 أرسل خطاب من قبل قيادي في تنظيم القاعدة يدعى "عطية الليبي

يشير فيه أسامة بن لادن : "أخبرنا الأخ عبد الله الحلبي عبد اللطيف بأن اسرته في ايران وهي في طريقها للمجيء الى الباكستان ". و في خطاب يعتقد بانه يعود لعام 2009 ايضا يقول فيه بن لادن :" لقد سمحت ايران بالخروج لبعض الاخوة من ايران والذهاب الى سوريا على أساس إظهار حسن النية لبقية المعتقلين ".

ويتضح من قرار الحكم الصادر عن محكمة في نيويورك كانون الاول 2011 أن ايران دربت نشطاء من القاعدة الذين ساعدوا من بين ما ساعدوا به في شن الهجمات الارهابية على السفارات الأمريكية في نيروبي ودار السلام 1998. ويشير تقرير اللجنة الأمريكية بخصوص التحقيق في احداث 11 أيلول 2001 أن المعتقلين الذين تم التحقيق معهم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أبلغوا أن ايران وافقت على مرور نشطاء القاعدة فوق أراضيها في طريقهم الى أفغانستان.

لذا باتت العلاقة مابين ايران والقاعدة بالعلاقة المزدوجة والمركبة تشترك في عدائهما للولايات المتحدة الاميركية وافشال مشروعها في الشرق الاوسط، من خلال الاشتباك المباشر معها على الارض عسكريا واستخباريا وكذلك من خلال حلفائها من داخل دول النزاع.

المراقب الى تاريخ هذه العلاقة ان ايران حرصت طول هذه السنين على عدم اعطاء اي دليل ضدها في تورطها مع تنظيم القاعدة والذي يعتبر انتهاك الى قرارات الامم المتحدة المعنية بمكافحة الارهاب، والاكثر من ذلك فهي لعبت، لعبة الشاطر مع الولايات المتحدة، فمنذ عام 1979 ولحد الان لم تعطي ايران الفرصة للولايات المتحدة والغرب لتوجيه اي ضربة عسكرية ولتجعل من مفاوضاتها المارثونية حول ملفها النووي اسلوب لتشتيت المفاوض الاوربي وتخفيض شدة ردود الفعل الاميركية ولتؤكد بانها لا تتقيد بحدودها الجغرافية كقوة اقليمية في المنطقة.

* كاتب في قضايا الارهاب والاستخبار

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 1/تموز/2012 - 10/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م