الكتائب السرية والماكينة الجهنمية

محمد سيف الدولة

لا اقصد فقط المخبرين والمرشدين التابعين لأجهزة الامن الذين يخترقون الاحزاب و التجمعات بغرض التجسس وجمع المعلومات والتخريب والتلفيق الى آخر هذه المهام الكريهة التي عشناها على مر العصور.

بل ان هناك انواعا اشد خطرا و ضررا، وهم مجموعة العناصر التي تقوم الدولة بزراعتهم في كافة مؤسسات المجتمع، بعد ان تنتقيهم بعناية من بين اكثر الشخصيات انتهازية، ثم تختبرهم وتدربهم، قبل ان تقوم بنشرهم في كل مكان لينفذوا تعليماتها وفق الحاجة.

ومن مهماتهم، بالإضافة الى التجسس والاختراق والافساد والتخريب، الدعاية للدولة والدفاع عن سياساتها حين تخون او تستبد او تزور او تسرق او تخرج عن الشرعية. ومن اجل ذلك تقوم الدولة بدعمهم في مواقعهم وتفتح لهم اوسع ابواب المناصب والمال والجاه والشهرة والنجومية لتضمن ولاءهم.

وهم يختلفون عن باقي رجال الدولة الرسميين الظاهرين للكافة، في انه يتم تقديمهم الى المجتمع بصفتهم شخصيات مستقلة او معارضة، لتضليل الناس وتسهيل اختراقهم والتأثير عليهم.

وهم من كل صنف ونوع ولكن أخطرهم هم اولئك الذين يخترقون الحياة العامة في صورة مثقفين وسياسيين واعلاميين و"ثوار" ورجال قانون ومستشارين وقضاة وفقهاء وخبراء استراتيجيين ورجال دين ونقابيين و نقباء ورؤساء احزاب ووزراء سابقين..الخ

وهى عملية تمارسها الدولة منذ القدم ولم تتوقف عنها ابدا، فمن هذه العناصر من تم زراعته او تجنيده منذ سنوات او عقود طويلة، ولم تنكشف حقيقته، بل تطور به الحال الى أن أصبح شخصية عامة مرموقة، وهو النموذج الأشد ضررا.

ويتميزون جميعهم بقدرات خاصة على الكذب والخداع والنفاق والمناورة والاحتيال، ليبرروا للنظام كل انواع الشرور والجرائم والاباطيل التي يرتكبها. وهم مجردون من ادنى انواع القيم او الحياء او الخجل، فيكذبون بدون ان يطرف لهم جفن.

وهم لا يتساوون عند الدولة في اهمياتهم او طبيعة خدماتهم أو درجة احتياجها اليهم، فمنهم من يعمل لديها طول الوقت "بدوام كامل"، أو بعض الوقت"part time"، او بالقطعة او بالموقف او بالحملة، وكله حسب الظروف و التعليمات.

ومنهم أحزاب وجمعيات وائتلافات وجبهات وتحالفات ومجالس ونواد و صحف ومجلات وقنوات فضائية "كاملة" تقوم بهذا الدور بكل هيئاتها وقياداتها او ملاكها، سواء كانت تقوم به بابتذال مفضوح او بحنكة وذكاء قد تمر على الكثيرين.

وتقوم هذه العناصر او المؤسسات عادة بادعاء المعارضة و نقد النظام في مواقف بعينها، بغرض اكتساب ثقة الرأي العام، لكى يصدقها حين تتصدى "وقت الحاجة" للدفاع عن الدولة ونقد خصومها.

وفي الازمات الكبرى الطارئة قد تضطر الدولة الى التضحية ببعض عناصرها وحرقهم للقيام بأدوار مكشوفة لن يقبل غيرهم القيام بها، بل احيانا قد تضعهم الدولة في حرج شديد حين تأمرهم بتغيير مواقفهم من النقيض الى النقيض لضرورات التكتيك والمناورة والاحتيال والتضليل كما حدث ابان قيام الثورة.

واحيانا نفاجأ ونفجع في شخصيات كنا نحترمها وقد تحولت الى مجرد بوق للدولة، أو جزء من حملتها ضد خصومها المستهدفين.

فلقد توارثنا عن اساتذتنا وآبائنا وأجدادنا مبدأ هاما في العمل الوطني وهو انه من المحرمات ان تشارك في حملة تشنها الدولة ضد خصومك السياسيين، وان عليك ان لم ترغب في الدفاع عنهم، ان تلتزم الصمت وتؤجل صراعك معهم، حتى لا تتحول الى اداة في أيدى الدولة.

ولقد رأينا كيف تعمل هذه الماكينة الجهنمية ضد كل القوى والتيارات الوطنية بتنوعاتها منذ قيام الثورة، ولكنها في الازمة الاخيرة و مع اقتراب موعد تسليم السلطة و ترشيح شفيق، ومحاولات انجاحه، وحل البرلمان المنتخب، واصدار قانون الضبطية القضائية، والاعلان الدستوري المكمل، والانقلاب الصريح على الثورة، نزلت الماكينة الجهنمية للدولة بكل ثقلها وكامل لياقتها الى الساحة، لتنتشر كتائبها في ربوع الارض، كل منها تقوم بدور محدد ومرسوم ومتكامل مع ادوار الكتائب الاخرى:

• فتقبل الكتيبة القضائية الاولى في لجنة الانتخابات الرئاسية، اوراق شفيق، رغم صدور قانون العزل السياسي

• ثم تقضى الكتيبة القضائية الثانية في المحكمة الدستورية بحل البرلمان المنتخب وابطال قانون العزل.

• مع دعم ومساندة من الكتيبة القضائية الثالثة في نادى القضاة التي هددت وتوعدت البرلمان واعضاءه بالثأر والانتقام.

• ولتلحق بها فورا كتيبة الفقهاء القانونيين والدستوريين لتدافع عن هذه القرارات وتشن هجوما حادا على كل من يعارضها وتتهمه بانه خارج عن الشرعية ومعتد على هيبة القضاء، مع تضليل الرأي العام بادعاءات مثل ان القضاء مستقل وان المجلس العسكري برئ من كل هذه الاحكام.

• اما كتيبة الكتاب والصحفيين والاعلاميين والفضائيين فانبرت للدفاع عن شفيق وعن المجلس العسكري وعن اعلانه المكمل عن اللجنة الرئاسية وعن المحكمة الدستورية، و هاجمت قوى الثورة ومظاهرات الغضب، باستخدام كل حيل وفنون التحليل السياسي في الترهيب منهم ومن المصير الاسود لمصر فيما لو وقعت في براثنهم، وهو ترهيب لم يقتصر على الاخوان فقط بل طال الجميع، ترهيب مشابه لما كان يحدث مع كل خصوم الدولة من كل التيارات على مر العصور.

• اما كتيبة الاحزاب السياسية الموالية فقدمت الغطاء السياسي والحزبي لموقف الدولة بحجة الدفاع عن الشرعية والمدنية والاستقرار.

وهكذا في سيمفونية نشاز كريهة يديرها مايسترو واحد، على غرار تلك التى كان يعزفها لنا نظام مبارك طول الوقت.

وأخيرا و أيا كانت نتائج وتطورات الاحداث في الايام القليلة القادمة، فانه يتوجب على كل القوى الوطنية ان تبذل كافة الجهود وتبدع من الوسائل والأدوات والآليات ما يمكنها من حماية الرأي العام من التأثر والوقوع في براثن حملات التضليل والترهيب والردة التي لن تتوقف.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 28/حزيران/2012 - 7/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م