الثقافة المعاصرة وبناء الدولة المدنية

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: الثقافة المعاصرة لا تنقطع عن جذورها وأصالتها، بهذا المعنى هي مزيج من الأصالة والحداثة، تستند الى الأسس التي انطلقت منها، وتتلاقح مع ما يستجد في عالم اليوم، من مناهج فكرية متطورة، تصب أولا في تدعيم النهج المدني وحمايته، إذن هي ثقافة ذات منحى متمدن، تسهم بقوة في بناء البنية الاجتماعية المتطورة للمجتمع، وتساعد ايضا في بناء دولة مدنية تحفظ الحريات وتعتمد النظام المؤسساتي القائم على الفصل بين السلطات، لأن الثقافة هي المرتكز الأهم الذي تقوم عليه الدول المدنية المعاصرة.

الثقافة فنار الاجيال القادمة

لهذا يكون دور الثقافة أساسيا في بناء الدولة المدنية القائمة على فعل الخير حتما كونه منبع الحريات، كما نلاحظ ذلك في قول الامام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي بهذا الخصوص في كتابه الثمين الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين): (إن الثقافة هي التي تعين اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً فشر).

وطالما أننا عرفنا أهمية الثقافة، فعلينا أن نفهم قبل ذلك بأنها الفنار الذي نهتدي به، وبأن الثقافة لا تنحصر في حيّز واحد، بل هي منظومة سلوك شاملة، تتطلب معرفة واسعة في شتى مجالات الحياة والتثقّف عليها، وسبر أغوارها، وتحويل الافكار والكلمات الى عمل قائم على الارض، وبهذه الطريقة يمكننا أن نتصور قيمة الثقافة والمعرفة والاطلاع، حينما يتحول ذلك الى عمل ملموس، ولهذا يؤكد الامام الشيرازي قائلا في كتابه نفسه حول هذا الموضوع: (من الضروري نشر هذا الوعي بين الجماهير عبر مئات الملايين من الكتب التي تضع بديلا متكامل الجوانب، محددة برامجه، واضحة معالمه، بينة أساليبه وأهدافه).

لذلك هناك تقاطع شديد بين التخلف من جهة ومحاولة اقامة الدولة المدنية من جهة اخرى، إذ لا سبيل لتحقيق مثل هذا الهدف عندما تغيب الثقافة او تضمحل، كونها هي السبيل الأفضل لرسم الطرق الصحيحة لمسيرة الاجيال اللاحقة كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله الواضح: إن (الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة، فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة تسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً، وعملياً، ونظرياً، وسلوكياً، والمسلمون في الصدر الأول تحلوا بهذه الثقافة فحرروا نصف الكرة الأرضية بعد أقل من ثلث قرن من بداية جهادهم المقدس في السنة الأولى للهجرة).

المسلمون أهملوا التثقيف

من الاسباب الاساسية التي أدت الى تخلف الدول والمجتمعات الاسلامية عن اللحاق بالركب العالمي، هو إهمال التثقيف، ووضع الثقافة في أسفل قائمة الاهتمامات، سواء على الصعيد الرسمي (الحكومات) أو الصعيد الأهلي، المنظمات الثقافية والمؤسسات الخيرية المعنية أو حتى الافراد، فهناك مجافاة واضحة مع الثقافة، وهناك لا مبالاة مخجلة في التعامل الفردي والجماعي مع الثقافة والتثقيف، لهذا لم يتمتع المسلمون بدولة مدنية حديثة، تحفظ الحريات والحقوق كما يجب، وتستند في الوقت نفسه الى ثقافة اصيلة ومعاصرة، ونظرا لهذا الاهمال المتواصل للتثقيف، عجز المسلمون عن بناء أنفسهم ودولتهم وفقا للمعايير المدنية المعاصرة، على العكس من الغربيين الذي تعاملوا مع الثقافة كما يجب، يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (إن التثقيف ـ كما سبق ـ أمر بالغ الأهمية، إذ أنه سبب التغيير إلى الأحسن أو الأسوأ، وقد أغفل المسلمون أهمية التثقيف وتناسوه في الوقت الذي أدرك الغربيون والشرقيون أهميته وراحوا يعملون بكل طاقاتهم في هذا السبيل).

لهذا يتطلب تحقيق الدولة المدنية نشر الوعي بين الجميع، على أن تشترك في هذا الهدف جميع الجهود الرسمية/ الفردية/ الجماعية، من اجل تحقيق الهدف المنشود، كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي في هذا المجال: (من الواجب أن نوحّد الجهود ونعيد وحدتنا ووحدة أمتنا. أما كيف ذلك؟ فبأمور، يأتي في طليعتها: نشر الوعي الإسلامي، فمن الواجب على كل مسلم أن ينشر الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي والسياسي والشرائعي والاجتماعي والتربوي والعسكري والزراعي والصناعي والاستقلالي، في كل البلاد الإسلامية، بواسطة الإذاعات والصحف والمجلات والنوادي والكتب والمؤتمرات وغيرها).

وقد رصد الامام الشيرازي خللا واضحا في هذا الجانب، لذلك كان من اسباب اهمال الثقافة عدم القدرة على بناء دولة مدنية تحقق أدنى متطلبات الحياة الحرة الكريمة، والسبب كما هو متوقع إهمال الثقافة ونشر الوعي كما يجب، إذ يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إننا لم نستطع تثقيف حتى شبابنا وفتياتنا، وهذا هو سبب تأخرنا، ولذا تجد كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن: الفكر الإسلامي، السياسة الإسلامية، الاجتماع والاقتصاد و... في الإسلام، كما لا يعرفون شيئاً عن كيفية عمل المستعمرين في بلادنا وأساليبهم وخططهم، ولا يعرفون كيف يواجهونهم ويسدّون الطريق عليهم).

وسائل الاعلام المعاصرة

وهناك نقطة أساسية يؤكد عليها الامام الشيرازي دائما، تتمثل في حسن التعامل مع وسائل الاعلام المعاصرة، باعتبارها الوسيط الأمثل لترويج الافكار ونشرها في الاوساط المستهدَفة، أي أننا لايمكن أن نحقق أهدافنا الفكرية والثقافية، من دون أن نتعامل بذكاء وتمرّس مع وسائل الاعلام العصرية المختلفة، كالفضائيات والصحف والاذاعات، ناهيك عن المواقع الاخبارية والالكترونية وسواها، فإذا كان القلم واللسان من وسائل الجهاد الفكري والثقافي لبناء الدولة المدنية، فإن الذكاء في التعامل مع الاعلام شرط مهم لنشر الوعي والتثقيف، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه نفسه: (في سبيل إعطاء الرشد الفكري للمسلمين علينا بالجهاد، الجهاد بالقلم واللسان وبمختلف وسائل الإعلام العصرية).

ومع اهمال الاعلام والتعامل الصحيح معه، هناك تقصير في العمل الثقافي من لدن المعنيين ببناء الدولة المدنية المعاصرة، على العكس مما قام به المسلمون الأول في مجال دعم الثقافة، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بهذا الصدد: (إن عملنا على الصعيد الثقافي ضعيف جداً، ولقد كان العمل الثقافي في طليعة مهام المسلمين السابقين).

ولهذا لابد أن يتنبّه جميع المعنيين الى هذه النقطة المهمة، وهي كما اشرنا سابقا تتعلق بدور الثقافة والتثقيف ونشر الوعي في بناء دولة مدنية معاصرة، الامر الذي يتطلب مشاركة اقلام وعقول المفكرين والمصلحين وجميع المعنيين، في بناء دولة مدنية وحكومة استشارية ديمقراطية معاصرة، إذ يدعونا الامام الشيرازي دائما الى ذلك كما في قوله: (على أصحاب الأقلام والمفكرين أن يعطوا للناس الوعي بضرورة كون الحكومة استشارية).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25/حزيران/2012 - 4/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م