الإمَامُ الكَاظِمُ (ع) وتَنمِيَةُ جُمْهُورِهِ النَوّعِيّ

محمّد جواد سنبه

لقد تأسّست دوّلة الإسلام على يدّ النبي محمد(ص)، وفق منظومة وضعها الله تعالى لتُسعد البشرية في رحابها. وهذه المنظومة تشمل الجوانب العقائدية والتشريعية والمالية والادارية والسياسيّة. واعتمدت هذه الدوّلة على مبادئ العدل والحرية والمساواة بين الناس.

 لكن هذه الدوّلة تعرضت لانتكاسات جمّدت نشاطها، بسبب عدم استيعاب الأمّة للدور الرسالي لهذه الدوّلة. لأنّ الأمّة آثرت العصبيّة على الحقّ، وقدّمت الأثرة بالمال على العدالة والمساواة، ورضت بالخنوع والاستكانة، بدلَ أخذ الحقّ من المستبدّين والظلمة.

 وقد انتهت الأمّة إلى حالة من تدنّي الوعي واختلال الرأي، عندما لم تقتنع بموقف الإمام علي بن أبي طالب(ع)، في معركة صفّين، وتفرّق أمرها في قضيّة التحكيم. ذلك الموقف الذي خذلت فيه الأمّة قائدها، الذي كان يذود عن مقدساتها وقيمها ومبادئها، وانتهى الأمر باغتياله(ع) وقيام الدولة الأمويّة. هذه الدوّلة التي ضربت عرض الحائط، كلّ الثوابت التي أمر بها الله تعالى ورسوله الكريم(ص). عندها دخلت الأمّة في صراعات، تحركها المصالح السياسيّة، للسيطرة على المال والسلطة. ولقد حذّر الامام علي(ع) من هذه الحالة بقوله: (ولكننَّي آسى أن يلي أمر هذهِ الأمّةِ سُفهاؤُها وفُجَّارُها، فيتّخِذُوا مال اللّه دُولاً وعِبادَهُ خولاً(عبيداً) والصّالحينَ حرباً، والفاسقينَ حزباً).

وإزاء هذا الانحراف الخطير تحرك الأئمة المعصومون(ع)، في خطّ مدروس يحافظ على بقاء الإسلام، عقيدة وقيماً وفكراً، خارج تجربة الحكم. كما تمثل دورهم الرسالي، في إصلاح ما يمكن إصلاحه من أمور المسلمين، من خلال توعيتهم ليأخذوا دورهم في رسم معالم الحياة الكريمة، اللائقة بالانسان الحرّ العزيز. فكان لكلّ إمام معصوم، دور محدّد في إطار عمليّة إصلاحية شاملة، وعلى ضوء ذلك تحدّدت الملامح الفكريّة والجهاديّة، للمشاريع النهضويّة التي قام بها الأئمّة(ع).

 والإمام السابع موسى بن جعفر(ع)، أخذ دوره الإصلاحي الذي غطّى فترة إمامته العصمويّة، التي امتدت على مدى خمسٍ وثلاثين سنة. وأوّل مهمة باشرها الإمام الكاظم(ع)، الحفاظ على المدرسة الموسوعيّة العلميّة، التي أسّسها الإمام الصادق(ع)، والتي كانت بمثابة ثروة علميّة، حفظت للإسلام الكثير من علومه ومعارفه. والمهمّة الثانية للإمام، كانت ترتبط بالمهمة الأولى، من حيث الهدف العام. فقد اهتم الإمام موسى بن جعفر(ع)، بتنمية جمهور نوعيّ، يثق بوعيه ودوره الحركي، ضمن نطاق المجتمع، بغية تحقيق الإتّصال بعموم الجماهير الأوسع. وعن طريق الجمهور النوعيّ، يتم خلق وعي جماهيريّ عامّ بيّن أفراد المجتمع، إضافة لتأسيس رأي عامّ، يدرك مهمة دوّر الإمام في تلك المرحلة، والمراحل التاريخيّة القادمة أيضاً.

ولأجل فهم دور الإمام الكاظم(ع)، ينبغي فهم ظروف المجتمع الذي كان الإمام يعيش فيه. لقد عاش الإمام الكاظم(ع) في فترة حكم العباسيّين، فعاش(ع) عشرة سنوات مع المنصور الدوانيقي، وأحد عشر سنة مع المهدي العباسي، وسنة مع الهادي العبّاسي، وثلاثة عشر سنة مع هارون العبّاسي. كانت كلّ فترة من تلك الفترات، تصّطبغ بالحالة النفسيّة والتصورات الشخصية للحاكم، وبالنتيجة كانت تنعكس مزاجيّة الحاكم على الواقع، بأنّها سياسة الدوّلة الداخليّة والخارجيّة.

ولغرض قمّع الطلائع الحركيّة المؤيّدة للإمام الكاظم(ع)، اعتمدت السلطة العباسية منذ بدايتها، على مبدأ ارهاب الجماهير، بالقتل والتّعذيب ومصادرة الأموال. وأوّل مرّة في التاريخ الإسلامي، ابتكر العباسيّون وجود النَطْع والسيّف، في حضرة الخليفة(النَطْع: بساط كبير مصنوع من جلد الإبل). فمتى ما غضب الحاكم على شخص مّا، أحضره إلى مجلسه، وأمر السيّاف بقطع رأس المتهم وهو جاثٍ على النَطْع، حتى لا ينساب دم الضحية على الأرض، بعد ذلك يرفع النَطْع من مجلس الخليفة، وعليه جثة ودم الضحيّة، فسار العباسيّون بسيرة إرهاب النّاس. كما جنّد العباسيّون، رجال مخابراتهم لمراقبة العامّة والخاصّة، والأخذ بالضنّة والتهمة. وبذّروا ثروات المسلمين، على المغنين والمغنيات والشعراء، والخمور والمجون واللهو. وكان هارون العبّاسي يشتري الجارية، بسبعين ألف درهم، ويعطي للمغنيّن العطايا الكثيرة. فقد أعطى للمغني إبراهيم الموصلي مائتي ألف درهم. وكان يعطي للشاعر مائة ألف درهم وأكثر، وكان عدد جواريه الفا جارية. وكان هارون يسخِّر شعراء البلاط، ليذيعوا بيّن العامّة قصائدهم، التي تخدع الناس بصلاح و ورع هارون كقول أحدهم:

أيّ امرئٍ باتَ من هارون في سخطٍ***فليسَ بالصلواتِ الخَمسِ ينتفِعُ

لقد وضعنا العلامة الشيخ باقر شريف القرشي، أمام حجم الميزانيّة السنويّة لدوّلة هارون، فذكر في كتابه (حياة الإمام موسى بن جعفر/ ج2)، أنْ بلغت الميزانيّة (بحسب سعر الدينار العراقي في زمن تأليف الكتاب عام 1969م)، مليارين ومائتين وعشرين مليون دينار، وتسعمائة وستين ألف دينار. وكان في وقتها (كما ذكر القريشي)، سعر الكبش بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلاً بدرهم، والزيت ستة عشر رطلاً بدرهم، والسمن ثمانية ارطال بدرهم. فانقسم المجتمع إلى طبقة مرفّهة، وأخرى معدمة.

وظهرت أفكار الإلحاد والزنّدقة، التي تستهدف النيّل من العقيّدة الإسلاميّة، لتوهينها في نفوس المسلمين، من خلال الخوض في مسائل كلاميّة وعقائديّة تقبل التأويل، وتنطلي على ذوي العقول الساذجة. أمام هذا الجوّ الفاسد المضّطرب، كان الإمام الكاظم(ع)، دائم التواصل مع جماهيره النوعيّة، التي تسمى (بالخاصّة). ومنهم علماء أفذاذ، حفظة قرآن وحديث. إضافة لذلك كان يرعى فقراء المسلمين، فيحمل ليلاً الأقوات على ظهره، ويدور على بيوت المحتاجين ويوزع عليهم المؤونة. و ذكرت المصادر أنّ أكثر من ثلثمائة راوٍ روَوا عن الإمام موسى بن جعفر(ع)، (وقد سجّل التاريخ مناظرات علميّة، دارت بينه وبيّن رجال الفكر والفقه في عصره، أمثال أبي حنيفة، وأبي يوسف قاضي قضاة الرشيد....كما روى عنه إمام الحنابلة، أحمد بن حنبل بثقة وإجلال)(سيرة رسول الله(ص) وأهل بيته(ع)/ج2/ مؤسسة البلاغ).

لقد أسهم الإمام الكاظم(ع) بشكّل فاعل، في الوقوف بوجّه الإنحرافات الفكريّة والعقائديّة، فكان أصحابه يتّصلون به، حتى في أيام سجنه ويأخذون منه أجوبه علميّة، لما يُشكل عليهم وهم في ساحة العمل. كان الإمام(ع)، يربّي جماهيره، على رفض التعاون مع النظام الحاكم، ولكن هذه المقاطعة لمّ تكن مطلقة، وإنّما كانت تُنفّذ بطريقة تكتيكيّة، تخدم مصلحة قوى المعارضة. فالإمام يمنع أصحابه من أنّ يقدّموا خدماتهم للطبقة الحاكمة. فنهى صفوان الجمّال، من كري جماله إلى الحاكم وحاشيته، كي لا يتعلّق صفوان- بحكم المصلحة الذاتيّة والمنفعة الماديّة- بالحاكم وأعوانه، فيكون من أنصارهم. قال الإمام(ع) لصفوان الجمّال: أتحبُ بقاءَهم(يعني بقاء رموز السلطة) حتى يُخرَجَ كِراك(حتى تأخذ ثمن كِراء الجمال)، قال صفوان نعم. فقال له الإمام(ع): فمن أحبّ بقاءَهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النّار، فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها. لكن نلاحظ الإمام(ع) كان يحثّ علي بن يقطين، الذي كان يعمل مع هارون العبّاسي، بأنْ يبقى يعمل معه، ليظلّ عن قرب من الحاكم، حتى يعرف ما يخطط هارون للمعارضة. ومن جهة أخرى، أنّ وجود ابن يقطين في مركزه المهمّ في الحكومة، يعطيه الكثير من المرونة، في مساعدة المعارضين، إذا ما وقعوا في قبضة السّلطة. ولا ننسى بأنّ الإمام الكاظم(ع) أثّر حتى على بعض سجّانيه، فنجح بتغيير أفكارهم وتوجهاتهم. وهكذا عمل الإمام موسى بن جعفر(ع) مع جمهوره النوعي، ليخدم قضيّة الإنسان الصالح، قضيّة الإسلام المجيد.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 17/حزيران/2012 - 26/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م