ام احمد... عن النساء المسحوقات في بلدي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لا تبتسم الحياة كثيرا لام احمد، وان فعلت، فانها تعبس يوجهها طويلا، وتغضب منها كثيرا... لم يكن اكمال التعليم اولوية لدى اهلها، لذا تزوجت في سن مبكرة، فالزواج ستر كما يقولون، وكما تربت ونشات على هذا المفهوم، والمرأة ليس لها الا بيتها وزوجها.

رغم ذلك كانت سعيدة في زواجها، واثمر الزواج عن طفلين، ولد وبنت، وكانت البنت هي البكر، الا ان الولد حين مجيئه سحب هذه الحظوة منها  في مجتمع ينزع الى تقدير الذكور واحلالهم المكانة الاولى في سلم الترتيب الاجتماعي للابناء.

لم يكن يعنيها مثل هذا الترتيب، فهي ايضا متأثرة به وبمفاعيله الاجتماعية، فالولد هو السند وهو الذخر الذي يبقى لعاديات السنين.. لكن ابنها الصغير لايشاطرها الرغبة في ان يكون السند والذخر، فهوبسبب مرض طاريء في الخامسة من عمره يلبي نداء خالقه ومانح الروح له.

ليترك الام في حزن وكمد لا تستطيع التخلص منه الا عبر امتداد اخر لوشائج رحمها. انها ابنتها الكبرى التي اخذت ان تعدها ان تكون صديقة لها، تحاورها وتبث لها همومها واحزانها بحثا عن مواساة صادقة.

لم تكتف الحياة عند هذا الحد من الاحزان، فخلال اعوام الاقتتال الطائفي قدمت لها تلك الاعوام حصتها من وجع جديد مضاف الى قائمة اوجاعها وهذه المرةعبر صك يحمل اسم زوجها، واجب التسديد، لينكسر ضلع اخر من اضلاع استقرارها وهذه المرة كزوجة، وتصحو على لقب جديد، بعد لقب الام والزوجة، وهو الارملة.

- تشكل أعداد الأرامل نسبة كبيرة بين سكان العراق، حيث تشير إحصائيات إلى أن هناك نحو 8 ملايين أرملة، كما يشير تقرير صدر من منظمة حقوق المرأة في العراق عام 2009 إلى أن نسبة الفتيات العوانس في العراق تزيد على 30%.

وبحسب الباحثة كاترين ميخائيل، فإن هناك مليون امرأة شابة تنتظر زوجًا، ولا تستطيع أن تحصل عليه. وتشكل المرأة حوالى 60% من سكان العراق.وفي بيئة تقليدية، تغلب عليها القيم المحافظة، فإن المرأة التي فقدت زوجها أو المرأة العانس، تعاني غياب فرص العمل، بسبب المحددات التي تفرضها التقاليد الاجتماعية، والتي تحاول أن تجعل من المرأة تابعًا للرجل من الناحية الاقتصادية.

انتهت شهور الحداد على زوجها وانقضت، لتظهر امامها شهور اخرى من عدم الاستقرار وعدم الامان، فالمجتمع لا يرحم المطلقة ولا الارملة، وعادت الى وصاية اهلها، وهي وصاية تفرض عليها الكثير من التنازلات، من استقلاليتها وحريتها في الحركة وكل فعالياتها الحياتية، فكل شيء اصبح محسوبا بدقة.. هذه الوصاية امتدت الى التبرم من حالتها الراهنة والبقاء على وضعها دون تغيير، وضع الارملة التي انصب اهتمامها على ابنتها تنشئة وتربية وتعليم.

ام احمد لازالت شابة في الثلاثينات من عمرها، وفيها مسحة من جمال هاديء.. كثيرون بدأوا يترددون على اهلها لطلب يدها وكانت ترفض وتصر على الرفض، الا ان الوصاية اخذت تضيق عليها وتخنقها.

بعد ست سنوات على حصولها على لقب ارملة تزوجت من رجل متزوج بامراة اخرى.. انها اخر فرصة قبل ان ينفض موكب الخاطبين والمتوددين.

- تنشغل سعاد (30 سنة) في صالون التجميل، الذي تملكه، ويقع في منطقة الكرادة في بغداد، حيث تقضي معظم وقتها في العمل، فهي تعمل منذ خمس سنوات، وطول اليوم، إلى جانب واجباتها كأرملة وأم لثلاثة أولاد... ومنذ أن فقدت سعاد زوجها في عام 2004 أثناء العنف الطائفي، لم تعد تفكر في الزواج، بسبب مشاغل الحياة والأسرة.

سعاد واحدة من أرامل العراق، اللواتي تشجعن على العمل، رغم فقدان الزوج. ورغم انها امرأة مكافحة، بحسب وصف أصدقاء لها، إلا أنها لم تستسلم للشائعات والأقاويل، وتعدها ضريبة النجاح.

تقول سعاد إنها لم تتزوج، رغم أن رجالاً تقدموا لخطبتها، لكنها تشعر مثل معظم أرامل العراق بالوحدة والضعف من دون زوج، حيث تعتبر الرجل حماية و"خيمة" لها ولأطفالها.

والمثير للدهشة عدم وجود احصائيات دقيقة عن اعداد الارامل للان، وتضارب الارقام بين الاجهزة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني. حيث ان اخر احصائية رسمية اجريت عام 2008... وهو امر تؤكده الوزيرة السابقة للدولة لشؤون المراة، ازهار الشيخلي، اذ تقول "لا توجد احصاءات دقيقة وشاملة حول اعداد الارامل في العراق، الارقام التي تعطيها منظمات المجتمع المدني  والتي تصل الى 3 مليون، هي ارقام مبالغ فيها،  حسب الجهاز المركزي للاحصاء يبلغ عدد الارامل مليون ارملة، لكن هذا العدد يعتمد على عدد الارامل المسجلات في شبكة الرعاية الاجتماعية فقط ".

لكن المتحدث الاعلامي  للجهاز المركزي للاحصاء، عبد الزهرة الهنداوي، يقول" الاحصاءات التي اجريت عامي 2008-2009، اظهرت وجود 850-900 الف ارملة"، ويردف" الارقام التي تعطيها منظمات المجتمع المدني مبالغ بها، وهي ارقام تقديرية، لكن نحن اعتمدنا على مسوح ميدانية ينفذها الجهاز المركزي للاحصاء واعتقد انها اقرب للواقع من الارقام التي تقدمها هذه المنظمات. العام 2011 ربما قاربت الارقام المليون ارملة. التعداد العام للسكان والمزمع تنفيذه سيشير الى اعداد الارامل والايتام بطبيعة الحال.".  

لم يكن هذا الرجل الداخل الى حياتها تحت اكراه الاهل وسلطتهم، يملك شيئا من ايجابيات زوجها الاول، ولم يحاول ان يبذل جهدا ولو يسيرا في التعويض عليها، كام مكلومة بفقدان ولدها قبل سنوات طويلة، او كارملة مكسورة الجناح، بل كثيرا ما عمق الهوة التي تفصل بينهما، والتي اخذت تتسع حتى اصبحت الحياة بينهما مجرد مصلحة يفرضها عرف اجتماعي مهيمن وطاغ على الكثير من الارامل والمطلقات في المجتمع العراقي.

تخبرني ام احمد ان احاسيسها ومشاعرها كامراة قد ماتت، وما يكون في سرير الزوجية عبارة عن جسد لا روح فيه، لا يستطيع ان يشعر باي مباهج مما تشعر به اجساد النساء المتزوجات، حيث الحب ومشاعر الود تحرك تلك الاجساد.

انها تدفع كل يوم ضريبة ان تكون امراة، ارملة في حالتها، او مطلقة في حالات اخرى، وهي ايضا ضريبة الرضوخ لقسوة هذا المجتمع، الذي ينتهك رغبتها في الحياة الدافئة، وهي لا تملك ان تثور عليه او تستطيع تغييره، رغم امتلاكها لسكن باسمها، ولديها دخل شهري ثابت من تقاعد  زوجها المتوفي.

الى متى ستستمر مأساة ام احمد، وغيرها من ماسي لملايين الارامل والمطلقات المسحوقات في بلدي ؟

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/حزيران/2012 - 18/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م