التجنيد الإلزامي وتأثيراته على التنمية البشرية

احمد جويد/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

العديد من دول مايسمى بالعالم الثالث وبالخصوص العربية منها والإسلامية تؤكد على المفهوم العسكري في تحقيق الأمن، واستغلال الشباب كعنصر اساسي في صنع الأمن والاستقرار، مهملةً مفهوم التنمية البشرية، ليكون التسليح التقليدي وعسكرة المجتمع من خلال فرض التجنيد الإجباري على جميع أفراده وبعمر مبكرة هو الأساس بنظر هذه الدول في صنع الأمن والاستقرار، متناسية أو متجاهلة إن العديد من دول العالم قد تخلت عن هذا المفهوم بعد الهزة التي أصابتها من نتائج الحروب المدمرة في العصر الحديث.

فبعد الصدمة الكبيرة التي واجهتها دول الحرب وبخاصة الخاسرة منها والدمار البشري والاقتصادي الهائل الذي تعرضت له، بدأ يبرز مفهوم التنمية البشرية، وتحويل نحو عنصر الشباب قضايا العلم والمعرفة والتطور التكنولوجي الذي يمثل جوهر التقدم الاقتصادي والحضاري، حيث أدركت تلك الدول إن الاقتصاد المتين له الأثر الكبير في تحقيق الأمن الداخلي ، كما يمثل منهج التنمية البشرية الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها المخططون وصانعو القرار لتهيئة الظروف الملائمة لإحداث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتحسين نوعية الموارد البشرية في المجتمع وفي مقدمتها الشباب.

غير إننا نلاحظ إن بعض الدول التي تسمى بـ(النامية)، والتي لا تزال تنتهج الدكتاتورية والاستبداد في ممارسة السلطة والحكم تنتهج نظام التجنيد الإجباري وذلك بإجبار الشباب قسراً وخلافاً لرغباتهم إلى الالتحاق بالجيش، علما أنهم لا يتمتعون بأي نوع من الحماية المهنية أو الضمان الاجتماعي في حال تعرضهم للإصابات أو القتل كأقرانهم من الجنود النظاميين.

وهذا الأسلوب لم يكن معروف في النظام الإسلامي، حيث لم يكن التجنيد الإجباري معروفاً في زمن النبي(صلى الله عليه وآله)، فكان يحرض المؤمنين على القتال ولم يكن يجبرهم عليه، وذلك امتثالاً لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ......)آية 65 سورة الأنفال، والتحريض الذي عمل به النبي(ص) هو تحريض معنوي يتضمن تبشير الشهداء بالجنة، وتحريض مادي بإعطاء حصة من غنائم الحرب إلى المقاتلين، لأنه لم يكن في ذلك الوقت نظام للرواتب، وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبته عن فضل الجهاد التي يقول في أولها: (إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)، ورغم قوله سلام الله عليه لأصحابه ( أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقي) إلا أنه لم يجبرهم على قتال ولم يكن له تجنيد إجباري وذلك إنطلاقاً من إيمانه بصيانة الحريات في حكومته.

فكان أول من فرض التجنيد الإجباري في الإسلام هو الحجاج بن يوسف الثقفي، والي الدولة الأموية في العراق، وكان متشدداً في تطبيق هذا النظام بحيث أنه كان يأمر بقتل كل متقاعس عن (الجهاد) إذا كان قادراً عليه.

 وفي معرض السؤال الذي تم توجيهه للمرجع الديني الراحل الإمام محمد الحسيني الشيرازي(رحمه الله) حول التجنيد الإجباري في الإسلام؟ أجاب: كلا، فالتجنيد في الإسلام اختياري، إلا في حالة الاضطرار.

لقد أصبحت اليوم عقيدة العسكر سواء من الشباب أو غيرهم في الإيمان بالتوجه إلى القتال مبنية على عوامل تحقيق النصر وليست على الإجبار والإكراه، ومن بين هذه العوامل هي:

1- الإيمان بالقضية التي يلتحق من أجلها الشاب في صفوف القتال.

2- امتلاك التكنولوجيا الحديثة.

3- المهارة العالية التي يمتلكها الجنود في استخدام التكنولوجيا.

4- الانضباط في تنفيذ الأوامر.

5- الحكمة في اتخاذ القرار الصائب من قبل القيادة العسكرية.

6- المعنويات العالية التي يتمتع بها القادة والجنود.

7- الثقة بالنفس من خلال ما يمتلكونه من خطط جيدة ومعدات متطورة.

8- النظر إلى العواقب بعدم التسرع أو التهور في الإقدام على شن الحروب.

9- الاقتصاد القوي والمتين القادر على تغذية متطلبات الحرب.

10- الاستقرار السياسي والأمني داخل الدولة المحاربة.

أما مسألة التعبئة البشرية والهتافات العالية والأناشيد الحربية والخطب النارية وإجبار الشباب في الالتحاق إلى التجنيد، فإنها لا تجدي نفعاً في أية معركة يتم خوضها بدون امتلاك ما تم ذكره.

فعلى سبيل المثال تعتمد الجيوش الحديثة في مهامها القتالية على جندي واحد أو جنديين في إدارة منظومة صواريخ دفاعية أو هجومية كبيرة بالاعتماد على أجهزت الحواسيب والرادارات وبتوجيه وإسناد من الأقمار الصناعية التي تزود تلك المنظومات والعاملين عليها بجميع تحركات العدو ورصد تحركاته، وبالتالي فهي قادرة ببعض الآلاف أو المئات من جنودها على حسم أية معركة تخوضها ضد ملايين الجيوش البشرية المسلحة بالأسلحة التقليدية خلال أيام أو أسابيع من بدء القتال.

بعد كل هذه الطفرة الكبيرة التي أحدثتها الدول المتقدمة في تكنولوجيا الأسلحة المتطورة وبعد الويلات الكبيرة التي تعرض لها شباب العراق من خلال اجبارهم على الدخول في صفوف القوات المسلحة، ترتفع بعض الأصوات ممن لازالوا يفكرون بعقلية الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي بالمطالبة بإعادة التجنيد الإلزامي وعسكرة المجتمع العراقي من جديد، وهي مطالبات تتنافى تماما مع الواقع الذي تعيشه البلاد وينشده المجتمع من تطور ومواكبة لنظم العصر واستثمار الشباب في عمليات البناء والاعمار والتقدم العلمي.

فقد توارث المجتمع العراقي الكثير من الأزمات والمشاكل من الأنظمة التي حكمته ومن بين المشكلات التي ظهرت للسطح موضوعه العسكرة، التي باتت تشكل اليوم واحدة من اخطر التحديات التي تواجه العراق الجديد وان كانت مشكلة سابقة، فهي عملية إلباس المجتمع لباس العسكر، وهي تعني تحويل الأنماط السلوكية لدى المجتمع إلى أنماط تظهر فيها بصمات الحياة العسكرية، ويكون لذلك التوجه دوافع ومبررات تتلخص في ظاهرها بالاستعداد لمواجهة خطر عدوان خارجي يهدد البلد، وفي باطنها السعي لإحكام السيطرة على أفراد المجتمع وتنظيمهم بهذه الطريقة بغية تحقيق خضوعهم الكامل وسهولة انقيادهم للطبقة الحاكمة، وعليه يتم تغليب الايدلوجيا العسكرية في انساق الدولة وأنماط الحياة العادية.

فالتوجه نحو الاستبداد وتقويض الحريات يبدأ بعسكرة المجتمع وزج أغلب طاقاته الشبابية المتحررة في معارك خاسرة أو وضعهم في حالة استنفار دائم في صفوف القوات المسلحة، فالمنادي بإعادة التجنيد الإلزامي إلى شباب العراق، هو أما يعبر عن عاطفة وحنين إلى الماضي وما زال يعيش في عقلية الـ(كونه) أو أنه يسعى إلى توجه ديكتاتوري يحكم فيه البلاد.

والتجنيد الإجباري في نظر الكثيرين جريمة لأنه قائم على الإجبار والإلزام وليس على الاختيار والإرادة الحرة، فمن حق الإنسان أن يكون حراً مختاراً، وهذا ما تحفظه له قوانين حقوق الإنسان في العالم، وقد التفتت بعض بلدان العالم إلى تناقض التجنيد الإجباري مع حقوق الإنسان ومع مبادئ الديمقراطية فقامت بإلغائه، وهو ما فعله الكونغرس الأمريكي في بداية سبعينيات القرن الماضي.

وإذا ما علمنا بأن الشباب هم الفئة الأكثر تضرراً من التجنيد الإجباري، لأنهم الفئة الخاضعة له والمشمولة به، بما يتعرضون له من ويلات وعذابات وتنكيل واحتقار وامتهان لإنسانيتهم جراء هذا التجنيد، إلا أننا نجد البعض ممن ذاق هذه الويلات في شبابه يتحمس له ويدافع عنه دون أن يدرك أن التجنيد الإجباري هو امتهان لإنسانية الإنسان وحقه في الاختيار.

فما يمكن أن تفرزه العسكرة الإلزامية من جوانب سلبية بين صفوف الشباب يندرج تحت:

أولاً: توتر المزاج العام للمجتمع وسرعة الاستثارة بسبب الحالة العسكرية وثقافة العنف التي تشبع بها الشباب بسبب الحروب والتنازع وأسلوب استخدام القوة واستعراضها.

ثانياً: تدني المستوى المعاشي بسبب توجهات الدولة العسكرية وانشغالها بالحروب، وخلق جيوش من العاطلين عن العمل بعد تسريحهم، حيث يستبعد أن يكونوا قد تعلموا حِرَفاً تفيدهم في حياتهم المدنية.

ثالثاً: تساهم عسكرة المجتمع في توسيع دائرة الإرهاب والعنف لان ثقافة العسكرة والتجييش قد أصبحت عاملا معرقلا للسلم الاجتماعي الذي تبتغيه الشعوب، وهذا ما حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام وتركه لمئات الآلاف من قطع السلاح بين أيدي الشباب والذين تم تدريبهم على استخدامه في زمن حكمه.

رابعاً: انتشار الامية وفقدان فرص التعليم لكثير من الشباب، حيث حاجة الحروب إلى طاقات هؤلاء الشباب لأن وقودها هم البشر وهم العسكريون الشباب خاصة.

خامساً: والاهم من ذلك فإن زج الشباب بصورة إلزامية أو إجبارية في صفوف القوات المسلحة وتعريضهم إلى فقدان فرصة بناء الأسرة أو الحصول على فرصة عمل، قد يؤدي إلى قتل روح المواطنة لدى هؤلاء الشباب وعدم الاكتراث بالأمن الوطني مادام هذا الوطن هو سبب سلبهم لكرامتهم بزجهم قهراً في صفوف القوات المسلحة تحت ذريعة الدفاع عن حياضه.

وبالتالي فان جزءً كبيراً من الحل يكمن في:

1- بناء منظومة عسكرية مهنية من الراغبين في التطوع في صفوف القوات المسلحة وليس من المجبرين تتولى مهمة الدفاع عن الوطن كغيرها من بقية جيوش العالم الحديثة دون إجبار أي فرد في الدخول إلى الجيش خلافاً لرغبته.

2- إشاعة الثقافة المدنية بين صفوف الشباب والابتعاد عن تعبئتهم عسكرياً كون العسكرة ليست من مهامهم بل هي مهمة تقع على العاملين والمحترفين في القوات المسلحة بصفة دائمة.

3- الإنفاق على الأنواع المتطورة من الأسلحة الحديثة التي يحتاجها العسكر في مهمته الدفاعية بدلاً من تحمل نفقات استهلاكية غير مبررة من خلال زج الشباب في معسكرات التدريب الإلزامي.

4- الاستفادة من جميع الطاقات الشبابية في مجال البناء والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يحتاجه البلد.

5- الحد من سلطة العشيرة التي طالما تستعرض قوتها من خلال كثرة المسلحين بين شبابها وجعل سلطة القانون هي الأقوى أين ما وجدت سيادة الدولة.

إن العراق اليوم هو أحوج بكثير وأكثر من أي وقت آخر إلى إشاعة ثقافة مدنية الدولة من خلال الممارسات العملية والبرامج المستديمة لتنمية الطاقات البشرية وفي مقدمتها الطاقات الشبابية وليس إلى عسكرتها وجعلها تهتف باسم القائد الأوحد الذي يختزل اسمه الوطن والتاريخ والحضارة والمستقبل.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/آيار/2012 - 23/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ/1999- 2012م