صبغة العصر!

مهند السماوي

لكل عصر شكله المميز عما سبقه وايضا سوف يختلف عما يليه لاحقا والتي تكون موائمة للطابع السائد سواء اكان فكريا او سياسيا واجتماعيا الخ من التصنيفات المؤثرة.

ساد في العقود الاولى من القرن العشرين سيطرة النزعات الثورية وفق مختلف المناهج الفكرية والسياسية والتي دخلت بقوة في مجال الفنون والآداب وبقية العلوم الانسانية ولكن الذي شاع بعد الحرب العالمية الثانية هو سيطرة التيارات الثورية ذات النزعة التحررية وفق النهج الاشتراكي في الغالب وحسب مختلف مدارسه الفكرية المختلفة ثم تلاه وبفارق كبير المناهج الليبرالية المتعددة مثل الوجودية والفوضوية وغيرهما.

لكن الحال اختلف في بداية الثمانينات فقد سادت فيه المناهج اليمينية المختلفة التي انتعشت بفضل الازدهار الاقتصادي الغربي وقبوله لكل التيارات الفكرية ضمن اطر محددة كما ان التيارات الدينية انتعشت من جديد بعد موجة طويلة من الالحاد والعلمانية المفرطة في عدائها للدين بمختلف توجهاته...

والان وبعد بدء الالفية الثالثة فأن التيارات الدينية بقيت مع شيوع فوضى لا تدل على سيادة احد المناهج بعد ان توهم الكثيرون بنهاية التاريخ وسيادة المذهب الليبرالي الديمقراطي وفق المنظور الغربي!.

ومع انطلاقة ثورات الربيع العربي في عام 2011 وانتصار البعض منها والذي يعطي عادة دفعات شحن معنوية لا حد لها معيدة للذاكرة انتصار ثورات اوروبا الشرقية اواخر الثمانينات من القرن العشرين... هذه الصبغة الجديدة في العالم العربي هي الصبغة الثورية الليبرالية ولكن وفق فهم مختلف المدارس الفكرية وبخاصة الدينية منها التي اندمج البعض منها ضمن الموجة الثورية التي تشمل الجميع بلا استثناء لان المطالب العادلة هي التي توحد الطبقات والتيارات المختلفة...

ومن هذا المنطلق اصبحت هنالك قيمة عليا لتلك الحركات التغييرية سواء التي تتخذ جانب العنف او السلم، واصبح التفاخر الاجتماعي بالانتساب الثوري هو الصفة السائدة للجميع بعد ان كان منبوذا او منسيا بسبب قسوة الهزائم المتكررة على يد النظم الديكتاتورية المختلفة والخوف من الانتقام الخ من الاسباب التي اضعفت الروح الثورية لدى الفئات القادرة!.

التصبغ برداء الثورية لدى العوام والخواص احيانا! ليس معناه الاستيعاب الكامل للمضامين الفكرية والسلوكية المطلوبة على الاغلب، بل السائد والذي ظهر جليا للعيان هو التصبغ بالشكليات والمظاهر الخداعة دون الولوج في الجوهر الذي يكون عادة معبرا بصورة ادق عن المضامين الحقيقية للمبادئ السامية مثل الحرية والديمقراطية والعدالة واحترام حقوق الانسان والتحضر والتمدن المنهجي والسلوكي والابتعاد عن العنف والانقسام الداخلي والخيانة الخ من الفروع المتعددة والتي تحتاج الى ثورة حقيقية لنقضها لغرض الوصول الى الغايات السامية.

وهذا الامر لا يختص بشعب دون آخر ولا بآيديولوجية معينة ولكن الواضح ان الجهل الثقافي والموروث احيانا له أثره المروع في زيادة ظهور تلك الحالات، ومن الطريف ذكره هنا ما رواه الفيلسوف بدوي في مذكراته عن زيارته لاحد احياء باريس المشهورة بتواجد أتباع المذهب الوجودي الذي هو اي بدوي خير معبر عنه باعتباره احد ابرز رموزه الفلسفية في الشرق الاوسط، والتقائه هناك ببعض الشباب الذين لايعرفونه ومن الذين يدعون الانتساب الى الوجودية والذين يتميزون بسلوكياتهم المتحررة من القيود الاجتماعية والاخلاقية وابتكارهم لأساليب عيش مختلفة وتثير التساؤل عن اللامبالاة الخ من السلوكيات الشاذة، فكان اكتشافه جهلهم الفاضح بأبسط قواعد ومبادئ المذهب الوجودي الذي يرفض اغلب تلك السلوكيات التي تدعي الانتساب اليه، كما انهم لا يعرفون حقا من هم فلاسفة المذهب الوجودي الذين ارسوا قواعده واعتبارهم لسارتر المشهور اعلاميا والذي هو اقرب للادب منه للفيلسوف الوجودي حسب رأي بدوي، هو الاب الروحي الذي يستمدون تعاليمهم منه!.

لا يمكن التغافل عن انتشار تلك الشكليات في شبكة الانترنت والتي هي انعكاس للحالة الثقافية والاجتماعية لاي مجتمع، واصبحت السمة السائدة الان الحديث عن المبادئ الثورية التي وجدت طريقها مرة اخرى بعد غياب طويل، والاعلام يبرز كعامل مهم في تلك الاثارات من خلال سطوته اللامتناهية على الفكر والسلوك!.

التناقضات المروعة التي يحملها هؤلاء الشكليون وبعضهم ذو مستويات تعليمية لا بأس بها هي لا حصر لها والتي تظهر للآخرين مدى بشاعة الجهل والتخلف وتجاهل أثر ذلك امام الاخرين، فهناك على سبيل المثال الطائفيون المتعصبون والذين يملئون الساحات الفكرية والدينية والسياسية لانه صبغة رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها...فهؤلاء ايضا يتمظهرون بالزي الثوري من خلال لبس الملابس المميزة او رفع الشعارات والاعلام والتبجح بالانتماء الثوري الذي هو مخالف لكل توجه طائفي لان الثورات حق طبيعي لكل الشعوب ولا يمكن سلبه او ترويضه لأي سبب كان وبخاصة اذا كانت الصبغة الطائفية او العرقية هي التي تمنع الاخرين من ابداء الدعم لا بل احيانا تظهر محاربة الثورة في مهدها وتصوير ذلك على انه فتنة او فوضى الخ من الالفاظ المنافية للواقع.

ومن هنا يظهر السبب الرئيسي لانقسام الرأي العام امام ثورتين في وقت واحد مثل البحرين وسوريا! حيث يلعب الجهل الثقافي المشبع بالطائفية والعنصرية اثره القوي في الاختيار!... ان ذلك هو بحق مدعاة للسخرية لواقع مرير يحاول بعض المخلصين تجاوزه من خلال الطفرة الثورية دون تفعيل طبقات المجتمع لقبوله وفق مرحلة التغيير المستحقة.

ليس هذا فحسب بل ان بعض هؤلاء المتصبغين برداء الثورية والحرص عليها هم اتباع مخلصين لأنظمتهم الملكية والجمهورية وبخاصة قادتها الذين هم عادة محافظين في النهج وفي ادارتهم للبلاد وهم اعداء لكل الثورات الحقيقية، هذا يعني انها مخالفة بسيطة لأبسط قواعد التحرر من الطغيان المتمثل بالأنظمة الوضعية الثابتة والرافضة لأي تغيير يمكن ان يسقط كافة الادعاءات بالتمثيل الشرعي لقيادة المرحلة الزمنية والاستمتاع به!...

فكيف لمستعبد ان يفهم معنى الحرية والعدالة وهو فاقد لها ان يظهر خياره الحر والمستقل عن سلطته في دعم ثورة ما؟!...اكيد ان اختياره العفوي نابع من الرغبة في التحرر او التمظهر امام الاخرين كي يعوض النقص بفخر ظاهري وغير واقعي!... نعم هنالك المشتركات الانسانية الجامعة ولكن تخضع احيانا للموروثات والمزاجية الخاصة والعامة!.

ان تجاوز مرحلة التصبغ بالرداء الثوري يحتاج الى ثورة حقيقية في الفكر والسلوك... ثورة تستطيع تغيير الفئات الشعبية وبخاصة الدنيا نحو الاستجابة الواعية لكل المضامين الحقيقية والابتعاد عن الادعاء والتمظهر الفارغ!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 25/نيسان/2012 - 3/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م