احتجاجات العمال في هولندا على إيقاع الربيع العربي

التجاني بولعوالي

في الوقت الذي عادت فيه عملة الأورو إلى واجهة الأحداث على مستوى المشهد السياسي والإعلامي الهولندي، لتشغل من جديد رأي مختلف شرائح المجتمع، التي عادة ما ترجع سبب الويلات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية المجتاحة للعديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك هولندا، إلى اعتماد عملة الأورو، التي أدت إلى تراجع فظيع في مستوى نمو أغلب دول الاتحاد الأوروبي عما كانت عليه قبل هذه المرحلة.

 وفي هذا الصدد بدا زعيم حزب الحرية خيرت فيلدرز، من خلال تصريحاته الأخيرة، متحسرا على الماضي القريب، الذي كانت فيه "الخولدة" عملة البلد، إذ بفضلها حققت هولندا نموا اقتصاديا منقطع النظير، ورأى أن المخرج من هذا المأزق هو بكل بساطة انسحاب هولندا من مجموعة الأورو! لأن عملة الأورو تكلف الدولة أموالا طائلة، حيث سوف تخسر السنة الجارية 51 مليار أورو من مستحقات الديون الخارجية، وبمجرد استبدال الخولدة بالأورو يمكن تفادي هذه الخسارة المالية الهائلة.

في الوقت نفسه إذن، وخارج أسوار القلعة السياسية، بدأ الشارع الهولندي يتحرك وهو يكشف عن أن هولندا ليست بعيدة عن الأزمات الاقتصادية، التي ضربت موجاتها العاتية أكثر من دولة، وأكثر من اقتصاد. وتقود هذا الحراك الحقوقي والسياسي فئة اجتماعية وعمالية ظلت طوال نصف قرن من الزمن صامتة ومهمشة، لاسيما وأن أغلب مكوناتها تنتمي إلى الأقليات الأجنبية المهاجرة، التي ظلت منذ أن وطئت أقدامها هذه الأرض "الموعودة"، منشغلة بالعمل الذي أنيط بها، في مختلف المؤسسات من شركات ومكاتب ومستشفيات ومدارس، وغير ذلك. وقد لبثت هذه الفئة أمدا طويلا، وهي تجدّ وتكدّ دون أن تسأل عن الكثير من حقوقها المهنية والصحية والمادية، إما لأنها لا تتقن لغة المطالبة، أو لأنها لا تفقه شيئا من قانون العمل، أو لأنها تجهل أصلا أن ثمة حقوقا تهمها، أو لأنها تحبذ أن تبقى في سلام وطمأنينة راضية بالوضعية التي توجد فيها، أو بالقسمة التي كتبت لها!

إن الأمر يتعلق بفئة شغيلة النظافة التي تحضر بكثافة في مختلف المجالات، إذ يعود إليها الفضل الكبير في تيسير عمل مختلف القطاعات الرسمية والخدمية والإنتاجية، غير أن جهودها الجبارة تظل رهينة الكواليس أو بالأحرى الظل! بعيدة عن ضوء الإعلام واهتمام السياسة، وتنحدر الغالبية الساحقة من هؤلاء العمال من أصول مسلمة؛ تركية ومغربية وأفريقية، التي أضحت في الآونة الأخيرة تعاني من شتى المشاكل في العمل، كتدهور الأجور بالمقارنة مع القطاعات الأخرى، وارتفاع حجم الاقتطاع من الأجور، وكثرة ساعات العمل، واعتماد سياسة تسريح اليد العاملة، وغير ذلك.

هذا المناخ المتردي الذي أضحت تتخبط في براثنه هذه الشريحة العمالية، ترتبت عنه حركة احتجاجية منظمة لم يسبق لها مثيل على الصعيد الهولندي، سبقتها إضرابات عادية متنوعة هنا وهناك في إطار اتحاد نقابات العمال الهولندية (FNV)، غير أن ما حصل خلال الأسبوعين الأخيرين تجاوز أن يكون مجرد إضراب مؤقت، لأنه استغرق بعض الأيام والليالي التي تخللتها مختلف الأنشطة، كالمهرجانات الخطابية، والمظاهرات المتنوعة، والشعارات الرنانة، والأمسيات الغنائية (بالهولندية والعربية والأمازيغية والتركية والكردية، وغيرها)، والأطعمة المجانية، وما إلى ذلك. هذا ما كان يذكر كل من تابع هذا الحدث عن كثب، بميدان التحرير وغيره من الساحات والأماكن التي شهدت حركات الربيع العربي، كأن صانعي هذه الحركة الاحتجاجية استلهموا النموذج العربي، الذي صار حديث كل الألسنة والأقلام والنوادي.

لكن اللافت للنظر أن هذه الحركة الاحتجاجية اختلفت عن غيرها من الحركات في مسألة أساسية، وهي عدم خروجها هذه المرة إلى الشوارع والساحات العمومية، وإنما توجهت إلى جامعتين معروفتين على المستوى الهولندي، وهما جامعة أوتريخت، التي يناهز عدد طلابها 30 ألف طالب، وجامعة VU في مدينة أمستردام، التي يقدر عدد طلبتها بحوالي 25 ألف طالب. حيث تمكن العمال المعتصمون من أن يستقطبوا أعدادا كبيرة من الطلاب، الذين تبنوا مطالبهم المشروعة، وتواصلوا في هذا الشأن مع مختلف مكونات الجامعة، من إدارة وأساتذة وموظفين، وذلك قصد ممارسة الضغط على أرباب شركات النظافة التي تستغل العمال بشكل فظيع، ومن بينها الشركات المسؤولة عن قطاع النظافة داخل الجامعة.

وقد سجلت سائل الإعلام أن هذه الحركة الاحتجاجية لعمال النظافة بدأت يوم الإثنين 27 فبراير 2012، على الساعة العاشرة والنصف صباحا، إذ احتل أكثر من 2000 عامل نظافة صحبة عشرات الطلبة البهو الرئيس لجامعة أوتريخت، بالإضافة إلى بعض القاعات، أين نظموا جملة من الأنشطة والمظاهرات المناهضة لظروف العمل السيئة وسياسة التقشف المعتمدة في التعليم، مطالبين جامعة أوتريخت، باعتبارها أكبر زبون في ميدان النظافة، بأن توقع ميثاق "سوق العمل الجيد"، كما التمسوا من الطلبة والأساتذة والموظفين مساندة حركتهم عن طريق توقيع عريضة الاحتجاج.

وقد ورد في الموقع الرقمي للجامعة أنه تم توقيع اتفاق كتابي بين المضربين وإدارة الجامعة، على أن تستغرق مدة الاحتجاج داخل مبنى الجامعة، نهار يوم الإثنين وليلة الثلاثاء إلى حدود الحادية عشر ما قبل ظهيرة يوم الثلاثاء، ثم يمكن بعد ذلك الاستمرار في الاعتصام في الساحة الخارجية للجامعة إلى الساعة الرابعة زوالا. وتجدر الإشارة إلى أن جامعة أوتريخت تعتبر أول جامعة وقعت ميثاقا ينص على مراعاة حقوق عمال النظافة، ويدعو إلى تحسين ظروف عمل هذه الفئة العمالية.

بعد جامعة أوتريخت مباشرة، سوف تتوجه الحركة الاحتجاجية شمالا نحو جامعة VU في أمستردام، حيث سوف تتكرر القصة نفسها، فيكتسح العمال المضربون صبيحة يوم الإثنين 5 مارس 2010 بهو الجامعة وبعض مدرجاتها وقاعاتها، التي أصبحت طوال نهار الإثنين وليلة الثلاثاء إلى حدود الظهيرة، بمثابة مهرجان مفتوح للجميع؛ عمالا وطلبة، ترفع فيه الشعارات، وتردد فيه الهتافات والأغاني بمختلف اللغات، وتلقى فيه الخطب والكلمات، وتوزع فيه الأطعمة والمشروبات. واللافت للنظر أن أعدادا غفيرة من اليد العاملة المغربية والتركية والأفريقية؛ رجالا ونساء، كانت حاضرة بشكل مكثف طوال هذه المدة، حيث كانت تكتظ قاعة الصلاة في الجامعة بالمصلين، الذين كان يبدو من حديثهم أنهم عازمون على مواصلة النضال من أجل استرداد حقوقهم المهضومة، وقد تحسر أحدهم كثيرا، عندما قال أن هذه الاحتجاجات جاءت متأخرة.

وقد تعاملت الجامعة بتفهم عال مع هذا الحدث، حيث تحاورت مع ممثلي المضربين، وعبرت عن مساندتها لحق الإضراب، غير أنها لا تعتبر نفسها طرفا مباشرا في هذه القضية. ومع ذلك فقد وجهت نداء ملحا إلى الشركة المسؤولة عن نظافة الجامعة، تطالبها بأن تفتح حوارا بناء مع نقابة العمال حول القانون المنظم لقضايا الشغل.

خلاصة القول، ما يسترعي الانتباه في هذه الحركة الاحتجاجية التي بدأ يشهدها الواقع الهولندي، ليس لأن أغلب صناعها أو منظميها ينحدرون من أصول أجنبية فحسب، وإنما لأنه رغم أن المستوى التعليمي والثقافي لهؤلاء العمال المضربين يظل متواضعا، فإنهم أبانوا عن نضج عميق بالقضية التي يكافحون من أجلها، وهذا من شأنه إما أن يطمئن السلطات الهولندية ويجنبها أي توجس من هذه الحركة النضالية التي قد تَؤُول إلى ما لا يحمد عقباه من عنف وتخريب واعتداء. وإما أن يزرع في نفسها بذور الخوف الدفين من هذا الوعي "الأجنبي" الذي قد يتطور مع الأيام إلى مزيد من الوجود والنفوذ والامتداد، الذي يشكل شوكة حادة في حلقوم التيارات الرافضة للأجانب، تنغص عليها صفو حياتها!   

* باحث وإعلامي مغربي مقيم بهولندا

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/آذار/2012 - 24/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م