المضامين الحداثية في مفهوم الفردانية

أ.د. علي أسعد وطفة

يعد مفهوم الفردانية Individualisme من أكثر المفاهيم غموضا وإثارة للتساؤل في الثقافة العربية المعاصرة. ولم يستطع هذا المفهوم أن يأخذ مكانته العلمية في الأنساق الثقافية في الفكر العربي المعاصر رغم الأهمية المركزية التي يأخذها في صلب الحضارة الغربية. علما بأن فهم الحضارة الغربية وتحليل مضامينها وتضاريسها ومغامراتها الفكرية يعتمد في كثير من وجوهه على فهم وإدراك مفهوم الفردانية بوصفه واحدا من المفاهيم الأساسية المركزية في هذه الحضارة. ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى لمعالجة هذا المفهوم وتحليل مضامينه والكشف عن الدور الحيوي الذي لعبه في مسيرة الحضارة الغربية وفي انطلاقاتها الثقافية.

لقد شكلت النزعة الفردانية واحدة من أهم الفتوحات الكبرى للحداثة الغربية، وفرضت نفسها منطلقا حيويا من منطلقات تقدم الحضارة الغربية منذ عصر التنوير حتى مرحلة ما بعد الحداثة ([i]). وشكل مفهوم الفردانية بدوره واحدا من المفاهيم المركزية التي أطلقت حرية الفرد ومكنته من الانطلاق في عملية البناء الحضاري للإنسانية منذ فجر الحضارة الغربية.

وعلى الرغم من الدور الحضاري الذي مارسه هذا المفهوم فإنه بدأ يفقد تألقه التنويري وبهجته الحضارية تحت تأثير مجموعة من التحولات السلبية ذات الطابع الاغترابي التي شهدتها الحضارة الغربية بعامة وهذه التي شهدها هذا المفهوم بذاته في المرحلة الأخيرة من الحداثة. وتتجلى هذا الوضعية في تأثير مظاهر سلبية اجتماعية عديدة ارتبطت بالفردانية، أهمها: تنامي مظاهر العنف والتدمير والعدوانية والفقر والبؤس الإنساني والبعد الأناني والنرجسي للحياة الإنسانية في عمق الحضارة الغربية، ومن ثم نمو واتساع العزلة والانطوائية، واللامبالاة التي هيمنت على الحياة في المجتمعات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ففي غمرة التحولات الاجتماعية التي شهدتها المجتمعات الغربية يجري الحديث دائما عن الشيوخ والعجزة الذين يموتون في منازلهم دون أن يعلم بهم أحد، حيث بدأت ظاهرة العنف تفرض نفسها في كل مكان، وبدأت مظاهر الاستهلاك تتزايد بطريقة لا حدود لها، وارتبط ذاك بغياب مستمر ومتواصل للمشاعر الإنسانية الخلاقة التي عرفتها المجتمعات القديمة.

وعلى الرغم من هذه الجوانب السلبية التي ارتبطت بالفردانية فإنها ما زالت تتضمن في ذاتها على حق الإنسان في أن يمتلك نفسه وأن يصوغ وجوده بإرادته ورغبته، وأن يقرر بذاته حدود هذا الوجود بما يتضمن عليه من فعاليات إنسانية مختلفة. وبقيت الفردانية على الرغم من كل شيء إعلانا إنسانيا ضد التسلط والإكراه والظلم ورمزا لانتصار الإنسان ضد مختلف التحديات التي تقف في وجه نموه ونطوره وصيرورته الإنسانية.

إن ما حققته الإنسانية من إنجازات خلاقة، في مختلف ميادين الحياة العلمية والعملية، تعود إلى هذه الصيرورة الاجتماعية التي تحول فيها الإنسان من كائن اجتماعي مذَوّب في جماعات تقليدية إلى كائن فرد متفرد يمتلك شروط وجوده وكينونته الفردانية، بما يجعله أكثر قدرة على ممارسة القدرة والإبداع في مختلف ميادين الحياة. وإذا كانت الفردانية اليوم توضع في قفص الاتهام، فإن هذا ليس غريبا أبدا لأن الحداثة برمتها توضع اليوم في دائرة الشك وفي موضع النقد الدائم. ومهما يكن من أمر السلبية التي تنسب إلى الفردانية اليوم فإنه يجب علينا ألا نتجاهل أبدا هذه الجوانب الخلاقة في هذا المفهوم الذي شكل منطلقا للفعل الحضاري في مرحلة الحداثة.

مفهوم غامض:

لا يوجد تعريف ممتنع مانع لمفهوم الفردانية، كما لا يوجد إجماع على حدوده. وهذا هو معجم لالاند يعلن عن غموض هذه الكلمة ويطرحها في صيغة إشكالية. ويمكن تشبيه هذا المفهوم بالشبح أو الطيف الذي يومض أمام العقل ويفر منه دون أن يترك له فرصة مناسبة للرصد والتحليل، إنه كالسراب الذي يتبدد كلما اشتد العقل في طلبه. فالمفهوم ما زال عصيا على التحديد العلمي الكامل، وما زال مشحونا بطاقة إيحائية كبيرة ومتعددة في مختلف مجالات استخدامه.

تشتق كلمة فرد Individu من اللاتينية Individuum وهي تعني الجزء الذي لا يتجزأ. وهذا يؤسس بأن مفهوم الفردانية يقوم على مبدأ الكينونة التي تمتنع على التجزئة. وفي هذا السياق يبين قاموس دوزات Dauzat أن هذه الكلمة ظهرت عام 1826 في جريدة كلوب Glob الباريسية كنقيض لكلمة اشتراكية Socialisme. ويأخذ مفهوم الفردانية صورته الاشتقاقية من المفهوم اللاتيني Individualism. وهذا يعني أن المفهوم يقابل مفهوم الجمعنة، وعلماء الاجتماع يقارنون اليوم بين مفهوم الجمعنة Sociabilité وبين مفهوم الفردانية. ويعني مفهوم الجمعنة الحالة التي يكون فيها الفرد صورة نسخة متكررة عن الجماعة التي ينتمي إليها. ومن هذا المنطلق يجري الحديث عن الفردانية بوصفها الحالة التي يكون فيها الفرد كيانا مستقلا ومتفردا عن الجماعات التي ينتمي إليها، وقادرا على اتخاذ قراراته استنادا إلى إمكانياته الخاصة وقدراته المستقلة عن أفراد الجماعة الآخرين الذين ينتمي إليهم الفرد. فالفردانية هي نزعة أو سلوك يؤكد على الخصائص الذاتية للفرد وعلى سماته ومميزاته الخاصة وذلك بما يتعارض مع ما هو جمعي وعام ومشترك. وهذا يعني أن الفردانية تؤكد ما هو خاص وشخصي ومتفرد. وهذا يعي في النهاية أن الفرد - وفقا لمفهوم الفردانية - كائن إنساني يمتلك وحدته الداخلية ويؤدي وظيفته كنسق ونظام متكامل، ويمتلك استقلالية خاصة في دائرة الوسط الذي ينتمي إليه.

ترمز الفردانية إلى واقع اجتماعي وثقافي يستطيع فيه الناس، بوصفهم أفرادا، اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم وممارسة عقائدهم، كما ترمز إلى مجتمع يضمن فيه النظام الاجتماعي والقضائي حماية حقوق الناس بوصفهم أفرادا غير مكرهين على التضحية أو التنازل عن شيء يعتقدون به ([ii]). وباختصار تشكل الفردانية العالم الذي يستطيع فيه الناس اختيار نمط وجودهم وحياتهم وسلوكهم، إنه العالم الذي يمتلك فيه الإنسان نفسه ويسيطر على وجوده بحرية مؤكدة وعلى نحو لم يعهد في المجتمعات التقليدية القديمة. وقد حظيت الفردية بحماية النظام الحقوقي في الحضارة الإنسانية المعاصرة حيث لا يحتاج الناس إلى التضحية بأنفسهم وفلذات أكبادهم في معترك الطابع القدسي للحياة. وليس أمام الناس أن يرفضوا هذا الانتصار التاريخي للفردانية الذي حررهم من إكراهات الماضي وطغيان الشموليات الأسطورية القديمة.

ويجب الاحتراز عند توظيف مفهوم الفردانية لأنه ينطوي على نقائض تحمل طابعا أيديولوجيا([iii]). إذ يوظف هذا المفهوم في أغلب الأحيان توظيفا أخلاقيا سلبيا فيه تلميحات تبخيسية تحط من شأن الذي يوصف بالفردية. وفي هذه الصورة السلبية للمفهوم يشار إلى صفة التسلط أو العزلة الاجتماعية، أو إلى نزعة مضادة للجماعة معادية للتعاون مع الآخرين، كما يشار أيضا إلى صفات الأثرة والأنانية أو التسلط وإلى عدد آخر من الصفات السلبية التي تحيط باستخدامات هذا المفهوم.

وهنا يترتب علينا أن نميز بين الفردية والذاتية فالفردية تعني أن يأخذ الإنسان موقفا معينا من قضية ما أو مجموعة قضايا وأن يكون الفرد بالضرورة واعيا بأبعاد موقفه. أما الذاتية فهي اللحظة التي يرى فيها الفرد أنه محور الوجود أو مركز الكون في مسار حياته الاجتماعية وأن يفهم الأشياء من خلال مصلحته الذاتية ([iv]). وهذا يعني بالضرورة صورة من صور الأنانية. فالفردية هي شيء غير النزعة الذاتية أو الفردية التي تنضح بالأنانية والاستغراق في نرجسية لا حدود لها.

وفي هذا الصدد يجب التأكيد على أن مفهوم الفردية Individuality في صورته العلمية براء من كل هذه التوصيفات السلبية التي تعني الأنانية والذاتية والنرجسية. فالفردية مصطلح علمي يتضمن عناصر إيجابية مختلقة تماما عما ينسب إليه في الاستخدامات الجارية. فالفردية هي صورة الإنسان الذي يتمايز عن الجماعة أو الآخرين بطرقة تفكيره وعمله ونظرته للوجود. وهي حالة من حالات شخصنة الفرد أي إعطاء الفرد سمات وخصائص شخصية يتفرد بها ويكتسب عبرها هويته المميزة.

لا توجد في المجتمعات القديمة هناك شخصية مميزة للفرد وليس له خصائص يتميز بها عن الآخرين. ومع سياق التطور الاجتماعي يكتسب الفرد في المجتمعات الحديثة، بحكم الضرورة التاريخية وتقسيم العمل، شخصية يتمايز فيها عن الآخرين. وهذا لا يعني أبدا التفرد والانفراد والعزلة والتضاد مع ما هو اجتماعي بل يعني أن الفرد يكتسب خصائص يتمايز فيها عن الآخرين في سياق التعاون والتكامل الاجتماعي. وتاريخيا غالبا ما ينظر إلى الفردية كمؤشر للتطور الاجتماعي والثقافي. وهذا يعني أن الفردية مؤشر حضاري يجسد حالة التطور التي استطاع المجتمع أن يحققها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا. فالطبيب والمهندس والعالم والمفكر وأغلب المتخصصين والمثقفين في المجتمع يعيشون حالة فردية فردانية، بمعنى أنهم يمتلكون خصوصية فكرية واجتماعية ومهنية يعرفون بها ويتمايزون من خلالها ويكتسبون بها هوية خاصة تميزهم عن سائر الأفراد الآخرين في المجتمع.

فنحن نعيش اليوم في عالم مختلف يستطيع فيه الناس اختيار طريقة حياتهم على منوال ما يعتقدون، ويسيطرون على معالم وجودهم بطرق مختلفة، وهم يمتلكون منظومة من الحقوق الفردية، والقانون المدني بالتالي يعمل على حماية هذه الحقوق الفردية، وعلى هذا الأساس فإن الناس ليسوا مجبرين – كما كان الحال في العصور الغابرة - على التضحية بشيء على أساس القيم الجمعية التي يعتقد بأنها مقدسة وأنها تتجاوزهم([v]).

 وهذا يعني في النهاية أن مفهوم الفردية يقابل مفهوم الجمعية أو الجمعنة، وبالضرورة فإن الفردية تعني الشخصية المتمايزة والحرية والاستقلال الذي يحظى به الفرد في مسار نمائه الاجتماعي وتطوره الإنساني. ولا بد من الإشارة في هذا الخصوص أن مفهوم الفردية بما ينطوي عليه من مضامين عقلية وسياسية واجتماعية يعد من المفاهيم المؤسسة للنهضة الغربية في القرن الثامن عشر وما يليه من مراحل تاريخية.

في المجتمعات التقليدية ولا سيما البدائية تأخذ العقلية صورة العقلية الجمعية والقطيعية Mentalité de troupeau. فالفرد لا يستطيع أن يتصور وجوده على أساس مستقل لأنه يشعر بأنه جزء عضوي في الجماعة التي ينتمي إليها. فهو فرد في قطيع تحكمه معايير وقيم واحدة وهو بالتالي نسخة متكررة عن شخصية القبيلة التي لا تغاير فيها. وهذا يعني أن وجود الفرد بوصفه كيانا مستقلا متميزا لا وجود له في في هذه المجتمعات. ويعد دوركهايم من ألمع المفكرين الذين أشاروا إلى هذه القضية في مختلف أعماله ولا سيما في كتابيه تقسيم العمل. De la division du travail social ([vi])، والأشكال الأولى للحياة الدينية Les formes élémentaires de la vie religieuse ([vii])، حيث يبين أنتطور المجتمعات يأخذ طابع الانتقال من التكامل الاجتماعي الآلي إلى التكامل العضوي، وذلك عبر عملية تقسيم العمل المستمرة. وفي هذا السياق يوضح أن التكامل في المجتمعات الأولية أو البدائية يأخذ طابع التكامل الآلي. فالفرد صورة طبق الأصل نسخة مكررة عن شخصية القبيلة أو المجتمع الذي ينتمي إليه، وذلك بأفكاره وأسلوب تصوره للحياة ونمط حياته، وهذا بالطبع يعود إلى أنماط الحياة الاقتصادية البسيطة جدا التي تعتمد على الصيد أو الرعي أو الزراعة البسيطة، وجميع أفراد القبيلة يمارسون العمل نفسه وأنماط الإنتاج والسلوك عينها. وهذا يعني وجود نوع من التكامل الآلي في داخل هذه المجتمعات. ومع تطور أساليب الإنتاج والعمل وظهور التخصصات يتفرد كل شخص في القبيلة باختصاصات معينة مثل التجارة والصناعة وتربية الحيوان والعمل الثقافي والمهني ويبدأ معها أفراد المجتمع بالتمايز ثقافيا وفكريا وسيكولوجيا ويبدأ المجتمع مرحلة جديدة يعتمد فيها على التكامل العضوي بين مختلف الوظائف الجديدة أو مع تقسيمات العمل، وهذه هي سمة المجتمعات العصرية أو الحديثة.

فالفرد في هذه المجتمعات الحداثية يمتلك خصوصيته واتجاهاته وفرديته على خلاف المجتمعات التقليدية التي تتطابق فيها شخصية الجماعة مع شخصية أفرادها وتغيّب الفردية والخصوصية. وهذا يعني أن الروابط في المجتمعات البدائية تأخذ صورة روابط دموية قرابية جمعية، بينما تأخذ طابعا ثقافيا فرديا في المجتمعات الحديثة أو المعاصرة. وفي المستوى الذهني يمكن القول بأن العقلية التي تسود في الجماعات الأولية أو القديمة هي عقلية القطيع وعلى خلاف ذلك تسود العقلية الفردية في المجتمعات التي حققت تقدمها الاجتماعي.

وتتضح فكرة دوركهايم في الصورة التي يقدمها أفلاطون في أسطورة الكهف، حيث يبين كم هو صعب بالنسبة للفرد أن يتحرر من المألوف والمتعارف عليه. وهذا يعني أنه من الصعب جدا على الفرد أن يتمسك بمبادئ وقيم تتناقض مع عقائد الجماعة وقيمها لأن ذلك سيؤدي به إلى العزلة الاجتماعية بعيدا عن أقرانه وأفراد مجتمعه.

ومع ذلك يمكن القول بأن الفرد لا يستطيع دائما أن يختبئ وراء حجاب العقائد والأيديولوجيات القائمة بل يجب عليه أن يتخذ موقفا يتكامل مع غاياته و مقاصده الفردية وهنا يمكن القول بأن عقلية القطيع تصب اللعنة على الوعي الفردي. وترى بأن الحماية الأساسية للفرد تكمن في عزوفه عن الاعتقاد بأي شيء آخر غير عقائد الجماعة أو الخضوع لأية سلطة أخرى غير سلطة المجموع. فالعرف والعائلة والدين عوامل تعمل على تشكيل الفرد ومنعه من أن يكون لذاته وأن ينصرف لمقاصده الفردية ومن أن يكوّن هوية فردية خاصة ([viii]).

فالإنسان المختلف يشكل مصدر إزعاج وهو لا يشكل مصدر إزعاج لأنه مختلف بل لأنه يتصرف وفقا لإرادته الخاصة. وبالتالي فإن التصرف وفقا للإرادة الفردية يعني أن الفرد يحتكم إلى بصيرته، وهذا بدوره يؤكد انفصاله عن الذكاء الجمعي، وهذا يعني أيضا أنه ليس لأي فرد الحق في أن يعلن عن حق خاص به مهما يكن في المجتمعات القديمة ([ix]).

وباختصار يمكن القول أن الفردية خاصة من خصائص التطور الاجتماعي، وهي خاصة تتجسد في قلب الحياة الاجتماعية للمجتمعات الحديثة والمعاصرة. وعلى خلاف ذلك فإن الجمعية Collectivité تعد خاصة أساسية من خصائص المجتمع البدائي حيث يكون الفرد مجرد صورة عن الجماعة التي ينتمي إليها. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الفردانية تؤكد أهمية نمو الفرد وازدهاره وتأصيل قيمته الخاصة وقدراته المميزة وذلك في مواجهة مظاهر التماثل والتجانس التي تأخذ مداها في النماذج الشمولية القائمة عبر التقاليد والتسلط. وهي في هذا المعنى والسياق تؤكد الفردانية مبدأ الأصالة والتفرد إزاء التماثل والتطابق. وهذا من شأنه أن يعطي لهذا المفهوم أبعاده الأساسية لأن الشخصية الإنسانية تحتاج إلى من يقدم لها الحماية في مواجهة الروح الجمعية التي تميل إلى إلغاء الفرد وتذويبه في دائرة الروح الجماعية التقليدية. كما أنها تحتاج إلى الحماية ضد أخطار الأفراد الآخرين الذين يميلون إلى التسلط والإكراه.

إن الفردانية، بتأكيدها على الخصوصية والتفرد والأصالة، لم تعرف في المجتمعات البدائية القديمة أو حتى في المجتمعات الإقطاعية. فالمجتمعات القديمة تعرف بدرجة عالية من التماسك والتضامن حيث يلفظ ويستبعد أي فرد يسعى إلى التفرد والتميز والاستقلال عن الجماعة.

ففي بلاد الإغريق القديمة ظهر العقل وتأصلت الديمقراطية ولكن هذه الحضارة أهملت الجوانب الداخلية للإنسان التي تتميز بتفردها وتميزها. لقد طرح الإغريقيون القدماء السؤال المركزي التالي: ماذا نعرف؟ وأجابوا عن هذا السؤال بمنهجية تفرض نفسها حتى العصر الراهن. ولكنهم أبدا لم يطرحوا السؤال التالي الذي لا يقل أهمية عن الأول وهو: من الذي يعرف؟ أو من نحن؟ بمعنى أنهم تجاهلوا الذات العارفة وأكدوا على أهمية موضوع المعرفة بذاتها. وهذا يعني أن بلاد الإغريق لم تشهد نموا في علم النفس والتحليل النفسي الذي عرفته الإنسانية في القرن التاسع عشر.

كانت الحرية في اليونان حكرا على بعض الفئات الاجتماعية الأرستقراطية. ومع وجود هذه الحرية فإنه لم يكن يسمح للفرد بالخروج على معايير الجماعة وقيمها وعاداتها وأعرافها وتقاليدها. وقد تجلت هذه الحقيقية في إعدام الفيلسوف الشهيد سقراط الذي حاول أن يعبر عن رأيه بحرية فأدين من قبل المجتمع الإغريقي ونفذ فيه حكم الإعدام. وهو حكم إعدام الفردانية والحرية الشخصية. لم تكن بلاد الإغريق القديمة قد تطورت إلى الحد الذي يسمح بالنظر إلى الإنسان بوصفه كيانا فرديا مستقلا عن الجماعة أو خارج دائرة النسق الاجتماعي.

لقد عرفت المجتمعات الغربية المسيحية مفهوم الفردانية في العصر الوسيط أيضا، ولكنه لم يبلغ غاية نضجه ولم يصل إلى تمام كماله. بل غالبا ما كان هذا المفهوم يحمل في طياته مضامين سلبية تتعلق بالرغبات والميول والنـزعات الأولية الفردانية. فالفردانية بهذا المعنى تتويجا لمعاني السلبية الفردانية التي كان المجتمع يحاربها من أجل الصفاء الروحي والكمال الأخلاقي.

لقد ولد مفهوم الفردانية في أقفاص الإدانة وزنزانات الاتهام. إذ أن ما يتميز به الفرد بوصفه كيانا مستقلا هو ما تجب إدانته حتى وإن كان هذا التميز يأخذ اتجاهات خيرة ونبيلة، حيث تقضي أخلاق هذه المجتمعات تحرير المجتمع من الامتيازات الفردانية التي يجب التخلص منها. وباختصار يمكن القول بأن المسيحية اكتشفت الفردانية وأدانتها في الوقت نفسه بوصفها حالة سلبية غير أخلاقية تهدد المجتمع وتقوض درجة تماسكه.

لقد نادت النهضة في باكوراتها الأولى بعطاء الحرية الذي يسمح للفرد أن يقرأ ما يشاء، وأن يصور الفنان ما يختار، وأن يجهر الفيلسوف بما يعتقد، فأعلنت أن الفرد صار غاية في ذاته ناقدا شكاكا ظمآن للمعرفة ومدركا لقوته ([x]).

وفي مراحل لاحقة وجد مفهوم الفردانية نفسه في حقل الرعاية الفلسفية الإنكليزية عند هوبس Hobbs ولوك Lock وآدم سميث Smith الذين كانوا في طليعة المفكرين الذين تناولوا مفهوم الفردانية بالدراسة والتحليل. وهم في دائرة طروحاتهم كانوا ينظرون إلى الإنسان في دائرة تفرده ويقابلون بينه وبين الدولة.

يرى جروسيوس في هذا السياق أن هناك حقوق طبيعية للإنسان كامنة في الأشخاص يكشفها العقل ويعترف بها القانون الطبيعي، ومن ثم يجب أن يترتب عليها القانون الوضعي. لقد اعتبر معظم كتاب القرنين السابع والثامن عشر وجود هذه الحقوق أمرا واضحا بذاته يكشفه العقل، فالعقل أصبح مناط الفكر في هذه المرحلة التاريخية([xi])." لقد مضى مفكرو الليبرالية إلى مسافات متقدمة بنظرية القانون الطبيعي حينما اتخذوها وسيلة للحد من السلطة السياسية المركزة في شخصية الحاكم (السلطان المطلق للملوك)، وكانت أول صورة ظهرت فيها النظرية كقيد على سيادة الدولة في عهد الملكيات المطلقة في القرن السادس عشر([xii]).

وعلى أثر الفلسفة الإنكليزية يأتي عصر التنوير في القرن الثامن عشر بأحمال من العطاءات الفكرية التي شكلت مهادا لتطور مفاهيم الفردانية وحقوق الإنسان. لقد عمل فرسان التنوير على تحرير الإنسان عقلا وفكرا وممارسة وانتماء. فالعقل كما كانوا يعلنون باستمرار هو أداة المعرفة الشخصية وأن الفردانية في دائرة الحرية تشكل مبدأ الإبداع والعطاء الفكري بمختلف تجلياته.

فإعلان حقوق الإنسان في عصر التنوير يؤكد على أهمية الفرد والفردانية. ومع أهمية هذا التقدم في تحديد مفهوم الفردانية في عصر التنوير لم يصل هذا المفهوم إلى مستوى الوضوح الذي يتجه إليه. وبالتالي فإن إعلان حقوق الإنسان يفتح المجال لكل فرد أو مواطن بأن يمارس حقه في الوجود وأن يعيش حياته بوصفه كينونة اجتماعية متفردة وحرة.

ويلاحظ في هذا السياق أن فكرة الفردانية كانت تحقق تقدمها وحضورها المتزايد بصورة متناسبة طردا مع تراجع أهمية الدين وانحسار قوته في الحياة الاجتماعية في أوروبا الغربية. وقد شكل انتصار الحداثة بصورة تدريجية المجال الحيوي الذي انتشت فيه الروح الفردانية حيث كان تقدم الفردانية مترابطا بصورة جدلية مع اتساع مساحة الأهمية التي تحتلها الحداثة في الحياة الاجتماعية برمتها.

وفي مجرى القرن التاسع عشر بدأت الفردانية تزدهر وتحقق فتوحاتها الفكرية ولاسيما في مجال الفن وفي مجال الأدب الرومانتيكي الذي شكل الحقل الأكثر أهمية في مجال الإبداع الفردي. وقد تبلورت هذه الفردانية في المستوى الاقتصادي والاجتماعي مع الانتصار المتنامي للرأسمالية والطبقة البرجوازية الذي بلغ أشده في القرن التاسع عشر. ومع أهمية التقدم الذي حققته الفردانية إلا أنها بقيت تواجه فيضا من القيم والأفكار المناهضة لها مثل: التابو والمحرم وميتافيزياء التفكير وعقليات ما قبل الحداثة.

ولا تقل أهمية تطور هذا المفهوم في المجال السياسي عنه في المجالات الأخرى حيث شهدت الفردانية أوج ازدهارها في عهدي ماركس وسترز. وفي هذا المجال أدان سترز الروح الجمعية وأعلن أنها شر بالمطلق ومصدرا لآلام الإنسانية والإنسان. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخصوص هو هل كان ماركس يولي الجوانب الشخصية والفرية في الإنسان الأهمية التي أعلن عنها في القرن التاسع عشر؟ أم أنه وعلى خلاف ذلك كله كان يحصر اهتمامه في الجوانب الاجتماعية للحياة الإنسانية متجاهلا أهمية الفرد والفردانية في مسار التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية؟ ومن المؤكد في هذا السياق أن ماركس كان يولي هذه المسألة بعض اهتمامه ولاسيما في كتابه رأس المال الذي ينطوي على تضمينات فكرية متنوعة حول الفرد. ومع أن أفكاره حول الفردانية كانت مختصرة وسريعة إلا أنها لا تفتقر إلى الأهمية التي أعطاها لهذه المسألة. ويتجلى هذا الأمر في أفكاره عن أوقات الفراغ وعن خصوصية العمال وأهمية تعليمهم وتثقيفهم.

ومن ثم تجلت الأهمية القصوى لمفهوم الفردانية في مجال البيولوجيا التي أكدت في مجال اكتشافاتها حالة التفرد التي يتميز بها كل إنسان. لقد بينت البيولوجيا هذه أنه لا يوجد في الكون خليتان إنسانيتان متطابقتان, وينبني على هذا أنه لا يمكن أن يوجد شخصان متماثلان بالمطلق في العالم بأسره.

ولا تقل الأهمية التي عرفها مفهوم الفردانية في مجال علم النفس والتحليل النفسي وفي مجال العلوم الإنسانية بصورة عامة. فالاختلاف بين الأفراد لا يتوقف على حالتهم البيولوجية بل ينسحب هذا ليشمل مختلف تجليات الحياة الاجتماعية والتربوية وهذا يشمل عادات الأفراد وقيمهم وقدراتهم وسلوكاتهم وردود أفعالهم.

إن السمات التي ينفرد بها كل كائن إنساني حقيقة تؤكدها عقلانية المجتمعات الحديثة. لقد أضافت الحداثة في هذا المستوى بعدا جديدا للفردية يتمثل في الوضعية التاريخية لكل فرد والحالة الخاصة لمستوى تطوره. فالفرد وفقا لهذه الرؤية لا يختلف عن الآخرين وفقا لوضعيته القائمة فحسب بل يختلف عنهم أيضا باختلاف سيرته الحياتية وشروط تطوره النفسي والاجتماعي. فالإنسان الفرد نتاج لشروط معقدة بالغة التنوع في مستوياتها الاجتماعية والنفسية. ومن هنا فإن سلوك الإنسان يدرس علميا بأسبابه وعلى هذا الأساس فإن الإنسان المنحرف في الوضعية الحداثية يصلح ولا يعاقب أو يعذب، وذلك لأن المجتمعات الحداثية تأخذ بعين الاعتبار منظومة الشروط الاجتماعية والسيكولوجية في تحديد الطابع العام لسلوك الفرد اجتماعيا. وهذا يعني أن ما يرتكبه الفرد لا يعزى إلى مسؤولية الفرد فحسب بل يعزى ذلك أيضا إلى مسؤولية الجماعة والمجتمع. وهذا النوع من التفكير يتعارض كليا مع التفكير الذي يفرض حضوره في المجتمعات التقليدية.

الفردانية والجمعنة:

لا يمكن المقابلة بصورة مطلقة بين الفردانية والاجتماعوية، فالفردانية لا تعني الأنانية والنرجسية والعزلة ولا يمكن أن تختزل إلى أحد أمراضها. فالسمات الخاصة بكل فرد تشكل منطلقا لعملية ازدهار الجماعة. فالفرد المبدع يوظف طاقته في خدمة الجماعة في نهاية الأمر. وهذا يعني بان الخاص الفردي هنا لا يتعارض مع العام الاجتماعي بل يتكاملا بصورة موضوعية. وبالتالي فإن التوافق بين الفرد والجماعة يشكل منطلق النهوض الحضاري للمجتمعات الإنسانية القديمة والمعاصرة. فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ولا يمكنه أن يكون خلاف ذلك. وهذا يعني أن الجانب الفردي في الجماعة لا يتعارض أبدا مع الجانب الاجتماعي. وهذا ما يعبر عنه دوركهايم بقوله أن في كل منا كائنان: كائن فردي يعبر عن منظومة الميول الفردانية التي تخص الفرد دون أن يشترك فيها مع الجماعة، وكائن اجتماعي يمثل جميع الحالات والاتجاهات والقيم التي يشترك فيها الفرد مع الجماعة([xiii]).

ولا بد لنا في هذا السياق من الإشارة إلى جانب آخر في الفردانية يتمثل في الجسد. فالفردانية ليست تحريرا للنفس والمشاعر فحسب بل هي تحرير للجسد أيضا. وتأتي أهمية هذا الجانب حين نأخذ بعين الاعتبار فيض الممنوعات الجسدية التي تجعل تضع الإنسان في غربة حقيقة عن كيانه المادي. فامتلاك الجسد يعني الحق في الحياة والصحة وهذا يعني أيضا أن هذا الجانب يشكل منطلق حقوق الإنسان الخاصة بالفرد.

فالحداثة دونت للإنسان حقوقا وبفضلها أصبح لهذه الحقوق تقاليد وأعراف دولية وفكرية وسياسية. ومع أهمية ما حققته الحداثة في هذا المستوى إلا أنها لم تستطع أن تفرض هذه الحقوق في مختلف المجتمعات والبلدان. ومع هذا كله فإن الحداثة أوجدت المدونات الحقوقية وشيدت المؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة على حقوق الإنسان وأصلت هذه الحقوق على صورة قيم أخلاقية إنسانية تجري في الوعي وتأخذ طريقها نحو الروح.

ومع الأخذ بعين الاعتبار الجوانب السلبية في اعتبارات الحداثة للفرد والإنسان فإنه لا يمكن لنا أن نجد هذا المدّ الحضاري الواسع لحقوق الفرد والإنسان في الحضارات السابقة. لقد بلغ تقدير الفردانية والإعلاء من شأن الفرد الحد الأقصى في الحضارة الإنسانية المعاصرة. ومع ذلك كله لا يستطيع أحد من الناس أن الحروب دموية والمذابح العرقية والمقاصل البشرية التي تحدث هنا أو هناك، ولكن هذه الجرائم الإنسانية مدانة بالمطلق من قبل المجتمعات الإنسانية وتواجه رفضا بلا حدود.

استطاعت الحداثة أن تحقق ما لم تستطعه بعض الأديان في مستوى تحقيق الحريات الفردانية. لقد أعلنت المسيحية احترامها للإنسان بوصفه كائنا متفردا، واستطاعت أن تحقق أقصى درجات تكريمها للشخصية الإنسانية في باكوراتها، إلا أنها لم تستطع أن تحقق رسالتها هذه حتى النهاية أو كما يجب ولاسيما في ممارسات المؤسسات السياسية للمسيحية.

ويمكن لنا في هذا السياق القول بأن الفردانية هي المجال الحيوي الخاص بالإنسان. وهنا يجب ألا ننسى بأن الفردانية تتضمن منظومة من الحقوق الفردانية مثل: الاختيار الحر للمهنة، واختيار الزوجة، ومكان السكان، وحرية الرأي والتعبير وحرية المشاركة السياسية، وحرية التملك، وحرية الاعتقاد …الخ. ومثل هذه الحريات لم تٌعرف في المجتمعات التقليدية القديمة أو ما ينحو نحوها. وبعبارة أخرى يمكن القول بأن الفردانية تتضمن نسقا من السلوكات الخاصة والحريات والمكاسب الاجتماعية التي تعلي من شأن الفرد وكرامته وحريته. وتمثل هذه الحقوق والسلوكات عطاءات إنسانية لا يمكن للإنسان المعاصر أن يعيش من غيرها وهي سمات وعطاءات تؤكد أولوية الفرد على الجماعة.

وعلى الرغم من أهمية العطاءات والمكتسبات التي منحت للإنسان بوصفه فردا فإن الفردانية لا تُعد نفيا للروح الجماعية، وذلك لأن هذه الروح الجماعية هي في النهاية نتاج وعطاء لتفاعل الفرد الذين يشكلونها. وبالتالي فإن المجتمع لا يمكن أن يكون قويا إلا إذا كانت مكوناته الفردانية قوية ومتماسكة.

ولأنه لا يوجد في الكون كائنان متماثلان جينيا إلى حد التطابق فإن أي فرد في الجماعة يشكل عطاء إنسانيا يغنيها ويجعلها أكثر حيوية وقدرة، ولاسيما إذا استطاعت استثمار هذا التنوع والتفرد في مكونات وجودها. وهذا يعني أن الجماعات التي لا تحترم خصوصية أفرادها وهذه التي تفرض عليهم متطلبات وواجبات تتجاوز حدود طاقاتهم الممكنة هي جماعات تعاني من العقم في مختلف مستوياتها وتجلياتها.

فالفردانية التي تؤكدها الحداثة وتمارسها في مختلف مظاهر الوجود الإنساني تشكل اليوم حتمية تاريخية وحضارية تعادل من حيث المبدأ حتمية الحداثة نفسها. وذلك لأنها تتجه نحو تحقيق ازدهار الإنسان ونمو القدرات الطبيعية الخلاقة لديه.

ولنفترض أن يمكننا اليوم إدانة الفردانية وممانعتها. فإن السؤال هو كيف لنا أن نجد البديل لهذه الفردانية؟ هل سيكون هذا البديل بإعطاء الأولوية للجماعة؟ ألا يبدو لنا ذلك ارتدادا تاريخيا نحو التسلط والإكراه الذي عرفناه في ظل تسلط الدوغمائيات الجمعية.

حدود الفردانية:

الفردانية ليست مذهبا فلسفيا، ومع ذلك فإنها تتوازن مع إشكالية الحرية بوصفها واحدة من المشكلات الفلسفية. فالنظر إلى الفرد من خلال سماته وخصوصياته أمر ممكن ولكن هذا يجب أن يخضع لبعض الحدود والفواصل. وإذا كان كل فرد يؤكد حريته فإن حدود هذه الحرية ليست في انطلاقته الأولى أي فيما كان عليه في الأصل، وهذا يعني بدقة أن جملة من العوامل والشروط توجد في أصل نماء هذه الحرية. فليس هو الذي اختار هويته أو ما هو عليه. وهنا تتمركز إشكالية الفطري والمكتسب في مسألة الفردانية. فالإنسان هو هذا الكائن الذي يكون المكتسب فيه أكثر أهمية، ومع أهمية هذا الجانب ومدى حضوره الواضح في السلوك فإنه لمن الصعوبة بمكان أو بدرجة الاستحالة تحديد الجوانب المكتسبة وفصلها عن الجوانب الفطرية في شخص الإنسان. وهذا يعني أن إشكالية المكتسب والفطري تطرح نفسها إشكالية معقدة في دائرة المجتمعات الحداثية. فالفطري ينظم بالمكتسب وبالتالي فالمكتسب يوجه من قبل الفطري. وفي هذه الدائرة من تبادل التأثير بين المكتسب والفطري تقفز أمام العين الصعوبة الكبيرة في الفصل بين المكتسب والفطري في بنية الشخصية الإنسانية. والسؤال الأصعب الذي يدور في قلب هذه الإشكالية هو تحديد اللحظة الأولى التي يبدأ فيها كل جانب وتمن ثم تحديد النقطة التي ينتهي عندها. وهنا تتجلى مسألة الجانب الأخلاقي في الإنسان. فأين إذن تكمن مسؤولية الإنسان الفرد؟ ومتى يكون الفرد هو نفسه؟ فالفرد نتاج تاريخي لشروط مجتمعية متنوعة حيث يكون له تاريخه الخاص والمميز والمتفرد. والإنسان يمتلك في ذاته على جوانب اجتماعية. فهو يتكون على نبض الثقافة التي يعيش فيها ويتشكل في رحم المجتمع والثقافة.

ومن أجل الاستدلال على أهمية الثقافة في بناء الفرد يبين لنا التحليل النفسي أن الذهان النفسي يتحدد ويتشكل ثقافيا وأنه لا يمكن معالجة الإنسان وتحريره من ذهانه إلا بالعودة إلى الثقافة التي نشأ فيها. فالرجل الإفريقي الذي يرى أنه ضحية لساحرة في بلاده لا يمكن علاجه إلا في إطار ثقافته ومن خلال هذه السحر الذي يوجد في أصل تكوينه الاجتماعي. ولا يمكن معالجته وفقا للمنطق العقلاني الذي يرفض فكرة السحر والساحرة. وبالتالي فإن الفرد الذي نشأ في مجتمع شمولي استبدادي لا يستطيع أن يرى الجانب التحرري في الفردانية ولذا فهو يفضل التضامن الاجتماعي لمجتمعه الأصلي مهما بلغ تعنت هذا المجتمع ويفضل المساعدات التي يقدمها له في المستوى الأخلاقي والثقافي.

ويجب علينا في هذا المستوى ألا ننسى أبدا أن الإنسان يتكون من جانبين متفاعلين هما الجانب الفطري البنائي والجانب البيئي المكتسب عبر التربية والحياة الاجتماعية. وبين هذين الجانبين يتحقق التوازن إلى درجة لا يأخذ فيها العامل الخارجي المجتمعي حضوره بوصفه حالة غزو وإكراه.

والمجتمعات البدائية التقليدية تجد نفسها اليوم محاطة بتدفق الحداثة وهيمنتها وبالتالي فإن هذه الحداثة متشبعة بالفردانية إلى حد يهدد وجود هذه المجتمعات التقليدية ويؤكد حتمية زوالها. ومع ذلك يجب أن ننظر بأهمية كبيرة إلى وضعية التضامن الاجتماعي التي توفرها المجتمعات التقليدية لأبنائها في إطار كل تحليل. ولا يجب علينا دائما أن نرى في النزعة الاجتماعية التي تؤكد الشمولية والسيطرة خطرا بالمطلق. فالعامل المهاجر الذي يعيش في عزلة في حي صناعي في لندن أو نيويورك يشعر بحنين عظيم إلى مجتمعه الأصلي الذي يشبع لديه كثيرا من الحاجات الاجتماعية التي يفتقدها في عزلته ذات الطابع الحداثي بما تنطوي عليه هذه الوضعية من عزلة وتفرد وقهر وتمييز عنصري وعرقي. ومع ذلك فإن حاله أفضل من مواطن له يعيش مطاردا من قبل ساحر القبيلة أو كاهنها. وحاله هذه أفضل بكثير من هذا الذي يتوجب عليه بحكم الشمولية المجتمعية التي يعيشها في المجتمع التقليدي أن يضحي ويموت من أجل الآلهة وأرواح الآباء والأجداد.

فالإنسان الفرد في المجتمعات الحديثة يختار بين معايير وبدائل لا حدود لها. وعلى خلاف ذلك فإن الإنسان في المجتمعات التقليدية لا يختار شيئا أبدا: فالجماعة هي التي تحدد له كل ما يسعى عليه والجماعة التي ينتمي إليها تحصي عليه كل سكناته وحركاته ورغباته. وعلى خلاف ذلك فإن الفرد الحداثي يخالف جماعته ومجتمعه الأصلي وهذا لا يمنعه في الوقت نفسه من التكيف مع مجتمعه إذ يعيش فيه بحرية ويسر وتكامل دون صعوبة أو كراه.

بؤس الفردانية وانتقاداتها:

كثيرا ما تعزى إلى الفردانية المشكلات التي تواجهها المجتمعات الحديثة مثل العزلة والوحدة والأنانية واللامبالاة. ففي المدن هناك دائما قصة الجيران الذين يعيشون سنينا طويلة لا يعرفون فيها بعضهم بعضا. وهناك آلاف القصص عن هؤلاء الذين يموتون في منازلهم منفردين لا يعرف بحالتهم أحد. وهناك عنصر اللامبالاة الاجتماعية التي تنشر في مختلف أصقاع المدينة. هذه المظاهر المحزنة تعبر اليوم عن شكل جديد من أشكال الفردانية.

فنحن نعيش اليوم في مجتمع صناعي غير إنساني. وفي هذا المجتمع الصناعي الاستهلاكي لا ينظر إلى الإنسان إلا بوصفه أداة أو موضوعا أو مستهلكا. وهذا يعني أن الفرد في هذه المجتمعات يشق طريقه في عالم مظلم. وهذا يعني من جهة أن الفرد يتحول في هذه المجتمعات إلى ضحية وإلى موضوع متشيئ بعد أن كان ذاتا أصيلة متفردة.

لقد أدى تراجع القيم الدينية وانحسار الدين إلى تراجع كثير من المعايير الأخلاقية التي كانت سائدة. وبالتالي فإن هذه المعايير الأخلاقية الضرورية للحياة الإنسانية لم تجد بديلا لها في ظل الحداثة. وهذا بدوره أدى إلى فراغ أخلاقي رهيب لا يمكن للعلم أن يسده.

ويقينا أن المخرج الذي تطرحه هذه القضية لا يكون أبدا في العودة إلى الأشكال البدائية القديمة للدين كما يرى بعض المفكرين المعاصرين. فمثل هذا الفراغ الأخلاقي يجب أن يردم بإمكانيات عقلية جديدة وعبر روح فلسفية نشطة قادرة على تمكين الإنسانية من تجاوز خوائها الروحي والإنساني. فالتعليم الفلسفي الجيد يمكّن الفرد من ممارسة خياراته بمسؤولية أخلاقية متميزة وذلك من منطلق سببية معرفية أصيلة وراسخة. ومما يؤسف له أن هذه الممارسة الفلسفية لا توجد في الأنظمة التربوية القائمة في أي مكان في هذا العالم.

إن تضخم المعلوماتية، وسهولة الاتصال، وتدفق القيم الصناعية والاتصالية، عوامل تضعنا في مواجهة فيض وزحام من الأفعال والأفكار والسلوكات والقيم التي تتطلب شرحا وتفسيرا من نوع فلسفي. ويجب علينا في نهاية الأمر أن نحترس في وضع الفردانية في قفص الاتهام لأن الفردانية مفهوم معقد ومركب وشمولي، ولذا يتوجب علينا أن نتناوله بحذر شديد وعلينا أن ندرك بأن هذا المفهوم يتضمن عناصر ايجابية ومهمة بدرجة كبيرة.

وإذا كان من الواجب تحير هذا المفهوم من أدرانه وأمراضه وعناصره السلبية مثل الأنانية والنرجسية والمنعة والحسية واللامبالاة فإنه يجب لينا أن نفصل هذه العناصر عن المكونات الأخرى لهذا المفهوم.

فالحداثة كانت طموحة إلى تحقيق السعادة الإنسانية وانطلقت في الأصل في هذا المسار. وهذه الفكرة كانت في أصل فكرة الفردانية وشكلت في الوقت ذاته منطلقا لها. ولذا فإن الفردانية فعل سار ومبهج ومع أن السعادة لم تتحقق في أي مكان في العالم بالمطلق فإن هذه السعادة تبقى ويجب أن تبقى مشروعا أساسيا لوجودنا وصيرورتنا الإنسانية.

ومهما بلغت درجة الانتقادات ودرجة الانتكاسات التي يواجهها مفهوم الفردانية فإن فكرة الفردانية فكرة إنسانية خلاقة يجب أن تحظى بالرعاية والحماية والاهتمام بوصفها اكتسابا تاريخيا بالغ الأهمية. لقد بين الأدب العالمي في كثير من فصوله التراجيدية أن حضارات إنسانية قد أخفقت مرارا وأن نظريات كبرى قد سقطت ( النازية، الستالينية، الفاشية ) فقط لأنها قيمها كانت تتعارض مع قيم الفردانية. إن مشروع الفردانية مشروع لم يكتمل بعد وهو في حالة من التطور الدائم الذي يبشر بتجليات إنسانية جديدة بالغة الطموح.

فالفردانية تمثل أهم انتصارات الحداثة، ولكنها أصبحت بما آلت إليه اليوم تشكل البؤس الأول لهذه الحداثة وفي هذه النقطة تكمن أخطر إشكاليات المدنية المعاصرة. ومع أهمية ما حققته الفردانية من تطور فإن بعض الناس وبينهم كثير من المفكرين يعتقدون بأن الفردانية لم تتحقق كما يجب وان البنى الاجتماعية القائمة مازالت نهدد حرية الفرد وتنال من إمكانيات استقلاله. ومهما يكن الأمر فإن التأمل العقلاني في هذه القضية يؤدي إلى حقيقة قوامها أن الأنظمة الأخلاقية القديمة قد سقطت وسقط معها إيمان الإنسان بأن ينتمي إلى نظام كوني يتجاوزه وأن الكون يشكل نظاما جديدا يأخذ فيه الإنسان مكانه بين صفوف الملائكة.

ولكن هذه الفردية في نسق تطورها وامتدادها أخذت الإنسان إلى ذاته ودفعته إلى الانغلاق والتصلب وسجنته في شرنقة الاستقلال والحرية، حيث بدأ يعيش حالة بؤس حضارية تمثلت في هذا القلق الوجودي الذي يأخذ طابع الشمول والتفرد في حياتنا الإنسانية المعاصرة. لقد فقد الإنسان، في ظل هذه التعاسة الفردية، الإحساس بطعم الحياة ولفح نسائمها.

لقد ارتهن غياب الطابع القدسي عن حياة الناس بطغيان عقل أداتي يعصف بكل مقومات الإنسان بوصفه كيانا إنسانيا. لقد أدى هدم الأنظمة القديمة بما تنطوي عليه من طابع قدسي ومن قيم أخلاقية إلى توسع إمبراطورية العقل الأداتي. ففي الوقت الذي تغيب إمكانيات المقدس عن الحياة الاجتماعية وعندما تفقد المؤسسات الاجتماعية الطاغية الغائي للحياة الإنسانية، تتحول الحياة الاجتماعية إلى جحيم القهر وإلى مسرح المنازلات التي تأخذ فيه قيم الرفاه والنفعية مركزية الكون الإنساني. فكل شيء ينظر إليه في هذا السياق من زاوية البحث عن الرفاه وخير الفرد الشخصي.

وتحت طغيان هذا العقل الأداتي تفقد الكائنات الإنسانية جوهرها الإنساني الخلاق وتتحول إلى مجرد مادة خام وإلى أدوات توظف بصورة نفعية لتحقيق أهداف وغايات لا تتجاوز حدود الربح والآنية السوقية.

لقد حررتنا التحولات الحداثية في كثير من جوانب وجودنا وحياتنا، ولكنها مع ذلك وضعتنا في قفص القلق الوجودي الذي يتجاوز اتساعه كل حدود. فالعقل الأداتي لم يقف عند حدود هيمنته الخاصة وحدود سيطرته على معاني الوجود المادي بل استطاع بسطوته أن يمتد ليمتلك حقل وجودنا الإنساني الخاص ويحدد معالم حياتنا الخاصة. وليس من قبيل المبالغة القول في هذا السياق بأن مبدأ الربح والخسارة يسجل حضوره في عمق القرارات التي تأخذ طابعا أخلاقيا. وهذا يعني أن القيم المضيئة في حياتنا أصبحت مهددة بصورة متنامية. وهناك أمثلة لا حصر لها على وضعية البؤس الأخلاقي الذي يخيم على حياتنا ووجودنا الإنساني المعاصر. فهناك على سبيل المثال استخدام معايير النمو الاقتصادي لتبرير التوزيع غير العادل للثروة أو هذه القرارات التي تتجاهل قضايا البيئة والتلوث البيئي وهذه الإجراءات التي تغيب أهمية الأبعاد المعيارية للوجود الإنساني تقود المجتمعات الإنسانية إلى هاوية حضارية وإلى انحطاط شامل في مستويات الوجود الإنساني. ويعد منهج التخطيط الذي تعتمده السياسات الاجتماعية بناء على مبادئ الربح والخسارة دليلا على انحطاط القيم وتجاهل المعايير الحيوية للوجود الإنساني.

وتتضح أولوية العقل الأداتي في مجال التكنولوجيا التي تبحث عن حلول للمشكلات الاجتماعية على أساس المخارج التقنية والتكنولوجية. وتتجسد هذه الظاهرة في عالم السياسة والطب والتقنيات الطبية حيث يشار إلى ما تنطوي عليه التكنولوجيا الطبية من تجاهل للجوانب الإنسانية عند المرضى والمعالجين. وتمتد أثار هذه التقنيات لتشمل حتى الممرضات ملائكة الرحمة اللواتي يتحولن مع الزمن إلى امتداد آلي للتقنيات الطبية التي بدأت تزحف مختلف جوانب العمل الإنساني. لقد بدأت الممرضات تفقد هذه المشاعر النبيلة ذات الطابع الإنساني في ميادين العمل تحت تأثير الماكينات التي تفتقد إلى معاني الرحمة الإنسانية.

ومن جهة أخرى فإن هيمنة التكنولوجيا لا تقف عند حدود معينة حيث بدأت تمتد لتشمل مختلف جوانب حياتنا الاجتماعية لتؤدي وبصورة مستمرة إلى فقدان النبض الإنساني والمشاعر الإنسانية النبيلة للحياة الاجتماعية. وبعبارة أخرى إلى تبديد هذا الغنى الأخلاقي الذي غالبا ما كان يفيض في دائرة الحياة الاجتماعية.

وهذا التصور حول الجفاف الأخلاقي والإنساني في الحياة الاجتماعية ليس جديدا في عالم الفكر، حيث سبق لماركس تحديدا أن تنبأ بأن التطور الرأسمالي سيؤدي بالنتيجة إلى فوضى وإلى تفكك القيم الأخلاقية المتماسكة وإلى اهتزاز عميق في بنية كل التكوينات المتماسكة والثابتة. وفي هذا السياق يؤكد حنا أرنيدت على أهمية النظم المتماسكة والثابتة في حياتنا. لأن الثبات والديمومة التي تتميز بها الأشياء المحيطة في حياتنا توفر لنا إمكانيات التكامل والتوازن في حياتنا الاجتماعية. وبالتالي فإن اهتزاز هذا التماسك وزعزعة هذه القيم الثابتة يهدد استمرارية الوجود الإنساني ويدفعه إلى مجاهل البؤس والشقاء.

وهنا يجري الحديث وبصورة مستمرة عن حتمية انتصار العقل الأداتي بصورة مستمرة تحت تأثير قوى اجتماعية غير محددة. إذ يمكن لمدير ما أو لزعيم سياسي أن يتبنى استراتيجية ما تساعد على زيادة الأرباح مع أنه يعتقد بأن هذه الاستراتيجية مدمرة للحياة الاجتماعية. ويمكن لزعيم آخر أن يتخذ، رغما عنه، قرارات غير إنسانية وشاذة تحت هذا العنوان لقيم الربح والخسارة.

فهناك قوى اجتماعية غير منظورة في ممارسة التأثير الآني تتمثل في المؤسسات الاجتماعية الكبرى مثل الدولة والاقتصاد والسوق. ويبدو أن الإنسان يقف عاجزا أمام حتمية الحلول والتوجهات التي تفرضها هذه المؤسسات التي تمارس أدوارا تبدو أحيانا غير عقلانية أو غير موضوعية. ومع ذلك كله فإن الخيار الإنساني يبقى قائما وهامش الحرية يكون أحيانا كافيا لممارسة الفعل الإنساني بأبعاده الأخلاقية.

فالعقل الأداتي يسجل حضوره القاهر بقوة المؤسسات الكبرى وهذه المؤسسات تكره الأفراد على مجاراة العقل الأداتي الذي يقوم على مبدأ النفعية وقيم الربح والخسارة. ومن أجل توضيح هذه الفكرة يشار إلى التحدي الكبير الذي يفرضه علينا تدمير طبقة الأوزون. فالمؤسسات الصناعية مثلا تمضي قدما في تدمير طبقة الأوزون دون أن تعير طبقة الأوزون أي اهتمام وذلك مع تنامي حجم الخطر الذي يمثله تدمير هذه الطبقة على وجود الإنسانية برمتها.

فالمجتمعات التي تقوم على توجيه العقل الأداتي تواجه خطرا كبيرا. فالعقل الأداتي يؤدي إلى تدمير الحريات والقيم والمعاني الإنسانية بما تشتمل عليه من مشاعر وأحاسيس وعواطف. فتصميم المدن الحديثة على سبيل المثال يفرض على الناس استخدام السيارات الخاصة وذلك عندما يتجه التخطيط إلى تجاهل وسائل النقل العامة وتشكيل المنازل والحدائق ومداخل الأحياء.

فالحرية تعاني من منشار العقل الأداتي الذي يقلم أظافر الحريات العامة والفردية في مختلف الفصول والمواسم. ففي مجتمع يتكون من أفراد تنامت فيه فرديتهم إلى حد العزلة تتضاءل الرغبة عند هؤلاء الأفراد في المشاركة السياسية فالناس يرغبون في ملازمة منازلهم لإرضاء طموحاتهم الخاصة. وهذا ما يجعل الدولة كما يرى أليكس توكفيل Alexis Tocqueville تتفانى في تلبية هذه الاحتياجات الخاصة وإرضاء الطموحات الفردية لأفراد المجتمع بما يجعلها أكثر قدرة على الانفراد بالقرار السياسية والممارسات السياسية من كل نوع.

فانصراف الأفراد إلى حياتهم الخاصة والاستغراق في هذا الجانب يؤدي إلى نمو شكل جديد من أشكال التسلط والطغيان الحداثي المعاصر. وهو تسلط ناعم كما يطلق عليه توكفيل لأنه يختلف عن التسلط التقليدي الذي يقوم على أساس الرعب والإرهاب. فالاستبداد الناعم شكل من الطغيان الذي تحافظ فيه الحكومات على الشكل الديمقراطي أو ما يسمى باللعبة الديمقراطية التي تتمثل في الترشيح والانتخاب والبرلمانية. ولكن هذه اللعبة الديمقراطية تتم في الجوهر تحت مبدأ القوة والحماية. والأفراد في هذه اللعبة يفقدون القدرة على المشاركة الحرة واتخاذ القرار. كما يفقدون القدرة على المراقبة والمشاركة.

والحل الذي يقدمه توكفيل يكون في درجة المشاركة السياسية للأفراد. إذ يتوجب على الأفراد في هذا المجال الخروق من شرنقة العزلة والانصراف إلى الشأن الخاص إلى المشاركة السياسية في مختلف الأحزاب والتجمعات والفعاليات والممارسات، كي لا تبقى السلطة في دائرة مؤسسات بيروقراطية تمارس القرار السياسي بمفردها. وهذا يعني إن تنامي الحياة الفردية بصورة مستمرة قد يؤدي إلى نمو طغيان جديد هو طغيان الدولة البيروقراطية بوصفها قوة مدمرة للأفراد والمظاهر الديمقراطية في المجتمع.

في المجتمع الذي تطغى فيه الدولة، سيجد الفرد نفسه في وضعية اغترابية جديدة، وفي قلب ما يسمى بالطغيان السياسي الجديد، وهو طغيان يستمد نسغ وجوده من تنامي النزعة الفردية إلى حد اللامبالاة السياسية. فالأفراد يمكنهم اليوم وفي مواجهة هذا الطغيان تأكيد نوع من الثقافة السياسية التي تؤكد أهمية المشاركة الحقيقية في الفعل السياسي، لكي لا يتعرض جوهر المواطن بوصفه إنسانا للتهديد والخطر. فبؤس الحداثة يتمثل في ثلاثة مستويات: في أمراض الفردانية، وانتكاسات العقلانية، وغياب المعايير الأخلاقية للمجتمعات الإنسانية كنتاج للعاملين السابقين. وهذه المستويات الأساسية لبؤس الحداثة تقود إلى ضياع الحرية وإلى غرق الإنسان في مستنقع الاغتراب والقهر.

* جامعة الكويت – كلية التربية

................................................

مراجع المقالة :

 Alain.B.L. Gerard , Le cadre d'une nouvelle Ethique : Ethique et modernité ,ERES, Paris , 1998.

 Alain Laurent , Histoire de l’individualisme , Que sais-je ,No 2712, P.U.F., Paris , 1993

 Charles Taylor , Le Malaise de la modernite , Humanite Les Edition de CERF , Paris , 1999, P.10.

 Emile Durkheim , De la division du travail social , 110 Ed., P.U.F, Paris ,1986.

 Emile Durkheim , Les formes élémentaires de la vie religieuse. P.U.F., Paris , 1990.

 Luis Dollot , Culture individuelle et culture de Mass , Que sais-je. No 1552, P.U.F., Paris. 1990.

 إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار معد، دمشق، 1990.

 حقي إسماعيل بربوتي، فلسفة الليبرالية والاشتراكية في حقوق الإنسان، الوحدة، ضمن المجلس القومي للثقافة العربية: حقوق الإنسان في الوطن العربي، العددان 63-64،ديسمبر/يناير1990،صص(51-62).

نزار الحديثي، في مناقشة لورقة سعدون حمادي: الوحدة الثقافية والتعليم ملاحظات أولية في مركز دراسات الوحدة العربية، دور التعليم فى الوحدة العربية: بحوث ومناقشات وقائع القدوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1983

[i] Alain.B.L. Gerard , Le cadre d'une nouvelle Ethique : Ethique et modernité ,ERES, Paris , 1998.

[ii] Charles Taylor, Les Malaises de la modernité , C.E.R.F., Paris , 1999, P.15.

[iii] Alain Laurent , Histoire de l’individualisme , Que sais-je ,No 2712, P.U.F., Paris , 1993, P.3.

[iv] نزار الحديثي، في مناقشة لورقة سعدون حمادي: الوحدة الثقافية والتعليم ملاحظات أولية في مركز دراسات الوحدة العربية، دور التعليم فى الوحدة العربية: بحوث ومناقشات وقائع القدوة التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3،1983، ص 36.

 Charles Taylor , Le Malaise de la modernite , Humanite Les Edition de CERF , Paris , 1999, P.10. [v]

[vi] Emile Durkheim , De la division du travail social , 110Ed., P.U.F, Paris ,1986.

[vii] Emile Durkheim , Les formes élémentaires de la vie religieuse , 2O Ed. P.U.F., Paris , 1990.

[viii] Alain Laurent , Histoire de l’individualisme , Que sais-je ,No 2712, P.U.F., Paris , 1993

[ix] Luis Dollot , Culture individuelle et culture de Mass , Que sais-je. No 1552, P.U.F., Paris. 1990.

[x]حقي إسماعيل بربوتي، فلسفة الليبرالية والاشتراكية في حقوق الإنسان، الوحدة، ضمن المجلس القومي للثقافة العربية: حقوق الإنسان في الوطن العربي، العددان 63-64،ديسمبر/يناير1990،صص(51-62)،ص52.

[xi]حقي إسماعيل بربوتي، فلسفة الليبرالية والاشتراكية المرجع السابق، ص52.

[xii]حقي إسماعيل بربوتي: فلسفة الليبرالية والاشتراكية في حقوق الإنسان، المرجع السابق،ص52.

[xiii] - إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار معد، دمشق، 1990.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/آذار/2012 - 21/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م