العصا الحلزونية... ذكريات العنف المدرسي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: قبل أيام جمعني حديث مع مدير مدرسة ابتدائية أثلج صدري حقا، إذ لازلت حتى اللحظة مرعوبا من عصا المعلم، مع أنني جاوزتُ الخمسين عاما، فقد أُثخِنَتْ ذاكرتي بمشاهد لا تُنسى من العنف المدرسي، حيث العصا الحلزونية التي كان يحملها معاون مدرستي بجسده الضخم وشكله المخيف دائما، لم أره لا أنا ولا الطلاب الآخرين يوما ضاحكا أو حتى مبتسما، ولم اسمع منه كلمة طيبة، فكان المعلمون الآخرون يهددون الطلاب به، وبعصاه الحلزونية المكونة من انبوب مطاطي أسود تدخل فيه (خيزرانة) من الرمان او التوت، فتصبح ثقيلة جدا، واذا هبطت على كف التلميذ الصغير او جسده، فإنه لن ينساها طالما بقي على قيد الحياة.

هذه العصا الحلزونية لا تزال تشعّ في ذاكرتي الى الآن، هي والمعاون الذي كان يحملها طيلة مدة الدوام التي تمتد من الصباح حتى بعد منتصف الظهيرة، بعضهم كان يقول إننا نحتاج هذه العصا، وأعني بهم أولياء امور الطلبة، أمر عجيب ومحيّر حقا حين تسمع من ولي أمر الطالب وهو يطلب من المعلم أن يضرب ابنه او يصفعه، بل بعضهم كان يقول للمدير او المعاون (خذ هذا ابني بين يديك، لك اللحم ولي العظم!!) بمعني إضربه ما شئت من الضرب ولكن لا تكسر عظمه!!، وغالبا ما كان يجتمع مثل هؤلاء الآباء مع معاونين يشبهون حامل العصا الحلزونية.

لكي أدعم كلامي هذا بأمثلة، ذات صباح دخلتُ الصف وكنت في الخامس الابتدائي، عمري 11 سنة، كان الفصل شتاءً قارسا بل زمهريرا، كنت متأخرا لدقائق فقط والاسباب خارج ارادتي، فالطريق الى المدرسة بعيد، والباص الحكومي تأخر، فاضطررت الى السير على اقدامي الى المدرسة بل هرولت ودخلتها لاهثا متعبا، فواجهني المعاون صاحب العصا الحلزونية وضربني على ظهري بعصاه ضربة كأنها لسعة أفعى بقيت تستعر في جسدي ساعات، ثم دخلت الصف فوجدت معلم مادة الانكليزي المتجهم الوجه بانتظاري، كان قد طلب منا أن نتقن الحروف الانكليزية قراءة وكتابة، وقد فعلت ذلك فعلا، قرأتها وكتبتها عدة مرات في البيت، ونتيجة للسير الطويل الى المدرسة والعصا الحلزونية التي ارتسمت على ظهري، نسيت بعض الحروف حين طلب مني معلم الانكليزي كتابتها، لم استطع تذكر بعض الحروف، وكان المعلم يعاقب بضربة واحدة عن كل حرف، أتذكر أنني نسيت كتابة ثلاثة حروف، هذا يعني أنني أستحق ثلاث ضربات بعصا معلم الانكليزي الذي كان قاسيا ايضا، كان معي ستة طلاب صغار لم يتمكنوا من كتابة ولفظ بعض الحروف، بدأ المعلم بمعاقبة التلميذ الاول وكان تسلسلي السادس، كان المعلم يحمل عصا أقل في رعبها من العصا الحلزونية ولكنها طويلة وثقيلة ايضا على الكفوف الصغيرة التي كانت ترتجف وتحمرّ من شدة البرد والخوف، بدأ المعلم بضرب التلميذ الاول وكان يستحق ضربتين لأنه نسي كتابة حرفين، رفع المعلم يده عاليا وهبط بالعصا بقوة وسرعة خاطفة على كف التلميذ، صرخ عاليا وتلوى ورجا المعلم أن يكتفي بضربة واحدة، لكن المعلم لم يستجب، ويبدو أنه لا يزال في قمة نشاطه، وهكذا ضربه الضربة الثانية، وبدأ بالطالب الثاني بأربع ضربات، ثم الطالب الثالث بضربتين، ثم الرابع بضربة واحدة، ثم وصل الى الطالب ذي التسلسل الخامس وأنا بعده، وحين بدأ المعلم بضرب الطالب الخامس بعصاه كنت قد عزمت على الفرار من الصف، وخرجت هاربا الى ساحة المدرسة، وأنا لا أزال أعاني من سعير ضربة العصا الحلزونية على ظهري، كانت أبواب المدرسة مغلقة، وحينها قررت عبور السياج الى خارج المدرسة، كان المعاون ذي العصا الحلزونية يتقدم نحوي غاضبا ملوّحا بعصاه بعد أن وصله خبر فراري من الصف، أما السياج فقد بدا لي عاليا، وانا طفل نحيف قصير القامة، وحين رأيت المعاون وعصاه تلتمع في يده، شعرت برعب كارثي وفزع لم اشعر بمثله سابقا، فأطلقت العنان الى أقدامي نحو السياج، وبقدرة قادر تجاوزته الى الخارج بخفة رياضي رشيق وقوي. أخذت أركض وأركض نحو البيت وحين وصلته، لم تسألني امي عن سبب عودتي، نمت من التعب والخوف، وحين جاء أبي بعد الظهيرة، لاحظ علامات خوف تتلبسني، فأخبرته بكل شيء، ولم يقف معي، كان يرى أن المعلم محقا دائما بغض النظر عن الاسباب، لكنه هدّأني وقلل من مخاوفي، وأعادني في اليوم التالي الى مدرستي. ومنذ ذلك اليوم والعصا الحلزونية لم تفارق ذاكرتي، ولا جسد المعاون الضخم، ولا وجه معلم الانكليزي المتجهم، إعتدتُ العنف مجبرا، تعلمت على الخوف والقسوة، لأنه لا سبيل لمواصلة الدراسة إلا في أجواء العنف المدرسي.

الآن أعود الى حديثي مع مدير المدرسة الذي أثلج صدري، فقد بيّن لي بثقة وصدق، أن العنف مع الطلاب لم يعد مثلما كان، وأن هذه الظاهرة لا تزال موجودة فعلا، لكنها - حسب قول المدير- في طريقها الى الزوال، مع أنني أسمع وأرى الكثير عن هذه الظاهرة، لذا أقول لا للعنف المدرسي، لأنه لم يعد يليق بالعصر وسماته، ولا يليق بالتربية الصحيحة، ولنتذكر جميعا، طلابٌ واولياء أمور وكادر تدريس، وجهات رسمية، أن المعلم كاد أن يكون رسولا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 11/آذار/2012 - 17/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م