أزمة المدرسة وتناقضاتها: ديكتاتورية الدبلومات

ا.د.علي أسعد وطفة

ما الذي ننتظره من المدرسة؟ سؤال متمرد صعب يرتدي حلة معقدة، إنه من نمط هذه الأسئلة التي تقفز فوق حدود الملاحظات الموضوعية التائهة في غمر الأرقام وفيض البيانات. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أن نعلن بأنه لا يوجد هناك إجماع حول أهداف المدرسة وغاياتها ووظيفتها. فهناك تنوع كبير في اتجاهات الرأي العام حول المسألة المدرسية حيث تنظر كل فئة اجتماعية إلى المدرسة من خلال تصوراتها الخاصة. فهناك الطلاب والمعلمون والآباء والإداريون وكل منهم يتخذ موقفا من وظيفة المدرسة ودورها في الحياة وفقا لمصالحه وتطلعاته وطموحاته.

وتتغاير هذه التصورات أيضا مع دورة الزمن حيث تتغير المصالح والآراء والتصورات فيما يتعلق بالموقف من الغايات التربوية للمدرسة. ورغم هذا التنوع في الرؤى والتصورات يمكن القول بأن الجميع يتفق على فكرة واحدة وهي أن المدرسة رمز للمستقبل وأنها حلقة وصل بين الحاضر والمستقبل. وعلى أساس هذا التصور فإن نظرة الأفراد إلى المدرسة تنسجم إلى حدّ كبير مع رؤيتهم لمستقبل المجتمع.

وفي هذا السياق يجري الحديث عن المدرسة التي تقوم باصطفاء النخب وإعداد الأجيال للمستقبل، ويقال بأن المدرسة تشكل منطلق عملية تنموية واقتصادية في المجتمع، وعلى هذا الأساس ينتطر منها أن تعبّد سبل المستقبل أمام الأطفال والناشئة. ومن الملاحظ في هذا الخصوص أن الدراسات لم تتناول هذه المسألة التي تتعلق بما ينتظره الناس من المدرسة وما يتوقعونه منها. ومن أجل البحث في مضامين هذه المسألة يمكن أن نعتمد على الملاحظات اليومية وبمكن تتبع حركة الواقع الاجتماعي لاستكشاف حقيقة التطلعات والتوقعات المنتظرة والمرغوبة من المدرسة.

فالطلاب يمتلكون تصورات متناقضة عما ينتظرونه من المدرسة، وهم بالتالي يستوحون تصوراتهم هذه من خلال الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه. فالطلاب غالبا ما يهاجمون المجتمع الاستهلاكي الذي يسحق مقومات وجودهم ويوجهون مزيدا من النقد إلى الطابع البيروقراطي والإعلامي الذي يحيط بهم. فالمجتمع يأخذ برأيهم صورة نظام تحكمه فئات اجتماعية مسيطرة تعمل بصورة مستمرة للمحافظة على وجودها وامتيازاتها بأي ثمن. وهذه الرؤية للمجتمع المعاصر تشكل مصدرا لتنوع الأحكام والآراء التي تتصل بالمدرسة. وعلى هذا الأساس ينظر الشباب إلى المدرسة كأداة قوية من أجل ضمان سيطرة الفئات المهيمنة على مقدرات المجتمع. وينبني على ذلك أن قبول النظام المدرسي يعني بصورة أو أخرى قبول الرهان الاجتماعي للتعليم والاستفادة منه في معركة الحياة الاجتماعية.

وعلى خلاف ذلك ينظر الآباء إلى المدرسة بوصفها السبيل الذي يضمن لأبنائهم مكانا أفضل في دائرة الحياة الاجتماعية في المستقبل، ومن هذا المنطلق يحرصون على إستمرار أطفالهم في الرهان المدرسي لفترات زمنية أطول قدر الإمكان وذلك لأنهم يعتقدون بأن أطفالهم سيحصدون في النهاية فوائد كبيرة من الاستمرار في عملية التمدرس على فترات طويلة. ومن جهة ثانية يرى الآباء في المدرسة رمزا لمجتمع هرمي مقسم إلى طبقات اجتماعية ولذلك فإن كثيرا من الشباب يرفضون الانضمام إلى هذا النظام ويرفضونه.

تناقضات التنوع الاجتماعي

ينطوي المجتمع على تنوع كبير في وجهات النظر حول المدرسة والمجتع والمستقبل وعلاقة التربية بالمجتمع، وينبع هذا التنوع من تعدد الفئات والجماعات في المجتمع. ويعبر هذا التنوع عن خصائص التغير المتسارع في الحياة الاجتماعية. ويمكن في هذا السياق القول بأن كلما كان التغير الاجتماعي سريعا كلما كانت وجهات النظر متباينة ومختلفة. وتأسيسا على ذلك فإن المجتمعات الصناعية تكون في غاية التنوع الاجتماعي والثقافي، وذلك لأن المجتمع الصناعي غالبا ما يشهد تغيرات سريعة ومتواترة.

وغني عن البيان أن هذا التنافر في المواقف والاتجاهات حول المدرسة والمجتمع والمستقبل يقوم على نسق من الاختلافات والتناقضات الحيوية في أنساق القيم السائدة في المجتمع. وتحت تأثير هذا التنوع في القيم تتواجه الجماعات وتدخل في صراعات ذات طابع قيمي، حيث تعمل كل جماعة على فرض نظامها القيمي. وفي نسق هذا الصراع والتناقض تظهر قيم جديدة كي تأخذ مكان القديمة، فتظهر أنساق جديدة من القيم الاجتماعية على حساب الأنظمة القديمة. وذلك لأن الأنظمة القيمية التقليدية القديمة تعاني من تناقضات داخلية حادة لم يسبق لها أن ظهرت في المراحل السابقة، وتأخذ هذه التناقضات الداخلية طابعا داخليا كمونيا خفيا لا يظهر للعين ولكنه يفعل فعله في قلب المنظومة القيمية فيغيرها وينال من قدرتها على الحضور والاستمرار في عالم متغير.

وفي قلب هذه التناقضات والتغيرات الحادثة في عمق المجتمعات المعاصرة تتحول وظيفة المربي إلى مهنة صعبة وشاقة لا بل خطرة وذلك لأن المعلم وبحكم مهنته التربوية والمدرسية يوجد في معترك الصراع القيمي الذي يتجلى في أكثر صوره ضراوة في المؤسسات المدرسية والتربوية. فالمعلمون يواجهون مختلف التيارات ويوجدون في قلب الصراعات حيث هم مطالبون بالتجاوب مع هذه التيارات والتناقضات القيمية. ويترتب على المعلمين خلال أدائهم التربوي مواجهة ردود الأفعال والتوقعات المختلفة لمختلف التيارات الفكرية والثقافية في المجتمع. وفي زخم هذه التناقضات يتوجب على المربي أن يواجه مأزق الانشطار والتمزق بين المتطلبات والتوقعات المتناقضة المتعارضة، بين عدد من التيارات التي تطالب المدرسة بالتجاوب مع رغباتها وتطلعاتها الثقافية القيمية.

التوقعات المتناقضة:

يمكن الإشارة إلى عدد من التوقعات المتناقضة التي تواجه المعلمين في مدارسهم. فالمعلمون مطالبون بترسيخ التجانس الضروري بين الطلاب، وهذا التجانس يشكل مطلبا حيويا في المجتمع، ولكنهم في الوقت نفسه مطالبون بتنمية الطاقة الابداعية والمبادرة وروح الإبداع والتجديد لدى طلابهم. وعندما يقوم المعلمون بتنمية الروح النقدية لطلابهم وحرية التفكير فإنهم سرعان ما يتهمون بأنهم يزرعون الفوضى ويقوضون النظام ويشيعون روح التمرد في صفوف الطلاب ويجعلون منهم طليعة من الثوريين. فالإدارة المدرسية تطالب المعلمين ببث روح المواطنة بين الطلبة لجعلهم أقدر على حمل رسالة أسلافهم ويتابعون خطاهم ويسيرون على دروب إنجازاتهم العظيمة، وبالمقابل عندما يبدي الطلاب اهتماما قليلا بالشأن العام، عندما يظهرون طيفا من اللامبالاة، أو عندما لا يعيرون البحث العلمي والفن والعلوم ما تتطلبه من اهتمام، فإن المعلمين يتهمون بأنهم خطفوا عقول التلاميذ وأطفأوا ومض خيالهم وخنقوا مشاعرهم وأحاسيهسم، وأنهم يكثفون منهج التلقين والترديد دون أم ينيروا دروب الفهم والتعقل أو أن يوقدوا شعلة الذكاء لدى طلابهم.

وهذه التناقضات تصب في سياق تناقضات أخرى أبرزها التعارض الكبير بين مطالب النظام ومتطلبات الحرية. فالمدارس التي تنهج نهجا حرا، وتتبنى المناهج التربوية الحديثة، كالمدارس الفعالة التي تركز على التلميذ بوصفه مركز العملية التربوية وعلى حاجات الطلاب وتستجيب لاهتماماتهم، تتعرض للهجوم والنقد من قبل فريق من الآباء والإداريين والمعلمين أنفسهم غالبا ما يتهمون هذا النوع من المدارس بأنها تقوض النظام وتزرع الفوضى في الحياة المدرسية للطلاب، ويعلنون أن المعلمين في هذه المدارس يستبدلون الدراسة باللعب والنظام بالفوضى، ويبدؤون بالترحم أيام زمان حيث كانت المدرسة تعلم الطلاب احترام النظام والخضوع لمتطلباته.

ويقابل هذا الاتجاه فريق من الآباء والمعلمين الذين يقولون بأن المدرسة لا تشجع على تحقيق النظام الذاتي ولا تشجع على تشكيل الضمير الأخلاقي ولا تنمي الروح النقدية ولا ترسخ الحرية ولا تمكن التلميذ من ضبط سلوكه والسيطرة على ذاته أو بناء قيمه الذاتية ومعاييره الخاصة في الحياة والوجود.

وفي مسار آخر يشكل التعارض بين التعليم العام والتعليم المتخصص نوعا آخر من التناقضات التي لا تخفى على أحد في النظام المدرسي. فأحيانا يوجه النقد إلى المدرسة بوصفها تبث تعليما شديد العمومية أو تعليما شديد التخصص، وأحيانا يقال بأن المدرسة لا ترسخ المبادئ الأساسية للعلوم، وفي الوقت نفسه تلام لأنها لا تعدّ التلاميذ إعدادا مهنيا مناسبا للحياة العملية. وهذه التناقضات الأخيرة تشكل في حقيقة الأمر أعمق صورة للتناقض الذي تواجهه المدرسة المعاصرة، ويمكن تلخيصها على الصورة التالية: هل تكمن وظيفة المدرسة في الإعداد العام للتلميذ، أي في تكوين شخصية الطالب على نحو كلي، أم أنها معنية بتحضير التلاميذ للحياة المهنية، وتمكينهم من الحصول على عمل أو وظيفة مناسبة في سوق العمل؟

ومن الطبيعي أن يقال بأنه يجب على المدرسة أن تحقق التكامل بين المهمتين والتصالح بين الوظيفتين. وهذا الأمر صحيح ودقيق في المستوى النظري المجرد. ولكن الأمر يختلف في ميدان الممارسة والتطبيق، وذلك لأن المدرسة تتأرجح بين هاتين المهمتين اللتين يصعب واقعيا الجمع بينهما على نحو عملي، فبينما يؤكد بعض المعلمين على الجانب التربوي يؤكد بعضهم الآخر على أهمية الجانب المهني. وهنا نقع على فلسفتين تربويتين مختلفتين، فهناك الفلسفة التربوية الإنسانية وهناك الفلسفة التربوية الوظيفية، فالأولى تؤكد على الجانب الإنساني في الشخصية في الوقت الذي تركز فيه الثانية على الجانب المهني واللقاء بين الفكرتين صعب جدا في دائرة الواقع التربوي.

فالتناقض بين الإعداد الإنساني العام وبين الإعداد المهني العملي الخاص يتجلى في كثير من أوجه النشاط المدرسي ويجد صداه في سلوك المعلمين أنفسهم، وفي عمق هذا التناقض يجد المعلم نفسه في مواجهة خيارين لا ثالث لهما فإما أن يكون مربيا أو أن يكون معلما متخصصا. وهنا أيضا نجد من يرفض هذا التقسيم والتمييز بين الأمرين ويعتقد بألا تناقض بين الأمرين في واجب المعلم حيث يمكنه أن يكون مربيا ومعلما في الآن الواحد. ولكن لغة الواقع تختلف جوهريا حيث لا يمكن الجمع بين المهمتين في حقيقة الأمر لأنهما متناقضتين جوهريا.

فالمدرسة غالبا ما تكون ضحية الصراع ما بين الصورة الشكلية وما بين الصورة الجوهرية لفعاليتها التربوية والتعليمية. وهنا أيضا نجد من يوجه اللوم إلى المدرسة بالقول إنها لا تقف عن الجوهر بل تتمركز في وسط المظاهر التربوية الخادعة. ومع ذلك توجد رغبة حقيقة ربما في أن تقف وظيفة المدرسة عند حدود الشكليات وألا تتجاوز هذه الحدود أو تتخطاها إلى ما هو أبعد.

ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى تناقضات سلوكية أخرى، تتمثل في الفصل بين دوري المدرسة والعائلة في التربية، فالآباء الذين لا يستطيعون إقناع أبنائهم بقص شعورهم وحلق لحاهم، أو هؤلاء الذين لا يستطيعون منع بناتهم من ارتداء الملابس الغريبة، يرون بأنه يجب على المدرسة أن تقوم فعليا بهذا الدور وتلك الوظيفة. ولكن هؤلاء الآباء أنفسهم يهاجمون المدرسة في الحالة التي يتعرض فيها أبناؤهم للعقاب المدرسي، ويصفون هذا الأمر بأنه استغراق في التفاصيل المملة وغير الجوهرية ويطالبون المعلمين الاهتمام بما هو جوهري وأساسي.

ويمكن إضافة تناقضات أخرى تبرز في وضعية الأزمات السياسية، وتتمثل هذه التناقضات في مطالبة المعلمين بالتربية على المواطنة وترسيخ التربية المدنية لدى الناشئة، ولكن أصحاب الأمر يستنكرون في الوقت نفسه على المعلمين مناقشة القضايا السياسية والشأن العام، ويمنعونهم من تداول هذه القضايا مع تلامذتهم بصورة نهائية. ومن المؤكد أن أكثرية كبيرة من الناس يعارضون الوظيفة الأيديولوجية والسياسية للمدرسة، ولكنهم ينسون بأن المدرسة في أي شكل تجلت ما هي إلا تعبير سياسي ولا يمكنها أن تكون أقل من مؤسسة سياسية بامتياز، تقوم بوظيفة التطبيع السياسي كوظيفة أساسية ومركزية، ولا يقع في خلدهم بأن المدرسة تؤدي وظائف أيديولوجية بالغة الأهمية في الحياة السياسية في المجتمع. ويجري الاعتقاد بأنه ومن أجل تجاوز هذه الإشكالية يجب على المعلمين القيام بوظيفة التربية المدنية في حدود ما ترسمه الأيديولوجيا السياسية للنظام السياسي القائم نفسه.

المدرسة رمز حضارة رأسمالية تخضع نفسها للتساؤل:

 يتضح من خلال العرض الذي قدمناه أن المعلم يجد نفسه في خضمّ التناقضات الاجتماعية والفكرية القائمة في المجتمع. والمعلم يتوجب عليه أن يجد الحلول المناسبة لهذه التناقضات التي تواجهه يوميا في غرفة الصف، وعليه في سياق ذلك أن يواجه يوميا مشكلات الحضارة وتحدياتها، وهو في دائرة هذه المواجهة الحضارية لا يمتلك الخبرة الكافية كما أنه لم يُعدّ عمليا ومهنيا لمثل هذه التحديات والمواجهات. فالمعلمون لم يعدوّا إلا لتحمل مسؤولياتهم أمام الأطفال في قاعة الصف فحسب، ولم يؤهلوا أبدا لمواجهة التحديات التي يطرحها المجتمع أو لأداء مهماتهم التربوية بطريقة يتجاوبون فيها مع الفلسفات التربوية والتطورات التاريخية للمجتمع الذي يعيشون فيه. وهنا يكمن المصدر الأساسي للمعضلة التي تفرض نفسها على المعلمين ولاسيما في المستويات التعليمية الأساسية (المرحلة الابتدائية والثانوية)، وهذا الأمر ينسحب على أساتذة الجامعات والمعاهد العليا. وإزاء هذه المعضلة يشعر المعلمون بالقلق والتوتر إزاء التطور المستقبلي لمهنتهم التربوية وإزاء العلاقات التي تربطهم بالحياة والمجتمع.

ويمكن الملاحظة في هذا السياق أن المعلم أصبح أكثر حساسية للنقد الموجه إلى المدرسة عما ذي قبل، ولاسيما إزاء النقد الذي يريد إضعاف الثقة بالمدرسة والقائمين على التعليم فيها، والتشكيك بالعلاقات التربوية التي تربط بين المدرسين والمجتمع.

في الماضي كان المعلم يحظى بمكانة هامة في الحياة الاجتماعية وكان يعيش في مستوى حياة معيشية جيدة إذ يتقاضى راتبا يكفيه ويفيض عنه أحيانا. ولكنه اليوم يجد نفسه في موقع التهجم والنقد والقدح والذم حيث يترتب عليه أن يعاني من تحديات مهنية لم تكن معهودة في المرحلة الماضية.

ونسمع اليوم من يقول بأن الناس ينفقون كثيرا من أجل التعليم في المدرسة، وإنه بناء على ذلك يجب رفع مستوى التعليم، وتقليص عدد المعلمين، واستبدال بعضهم بالإمكانيات التكنولوجية المتاحة أي عبر التعليم الإليكتروني. وهذه الانتقادات تولد نمطا جديدا من القلق لدى المعلمين وهو قلق يتعلق هذه المرة بالأوضاع الاقتصادية لوجودهم.

 ومع ذلك فالمدرسة مطالبة اليوم بأن تقوم بكل شيء لا تستطيعه الأسرة، فهي مطالبة بإعداد الإنسان الكامل، وان تكون مسؤولة عن التربية الأخلاقية والعقلية والبدنية، ومن جهة أخرى يراد لها أن تكون البوابة الأساسية للدخول في سوق العمل والحراك الاجتماعي، ومن أجل ذلك يمكن أي من أجل الوصول إلى سوق العمل والحصول على ترقية وظيفية يمكن التضحية بكل شيء بالتربية الأخلاقية والتربية الجمالية والفضول الذهني أو التربية العقلية.

وهنا فإن المعلمين يجدون أنفسهم في موقف متوتر ومتردد ومؤلم في الوقت نفسه، والأسوأ من ذلك أنهم مهما فعلوا فإنهم لن يبتعدوا كثيرا عن سهام النقد والتجريح، وسيكونون دائما ككبش الفداء يٌضحى بهم على مذابح النقد خلال الأزمات والاختناقات الاجتماعية المتواترة.

فالمدرسة متخمة بالتنوع في الاتجاهات والتباين في الرؤى والتصورات. ويمكن تفسير هذا التباين الكبير بمقارنة المدرسة اليوم معها في الماضي، ففي المرحلة الماضية كان التعليم حكرا على فئة اجتماعية محظوظة وميسورة، أما اليوم فإن جميع الأطفال تقريبا يدخلون إلى المدرسة، ويتابعون تحصيلهم فيها حتى المرحلة الثانوية. ومن الطبيعي جدا أن تمتلك الطبقة العليا في المجتمع صورة متجانسة وموقف أكثر توافقا حول دور المدرسة ووظيفتها، لأن المدرسة قد وجدت من أجل خدمة مصالحها الطبقية ولأن المدرسة لا تعدو أن تكون تصميما يناسب تطلعاتها وطموحاتها ومصالحها.

ويمكن القول في هذا السياق: إن ديمقراطية التعليم تفسر لنا جانبا كبيرا من التناقضات في المواقف والاتجاهات نحو المدرسة، ففي المرحلة السابقة على التعليم الديمقراطي كانت المدرسة امتيازا طبقيا برجوازيا، ولذا لم يكن هناك اختلاف كبير بين مرتاديها حول وظيفتها ودورها. وكان المعلم يحظى باحترام وتقدير لأنه كان يقوم بدور تربوي يصب في مصالح المتميزين من أبناء الطبقات الاجتماعية.

ولذلك فإن ديمقراطية التعليم قد جلبت معها تصورات جديدة متنافرة ومتناقضة حول غائية المدرسة وأهدافها ووظيفتها. لقد أدخلت ديمقراطية التعليم نسقا من التغيرات في الذهنيات والعقليات والمواقف التي تتعلق بالمدرسة والحياة التربوية بصورة جوهرية وصميمية، ودفعت المجتمع إلى الدخول في مرحلة تاريخية جديدة.

وفي عمق هذه التحولات، وجد المعلم نفسه في اختبار جديد، يتعلق بنسق تربوي جديد، ومدرسة جديدة مختلفة تماما عما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد. فالمدرسة مدرسة اليوم تعبر عن حضارة جديدة لم تتضح معالمها بعد، وفي عمق هذه الحضارة الجديدة لا يمتلك المعلم وصفة تساعده على استكشاف عناصر المواجهة الحضارية الجديدة المتجددة. فالمشكلات المعاصرة للمدرسة تصدر عن تركيبة شمولية للحضارة الجديدة، وهذه المشكلات تضع المعلمين في دائرة مواجهة سوسيولوجية غامضة حيث هم مدعوون إلى تنمية نوع من القدرة على تحسس مشكلات هذه الحضارة واستكشاف معالمها الجديدة، ومن ثم العمل على توظيف هذا الاستشعار في فك الرموز الجديدة للعملية التربوية،والاستفادة منها في ممارسة مهنتهم المدرسية. وهذا يعني أنه يجب على المعلمين أن يكونوا قادرين على فهم واستيعاب صدمة التحولات الحضارية الجديدة واحتواء آثارها في العملية التربوية في داخل المدرسة وخارجها.

فطموحات الطلاب والآباء المدرسية والمهنية ليست مجرد طموحات فردية خالصة، لأن هذه الطموحات تصدر عن واقع اجتماعي أو بيئة اجتماعية معقدة، تتداخل فيها المعطيات والقرائن والدلالات. وفي دائرة هذا التنوع تأخذ التوقعات والطموحات تنوعها وفقا لتنوع الطبقات والفئات الاجتماعية في داخل المجتمع. فالطموحات تتغاير بتغاير الطبقة الاجتماعية، والبنية الاقتصادية، والمناخ الثقافي للعائلة، ونمط المدرسة والنمط اللغوي السائد، وغير ذلك من متغيرات الوسط الاجتماعي. وهذا يعني أن الطموحات المدرسية والمهنية تأخذ صورة ظاهرة اجتماعية، وذلك لأن النجاح المدرسي يرتهن بعدد كبير من المتغيرات الاجتماعية التي تتعلق بالوضع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الذي يحيط بالأفراد ويؤثر في مختلف لحظات تقدمهم ونجاحهم في المدرسة والمهنة والتعليم.

تنامي المواهب

هذه الرؤية الجديدة لدور المدرسة في المجتمع الجديد تتطلب من أن نوجه النقد إلى نمط جديد من التفكير والأحكام المسبقة التي نجدها لدى علماء النفس، الذين يصرون على أن المواهب هي الأصل في النجاح المدرسي، وأن نخبة من الموهبين هي المؤهلة من أجل الوصول إلى التعليم العالي. وهنا يجب علينا أن نعلن بأن هذه الرؤية خاطئة وأن منحنى المواهب ليس مطلقا ونهائيا بل يأخذ منحى اجتماعيا، وهو رهين الأوضاع الاجتماعية للأطفال والشباب. وأنه يمكن لنا عبر تحسين الظروف الاجتماعية المحيطة بالفقراء والنهوض بثقافتهم وتعزيز مبدأ تعليم الكبار والتربية المستمرة والتعليم من أجل الحياة فإنه يمكن تغيير كثير من التصورات التي تتعلق بالذكاء والمواهب والقدرات العقلية للبشر. ويمكن عبر ذلك تنمية الحوافز على التعلم والاكتساب والنجاح لدى مختلف الفئات الاجتماعية وتغيير معدلات ذكائها وثقافتها ونجاحها في المدارس والحياة في آن واحد. وهذا كله ينبغي أن يعزز التفاؤل الكبير والثقة الأكبر بإمكانية النهوض بالفرد والمجتمع والإنسان ثقافيا وروحيا وحضاريا. فالإنسانية تمتلك رصيدا من القدرات المفتوحة الخفية التي لا يمكن أن تقف عند حد أو نهاية.

ويمكن القول في هذا السياق أن البشرية تمتلك رصيدا هائلا من الذكاء الذي لم يكتشف بعد، وهو رصيد هائم ونائم في الذخيرة العقلية للفئات الاجتماعية الممتدة عبر الأرض في كل مكان وزمان. ولكن عبر التاريخ كانت هناك طبقة واحدة تمتلك الشروط الإنسانية لتنمية ذكائها والنهوض بقدراتها العقلية.

ومع الأسف الشديد فإننا ما زلنا حتى اليوم سجناء التصور الذي يرى بأن الذكاء هو تحديدا ما يمكن لمقاييس الذكاء أن تقرره وتحدده. ومهما يكن الأمر فإنه يجب علينا أن نعلم بأن الإنسانية تمتلك على قدرات عقلية هائلة لم تثمن بعد ولم تكتشف ن وذلك لأن هذه القدرات لم تؤخذ على أنها ضرورية وهامة اجتماعيا. ويمكن القول في هذا السياق بأننا نوجد اليوم على أطراف مرحلة حضارية تطل على مرحلة من التطور المذهل في مستوى ذكاء الإنسان والبشر.

وفي هذا المقام يعلن أغلب الباحثين المهتمين بطبيعة العلاقة بين الوسط والوراثة أنه لمن الصعوبة بمكان التمييز بينهما وأنه يجب الأخذ بالمتغيرين معا في تفسير ذكاء الفرد وتحديده، ولكن من الضرورة بمكان مع ذلك التركيز على الوسط الاجتماعي للطفل لأننا على الأقل نستطيع أن نتحكم به ونطوره من أجل تنمية ذكاء الطفل وتطوير استعداداته العقلية.

النضال ضد ديكتاتورية الدبلومات والشهادات:

إذا أريد للنظام التعليمي أن يواجه تحدياته الحضارية فإنه يتوجب عيله بداية أن يواجه تحدي ما يسمى بإشكالية "الشهادات المدرسية" التي تحولت إلى هدف تربوي يسعى إليه الآباء والمتعلمون على حد سواء، وقد لا نبالغ بالقول إن هذه المسألة على غاية الأهمية إذ تمثل واحدا من التحديات الكبيرة التي تواجهها مدرسة اليوم. فنظام الشهادات يمثل نقطة تقاطع لمختلف المشكلات التي تواجه التعليم والأنظمة التعليمية. فالشهادات تشكل شبكة معقدة من الأنظمة التربوية وهذه الشبكة تشكل ركنا أساسيا في مختلف الأنظمة التعليمية، ولكن هذا النظام ينغلق على الأنظمة التعليمة ويضفي عليها طابع الصلابة والجمود. ومما لا شك فيه أن نظام الشهادات تفرضه ضرورة المصالح النفعية التنافسية.

ويجري الاعتقاد بأن الشهادات العلمية ضرورية لأنها تحفز الطلاب وتدفعهم إلى احترام النظام والاجتهاد في الدراسة والتحصيل. ويضاف إلى ذلك أن الدبلوم يؤدي دورا كبيرا في سوق العمل حيث يعتمد في تقدير كفاءات الأفراد وإمكانياتهم العلمية. وهناك من يعتقد أنه لولا نظام الشهادات المدرسية فإن النظام التعليمي سيتعرض للتصدع والانهيار وأن سوق العمل سيتحول إلى ممارسة اعتباطية مفرغة من مضامينها.

ولكن مع ذلك يمكن لنظام الشهادات العلمية أن يتضمن صورة أخرى مختلفة نسبيا. فالشهادات العلمية هي التي توجد في أصل الامتحانات، أي أن نظام الامتحانات قائم على فكرة الشهادة المدرسية، وفي هذه السلسلة فإن الامتحانات بدورها تشكل منطلقا لبناء البرامج والمناهج المدرسية، وفي هذه المتوالية يجد المعلمون أنفسهم مكرهون على مراعاة هذه المناهج والسير على هديها إذ تتحول إلى قوة تسلبهم القدرة على التعليم بطريقة إنسانية خلاقة. وضمن هذا التسلسل السببي فإن هذه المناهج القائمة على الامتحانات من أجل الشهادات المدرسية تحاصر الطلاب وتنغص عليهم أسباب حياتهم ووجودهم فتدفعهم إلى حلقة مفرغة من التنافس والصراع فتتحول الحياة المدرسية إلى محنة إنسانية تتكاثف فيها قيم الخوف والقسر والإكراه والتحدي وتقوم على حشو الدماغ بالمعلومات والتحضير السريع للامتحانات المملة. ويمكن التأسيس على هذه الرؤية لنظام الشهادات أن هذا النظام مضاد للعملية التربوية ومضاد للمجتمع، لأنه يؤدي إلى حالة من الإفراط في الشكلية التربوية التي تفرض نفسها على النظام التعليمي برمته، فالشهادات تفرض على المعلمين والتلاميذ نوعا من المتطلبات الشكلية وتضعهم جميعا في عالم مقفل ومنغلق على نفسه.

وإذا كان ثمة نقد يوجه للنظام التعليمي الحالي فإنه نقد مرير يوجه إلى ما يحدثه من قطيعة مع الواقع والحياة وانقطاع إلى عالم الكتب والمحابر والكراسات.

إن أي اصلاح تربوي يجري في القطاع التربوي سيكون دائما شكليا ولن يصل إلى غايته ما لم يتم التخلي عن نظام الشهادات المدرسية. وهنا إزاء هذه القضية نجد اتجاهين أساسيين: أحدهما يؤكد أهمية النظام المدرسي القائم على الشهادات وهذا التوجه مضاد للنظام التربوي الذي يقوم على احترام قيم الابداع والتفرد والازدهار في شخص المتعلم. أما الثاني فيرفض بالضرورة هذا النظام القائم على الشهادة العلمية ولكن أصحاب هذا الاتجاه يحتاجون لمزيد من الشجاعة والقوة والإرادة لمواجهة هذه الحقيقة المرّة التي تتعلق بالشهادات التعليمية.

إن تحرير النظام التعليمي من ديكتاتورية الشهادات المدرسية تمكن هذا النظام من تنمية الابداع والأصالة وتنهض بالخيال والحس الجمالي والإنساني للطلاب والتلامذة والمريدين، ويمكن في هذه الحالة أن نتحدث عن بيئة ثقافية حقيقية في المدرسة والنظام التعليمي يتم فيها احترام مختلف البعاد الإنسانية للذكاء والمعرفة الحقّة والحرية والقيم الأخلاقية.

فالشهادات والامتحانات تشكل مرتكزات نظامنا التعليمي الذي يقوم على الذاكرة والحشو والاستظهار والتمثل العبودي وذلك على حساب النشاطات والفعاليات الذهنية والعقلية الخلاقة والمبدعة مثل التحليل والفضول والتخيل والابداع والتحليل والنقد والحدس. ومما لا شك فيه أن هذه القدرات والقيم العقلية لطالما قد قهرت وخنقت وحوصرت في الأنظمة التعليمية التلقينية القائمة على التسلط الذهني القائم على الاستظهار والشكليات المعرفية. وذلك لأن هذه الأنظمة جعلت من الشهادات والامتحانات هدفا حيويا وأساسيا لفعالياتها ونشاطها التعليمي. إنه أنظمة تحضر الطفل للامتحانات والدبلومات والشهادات ولكنها نادرا ما تحضره للحياة الذكية النشطة القائمة على الفهم والمشاركة والابداع.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن فعلا إيجاد نظام مدرسي جديد يرفض الامتحانات والشهادات؟ وهل يستطيع المجتمع الإنساني الحديث أن يتخلى عن نظام الشهادات؟

فالمجتمعات المعاصرة تشهد اليوم أزمة تضخم في الشهادات العلمية. فمن أجل أداء مهنة أو وظيفة ما يتطلب الأمر شهادات أعلى بكثير من المستوى المطلوب لأداء هذه الوظيفة في مراحل سابقة. فالمرء يحصل اليوم على شهادات علمية لشغل وظيفة لا تحتاج مثل هذا التأهيل وما يحدث أن هذه الشهادات تعطي للوظيفة أهمية واعتبار أكثر مما يجب.

ويضاف إلى ذلك أن المدارس الخاصة أبدعت شهادات وأضفت عليها قيمة في مجال سوق العمل. وبالتأكيد فإنه لمن السهولة بمكان اختيار الأفراد وتوظيفهم وفقا للشهادات المدرسية التي يحملونها، حيث أصبحت الشهادة معيارا للكفاءة والجدارة، وهي بذلك ليست سوى معيار اعتباطي وغير عقلاني يُعتمد للتمييز بين هؤلاء الذين يستطيعون ممارسة وظيفة ما وهؤلاء الذين لا يستطيعون. ولذلك فإن التفكير في استبعاد دور الشهادة العلمية أو التقليل من دورها في المجتمعات الحديثة سيكون نوعا من التجذيف ضد التيار. ومع ذلك، فإن المصلحة الثقافية للمجتمع، والغايات التربوية للتعليم تقتضي إيقاف هذا التضخم في حسابات الشهادات العلمية والتخفيف من حدتها إلى أبعد حدّ ممكن.

ومن أجل هذه الغاية، يجب الاقتناع بأنه يمكن للمجتمع الحديث أن يستمر في الوجود من غير الشهادات العلمية، ويمكنه أيضا أن يكون أكثر فعالية وإيجابية. وعندما نراقب ما يجري عن كثب فإننا سنجد مبالغة كبيرة في استخدام الشهادات وتوظيفها بأكثر مما يتطلب الأمر أو بأكثر مما يجب. فالشهادات المدرسية وفقا للطريقة التي تستخدم فيها وتوظف تؤدي إلى نوع من الجمود وتمنع المجتمع من مرونته وحركته وتحاصر الإبداع وتضعف الكفاءات الحقيقية في المجتمع. فعلى سبيل المثال لو أن شخصا ما حصل على شهادة علمية مطلوبة لممارسة مهنة التعليم فإنه سيجبر على ممارسة هذه المهنة مدى الحياة حتى لو لم يحقق أي نجاح في مهنته هذه، ولن ينفعه أن يعلن تذمره وشعوره بعدم الرضا والتعاسة أحيانا. فلقد حكم عليه مرة واحدة على أنه معلم بحكم الشهادات التي يحملها في ميدان الاختصاص. وبالمقابل فإن الأشخاص الذين يمتلكون القدرة والرغبة في التعليم ويحملون إمكانيات النجاح في هذه المهنة ويتمرسون بالمعارف الضرورية لها لن يتاح لهم أبدا ممارسة هذه المهنة وذلك لأنهم لا يحملون الشهادات العلمية المطلوبة. ويمكن بالطبع الإشارة إلى قطاعات مهنية أخرى التي تعتمد الشهادة المدرسية أداة وحيدة في قبول موظفيها والعاملين فيها. وفي أي حال من الأحوال يمكن القول بأن المجتمعات الحديثة تعتمد الشهادات المدرسية وسيلة وحيدة ومعيارا أوحد في تقدير مكانة الأفراد وإمكانياتهم داخل المجتمع.

وما يخيف في هذه الظاهرة أن يأتي اليوم الذي يكون فيه الزبائن هم الذين يقدرون الكفاءة الحقيقية للعاملين والموظفين. ففي عالم المال والأعمال حيث لا تسود الشهادة المدرسية، فإن عملية انتاج العامل هي التي ستحكم وجوده. فالبائع الذي لا يقدم فائدة وأرباح كافية للشركة التي يعمل بها سيجد نفسه في سوق البطالة عن العمل عاجلا أم آجلا. إنه قانون مجحف وسيكون وقعه قاسيا جدا على العاملين ولكنه مع الأسف سيكون الوسيلة الوحيدة التي يمكن للشركات الرأسمالية أن تتبناها في التعامل مع العاملين فيه ومع موظفيها. ويمكن القول في هذا الخصوص إن إسقاط نظام الشهادات سيكون بمثابة ثورة اجتماعية ومدرسية في الآن الواحد، وسيجسد نوعا من التغيرات النوعية في الذهنيات والبنى الاجتماعية. ولكن المجتمعات الإنسانية المعاصرة ليست مهيأة لاتخاذ مثل هذا التحول الراديكالي ولكن يمكن تحقيق هذا التغير في يوم ما ولا بد أن ذلك اليوم قادم على دروب الزمن، وسيكون هذا التغيير رهن ثورة ثقافية شاملة تشمل التكوينات الروحية والنفسية والعقلية على حدّ سواء.

خاتمة:

يمكننا أن نتحدث في هذا السياق عن نمط من التحولات العميقة في الذهنية التي اختمرت وتشكلت في المجال التربوي. وعندما نتساءل اليوم عما ننتظره من مدرسة اليوم لا يمكن لنا أن نقدم إجابات حقيقية إلا بالاستناد إلى معطيات الحضارة الجديدة التي تنبثق بقوة عبر الصراعات والتحديات والاضطرابات والتشنجات والمواجهات التي نعيشها اليوم.

وفي هذا السياق الحضاري الجديد تتم عملية شخصنة التعليم والتحولات الراديكالية في التصورات والمفاهيم التي تتعلق بالمدرسة ووظيفتها. لقد سادت وهيمنت الأيديولوجيا الليبرالية في القرن التاسع عشر: وهي أيديولوجيا النظام الرأسمالي والبروتستانتية والثورة الصناعية. وفي ذلك العصر كان المعارضون والمصلحون يبشرون وينادون أفراد المجتمع للاندماج في المجتمع الجديد وتبني الأيديولوجيا الجديدة. وإلى أوغست كونت يشار كنموذج لهؤلاء المصلحين في عصره، حيث دعا إلى نوع من الدين الاجتماعي المتمثل في الدعوة إلى بناء مجتمع علماني ووضعي جديد. ونشهد في هذا العصر أيضا نماذج متعددة من المفكرين الاشتراكيين والماركسيين الذين دعوا إلى معارضة الأيديولوجيا الرأسمالية وبناء مجتمعات اشتراكية أكثر عدالة ونبلا وأنسنة. وكانت رسالتهم واضحة بالنسبة للشباب في ذلك العصر وكان الشباب تحت تاثير ذلك على اقتناع كبير بأن ما يهددهم يتمثل في قدرة التكنولوجيا على ابتلاعهم وتدمير نسيجهم الاجتماعي ودفعهم إلى حالة من الاغتراب عبر نظام رأسمالي لا روح فيه. وفي هذا السياق المفعم بالقلق والخوف ومن أجل مواجهة هذا التحدي – أكان حقيقيا أو خياليا – تتمركز الرغبة في تحويل التعليم إلى نوع من التعليم المشخصن من أجل تعزيز التفكير الفردي والشخصي وتأصيل النزعة الإبداعية والروح الاستقلالية في مواجهة القوى الجبارة للمجتمع.

لن يكون القادم من الأيام كيومنا هذا، ويومنا هذا ليس كالأيام التي مضت، فكل زمن يرسم ملامحه الخاصة ويتميز عما سبقه وعما يليه. وفي هذا الزمن فإن المدرسة هي أكثر المؤسسات معاندة للتغير وأقلها تغيرا.

* كلية التربية - جامعة الكويت

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 10/آذار/2012 - 16/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م