اساليب التوافق غير المباشر

علي اسماعيل الجاف

يحاول الانسان الوصول الى حالة من التوازن والتوافق الطبيعي كلما واجه عائق يحول دون اشباع دوافعه وحاجاته. والفرد السوي يحاول الوصول الى هذا التوافق عن طريق الوسائل الايجابية التي تساعده على تحقيق اهدافه وازالة ما يترتب على الاحباط الذي يواجه من توتر وقلق. وتتضمن هذه الوسائل الايجابية السوية زيادة في نشاط الفرد والعمل على تذليل العوائق واقتحامها او ازالتها ان كان ذلك لا يتعارض مع القيم السائدة في المجتمع او التحليل مع العائق لتفادي الاصطدام به او باستبدال طريقة معالجة العائق التي لم تنجح في ازالته بطريقة اخرى يمكن ان تحقق الهدف او بتغير الهدف نفسه او اتخاذ بديل للاشباع او تأجيل الاشباع اذا كان العائق مؤقتا.

هذه كلها طرق مختلفة للتوافق السليم والسلوك السوي. فالأسلوب الناجح في حل الازمات هو الذي يؤدي الى اشباع الدوافع والتخلص من حالات الاحباط والتوتر والقلق بصورة ترضي الفرد ولا تتعارض مع المجتمع ومعايره ولا تضر بالغير. اما اذا لم ينجح الفرد في تحقيق توافقه مع هذه السبل وفشلت هذه الطرق المباشرة في التغلب على الاحباط فان حالة القلق والتوتر الناشئة عن الاحباط تستمر مدة طويلة فتسبب له الكثير من الالم والضيق، كذلك يلجا الى اساليب غير مباشرة قد تؤدي بطريقة سلبية الى تخفيف حدة التوتر النفسي واثاره بصورة مؤقته بالحيل الدفاعية اللاشعورية او عن طريق الاحلام.

1.1. التوافق عن طريق الحيل اللاشعورية او الاليات العقلية:

ان لم يوفق الفرد الى حل ازمته النفسية اي ما يعاني من صراع بطريقة ايجابية واقعية بان كانت المشكلة تفوق قدرته على حلها او احتمالها او كانت لا شعورية خافية الجوانب او لانه لم يتعلم في ماضيه حل المشكلات بالطرق السليمة الناجحة ظل الفرد في حالة اهباط موصول، ولجأ الى طرق اخرى ملتوية او سلبية او دفاعية هي ما تعرف (بالحيل الدفاعية) لانها تدفع عن (الانا) غائلة التوتر والقلق، وتقيه مشاعر العجز والفشل والخوف والرثاء للذات واستصغارها، وهي حيل تعمل، كما سنرى بصورة الية لاشعورية غير مقصودة، كما لا تستهدف حل الازمة بقدر ما نرمي الى الخلاص من التوتر والقلق والوصول الى قدر من الراحة الوقتية.

وهذه الحيل اللاشعورية التي يلجا اليها الانسان متعددة، متفاوتة ومتشابكة تعمل في اكثر من ميدان وقد يشترك اكثر من عملية في الميدان الواحد بصورة متداخلة، تجعل من الصعب تصنيفها، ولو ان البعض يصنفها الى حيل هجومية واخرى هروبية او دفاعية واخرى خداعية، وهي تهدف الى معالجة اثار الكبت والصراع بين الدوافع والهرب من الاوضاع المسببة للكبت والاحباط. ويجب ان نفرق بين الاليات العقلية وبين الحالات التي يصمد فيها الانسان الى تصرفات شعورية يأتيها عن وعي تام ومقصد واضح تفاديا للكبت والصراع فهذه لا تعتبر حيل لا شعورية او اليات عقلية فلكن تعتبر الاستجابة نوعا من الحيل اللا شعورية او الاليات العقلية الدفاعية او الهروبية يجب ان تتوفر فيها صفة اللا شعورية.

 2.1. وفيما يلي امثلة لبعض الاليات العقلية:

1.2.1.الكبت

الكبت هو حيلة هروبية تلجا اليها الانا لطرد الدوافع والذكريات والانكار الشعورية المؤلمة او المحزنة واكراهها على التراجع اللاشعور او (العقل الباطن) فنحن نكبت ما يسبب لنا الضيق والالم وما تعانيه ذواتنا الشاعرة، وما يضر بمصالحنا في المجتمع وما يتنافى مع المثل الاخلاقية والجمالية وكل ما من شانه ان يخرج كبريائنا او يمس احترام انفسنا. والجزء اللاشعوري من (الانا) هو الذي يقوم بعملية الكبت، يقوم بها بإملاء من (الانا الاعلى) دون ان تعلم بها الذات الشاعرة ولذا يعتبر الكبت عملية لا شعورية او حيلة دفاعية يدافع بها الفرد عن نفسه كلما يزعجه او يجرح كبريائه او يمس تقبل المجتمع له، ويمنع بها الدوائر الثائرة المحظورة – وخاصة الدوافع العدوانية والجنسية – ان تتحقق بصورة صريحة مباشرة يمكن ان تضده او تؤثر على صلاحه في المجتمع.

وفي هذه الرغبات والنزوات التي يكبتها الفرد تصبح في حظيرة اللاشعور مستقرة بدون حدود زمانية او مكانية بالمعنى الذي تفهمه الذات الشاعرة وتظل متحركة فيه لا تموت، تعمل على الخفاء وتلح جاهرة في الظهور، وقد يبدو اثرها في السلوك الظاهري بصورة صريحة كبعض فلتات اللسان او زلات القلم، او تظهر بصورة رمزية كالأحلام او بصورة شاذة كأعراض الامراض النفسية واضطرابات شخصية والانحرافات الخلقية والمشكلات السلوكية وغيرها.

ولا شك ان للكبت اثار ضارة متعددة. فالدفاع المكبوت لا يبقى خاملا بل يعمل باستمرار على دخول مجال الشعور، فتظل المعركة مستمرة بين الدفاع المكبوت والقوى المسببة للكبت التي تعمل على طمسه. وفي ذلك استنزاف للطاقة النفسية مما قد يترتب عليه تعبا جسمانيا مستديما ليس له اي سبب فسيولوجي ظاهر، او غير ذلك من الاثار التي قد يكون بعضها ضار والبعض لا ضرر له.

ولكي نوضح بعض الاثار التي قد تترتب على الكبت في المثال التالي:

لو ان فتات لها شقيقة اجمل مظهرا منها بشكل يؤثر عليها بين الناس يحوطها المعجبون اينما حلت فان هذه الفتاة ستعاني ولاشك من الغيرة من شقيقتها فاذا كانت في قرارة نفسها تميل الى الاحساس بالغيرة ولكنها تصر على عدم الافصاح عنها، فانها في الغالب ستكبت هذه الغيرة مما قد يترتب عليه احد امرين او هما معا: فهي قد تنمي ازاء شقيقتها سلوكا وديا للغاية او قد تلحق بها اذى او ضرر بحيث تعتقد مخلصة بان هذا الضرر لم يكن مقصودا رغم انه في الحقيقة سلوك مصدره تلك الغيرة اللاشعورية.

والغيرة او العداء المكبوت الذي يظهر بصورة مودة مبالغ فيها هو احد نتائج الكبت التي تعرف بالتحويل العكسي حيث تظهر النزعة المعارضة للنزعة التي كيفت بشكل مغالي فيه يظهر الحب المكبوت بصورة عداء شديد.

2.2.1. التبرير

هو نوع الاليات العقلية التي ترمي الى مواراة النزاعات الخبيثة عن طريق المغالطة اللاشعورية في الافصاح عن الدوافع الحقيقية.

وهو حيلة دفاعية تقي الانسان من الاعتراف بالفشل او الخطاء او العجز، كما يحدث عندما يصدر عن الفرد تصرفات صادرة عن دوافع غير مقبولة اجتماعيا، فيصمد تفسير سلوكه تفسيرا يبين لنفسه وللناس ان سلوكه له اسبابه المعقولة المقبولة من المجتمع. وليس معنى هذا ان يكون السلوك نفسه مقبولا ولكن التبرير يعني اننا نبرر سلوكنا متى يبرر في نظرنا ونظر الناس معقولا ويعفينا من الاعتراف بالدوافع الحقيقية غير المقبولة.

وللتبرير طرق للحصول عدة منها اعتذار الفرد عن فشله في الحصول على شيء بانه لا يميل الى هذا الشيء او يكرهه. وكمثل السكير الذي يبرر استمراره في احتساء الخمر بانه يساعده على النوم او المقاومة للبرد او بمناسبة عيد الميلاد او انه شراب جديد وانه يرغب في تجربته من باب العلم بالشيء... الخ تلميذ يكره المدرسة (دافع لا شعوري غير مقبول اجتماعيا) ويتأخر عن المدرسة كثيرا، مبررا تأخره بمرض والدته او عدم ايقاظها اياه في الموعد المناسب، ومن الاباء من يبرر عقابهم الشديد لأطفالهم بان ذلك لصالحهم في حين ان الدافع الحقيقي هو تصريف غضب الاباء. والطالب الذي رسب في الامتحان ويعيد العام الدراسي مقنعا نفسه في الاعادة افادة.

من هذا نرى ان التبرير حيلة يدافع بها عن نفسه ما يؤذيها ويسبب لها القلق. هو حيلة يتنصل بها الفرد من عيوبه ومتاعبه ويموه عليها. هو حيلة يلجا اليها كل مقصر او فاشل او معتد او عاجز او مخطئ وهو حيلة مشاعة بين الكبار والصغار خاصة بين من تناقض افعالهم ما لديهم من مبادئ خلقية ومن ينساقون وراء عواطفهم ونزواتهم وعاداتهم الضارة.

3.2.1. الاسقاط

حيلة لا شعورية تتلخص في ان ينسب الشخص عيوبه ومناقصه ورغباته المستكرهة ومخاوفه المكبوتة التي لا يتعرف بها، الى غيره من الناس او الاشياء او القدار او سوء الطالع وذلك تنزيها لنفسه وتخففا مما يشعر به من القلق او الخجل او النقص او الذنب فترى الكاذب او الجحود او الاناني او المتعصب الذي لا يشعر بوجود هذه الصفات في نفسه ينسب الكذب او الجحود او الانانية او التعصب الى غيره. والزواج الذي تنطوي نفسه على رغبة مكبوتة في حياته يميل الى اتهام زوجته بالخيانة وكثيرا ما يكون ارتياب الفرد في الناس وعدم ثقته فيهم اسقاطا والارتياب في نفسه وعدم ثقته فيهم. ومن مظاهر الاسقاط وعظ الناس وارشادهم الى تقويم انفسهم من عيوب يتسم بها الواعظ وهو لا يدري. بل كثيرا ما يكون مفيدا اخطاء الناس دليلا على عقدة ذنب... فبالاسقاط نحكم على انفسنا حين نحكم على الغير... انها اعترافات اكثر من ان تكون اتهامات.

والاسقاط واضح كل الوضوح في كثير من الامراض العقلية اذا يسقط المريض رغباته الدفينة وشكوكه وكراهيته اللا شعورية على العالم الخارجي فيتخيل الهه انها صادرة موجودة في نفس الاخرين. فقد تتهم المريضة رجلا بانه يحبها ويغازلها ويراسلها في حين انها هي التي تحبه وتود ان تغازله وان تراسله. والاسقاط يؤدي غرضا مزدوجا: فيه تخفف من مشاعرنا ودوافعنا البغيضة ونعمى عن رؤية انفسنا كما هي عليه في الواقع – لذا كان حيلة خداعية – كما انه يجعلنا في حل من نقد الناس واتهاماتهم والمبادرة الى لومهم قبل ان يلومونا.

4.2.1. التقمص

هو حيلة لا شعورية دفاعية تعمل على خفض التوتر النفسي واشباع الدوافع المحبطة عن طريق اندماج الفرد لا شعورية في شخصيته اخر وفي شخصيته جماعة نجحت في تحقيق الاهداف التي فشل الفرد في تحقيقها او التحلي في بعض الصفات او الخصائص التي يتحلى بها غيره، فنحن عندما يحبط دافع من دوافعنا فاننا نجد بعض الرضا بتعنيقنا في الخيال فردا يبدو لنا الى جانب من الخصائص التي نتوق اليها ومن امثلة حيل التقمص: تقمص الطفل شخصية والده اشباعا لدوافع السيطرة والتفرد واقرار الذات، وتقمص الفتات المحرومة شخصيته الممثلة التي تعجب بها، او تقمص التلميذ شخصية استاذه اشباعا لدوافعه: هو السلطة والشهرة والاحسان والاستحسان الاجتماعي.

فمن الدوافع القوية الى التقمص الشعور بالنقص والعجز كما قدمنا، وقد يكون الدافع اليه التماس الامن والتحرر من القلق مما يبدو كثيرا في العاب الاطفال حين يقوم الطفل بتمثيل دور طبيب الاسنان ويقم بخلع ضرس اخيه الاصغر، او يكون التقمص للتغلب على الحزن احيانا كتلك الطفلة التي ماتت قطتها فاعلنت انها صارت قطة واخذت تحبو على اربع وامتنعت عن الاكل على المائدة. ويبدو التقمص واضحا في هذيان المصابين بأمراض عقلية حين يعتقد احدهم انه نابليون بونابرت فيلبس ثيابه وقبعته ويحاكي حركاته ويتخذ سمته واسلوبه في الامر والنهي.

والتقمص قد يكون مفيدا حينما يؤدي الى نمو وتكامل شخصية الفرد وتكوين عاداته وميوله "تقمص الابن شخصية والده والفتات لوالدتها" وهو يساعد على نمو (الانا) وتكوين الانا الاعلى واكتساب العواطف التي تكون موضوعاتها الجماعات والافكار المردة.

والتقمص لا يقتصر على الاندماج في شخصية افراد اخرين من ابطال او زعماء او ذوي نفوذ انما يمتد احيانا الى تقمص شخصيات ضعيفة او مغلوبة على امرها فقد يكون لدى الفرد رغبة في العقاب نشأته عن الشعور بالذنب فيتقمص شخصية المجرم او يعترف بجرم لم يرتكبه او يتقمص شخصية المصارع او الملام المغلوب على امره.

وفي بعض الاحيان يكون التقمص ضارا عندما يترتب على اعاقة النمو الطبيعي للفرد كالطفل الذي فقد والده في طفولته وقامت والدته بتربيته فتقمص شخصيتها واكتسب نتيجة لذلك الكثير من صفاتها الانثوية.

5.2.1. النكوص

وهو اكبر حيلة عقلية دفاعية يقوم بها الفرد للتغلب على ما يقابله من صعاب وحل مشكلاته بنكوص سلوكي على هيئة رجوع الفرد الى مرحلة سلوكية من مراحل الطفولة التي سبق ان مر بها وتجاوزها رجوعا موضعيا يرتد فيه الفرد الى ميول ومشاعر وتصورات طفلية الى رجوع وضيفي يجعل الفرد يرتد في سلوكه واستجابته الى انماط كان قد الفها في الطفولة.

فهو استجابة توافقية ترمي كبقية الحيل اللاشعورية الى تخفيف درجة التوتر الناشئ عن مواجهة الفرد لعائق او مشكلة، وهو يرمي الى تجنب الشعور بالفشل دون محاولة لحل المشكلة حلا صريحا ايجابيا فالنكوص عبارة عن تراجع الفرد الى اساليب طفلية او بدائية من التفكير والسلوك حين يعجز عن التغلب بطريقة ثنائية على ما يعانيه من كبت او احباط او صراع.

وفيه يلجا الفرد الى وسائل ساذجة كانت تشبع دوافعه في مراحل سابقة من مراحل نموه... وهو حيلة ضارة لانها توقف نمو الشخصية وتطورها وتردها الى مستويات قديمة من السلوك لا تتناسب مع مرحلة نموه الحاضر.

فهو ينحدر بالفرد الى درجة منخفضة من درجات السلم الارتقائي للسلوك والعواطف والعادات، الى موضع خلفية من مواضع النمو الطبيعي للشخص. ومن امثلة النكوص، الغيرة الطفلية والبكاء او الصراع والعناد والصياح عند الاصطدام بالمشاكل، او عودة بعض الاطفال الى التبول اللاارادي وقضم الأظافر او مص الاصابع، بعد ان تكون هذه المرحلة التي تحدث فيها هذه الاغراض قد مضت، وقد يحدث ذلك نتيجة ميلاد طفل جديد، والقلق والغيرة مترتبان على عدم قدرة الام على معالجة الموقف بعناية وحكمة، او شعور الطفل بفقدان حب والديه وانصرافه عنه، فيعتبر النكوص حيلة لجذب انتباه الوالدين.

ويبدو النكوص واضحا لدى كثير من الناس، في حالة المرضى الجسمي، لكنه اكثر وضوحا في الامراض النفسية والامراض العقلية اذا يتخذ امراض عنيفة منها التهجم والصراخ والغيرة العنيفة والغضب الشديد والضحك او البكاء الصبياني والاندفاع والذعر من اشياء تافهة... وكذلك الكلام واللعب الصبياني في بعض حالات الجنون.

6.2.1. التعويض

وهي حيلة دفاعية شعورية، يلجا اليها الفرد، نتيجة الشعور بالفشل او النقص او العجز عن اشباع دافع قوي او اخفاء عجز او عيب جسمي او عقلي. ويبدو في صورة اهتمام زائد بسلوك معين كوسيلة لتخيل لاشعوري يدفع بالفرد الى العمل على معالجة النقص الحقيقي او الوهمي بالكفاح لتحقيق النجاح المطلوب او الاستعاضة عنه بهدف اخر.

ومن امثلته محاولة التلميذ الذي يعاني من اضطرابات انفعالية ناتجة عن فشل في الدراسة او عيب خلقي بدني التعويض عن طريق الاسراف في المذاكرة او محاولة التفوق في ميدان اخر، كالرياضة او الرسم او التصوير، او عن طريق اتخاذ سمات السيطرة والقوة لكسب احترام الغير، او محاولة الذي يعاني من عقدة النقص او الجبن التعويض بالحديث المتواصل عن نفسه او نسبه او المغامرات الوهمية التي لم تحدث. وقد يلجا الوالد الذي فشل في مهنة معينة يهواها، الى دفع ابنه قسرا الى دخول هذه المهنة ليحقق فيه ما فشل في تحقيقه بنفسه، او الام التي تدفع ابنتها للزواج من شخص تتوفر فيه صفات تمنتها هي وانتقدتها في زوجها.

7.2.1. احلام اليقظة او الخيال التوهمي

احلام اليقظة قصص يرويها الانسان لنفسه بنفسه عن نفسه، هي نوع من التفكير الذي لا يتقيد بالواقع ولا يحض بالقيود المنطقية والاجتماعية التي تهيمن على التفكير العادي. وتستهدف هذه الاحلام ارضاء رغبات وحاجات لم يستطيع الفرد ارضاءها في عالم الواقع. فيها تبني القصور في الهواء وتوضع الخطط للمستقبل الذي ينشده الحالم ويعجز عن بلوغه. فيها يجد المرء عزاء وسلوى وخلاصا من القلق الناجم عن احباط دوافعه فنرى الضعيف يحلم بالقوة، او الفقير بالثروة والمظلوم بالبطش، والغبي بالذكاء. وقد يضع نفسه بطلا لرواية يؤلفها وينعم في ثناياها بما ينعم به الاطفال. او يضع نفسه موضع البطل المظلوم المعذب الذي يلقي الذل والهون في اول الامر ثم تنكشف بطولته فيلوم الناس انفسهم ويريدون اليه اعتباره وما هو اهل له من الاحترام والتقدير. من هذا نرى ان احلام اليقظة صمام امن للرغبات المكبوتة والدوافع المحيطة، او هي نوع من التعويض الوهمي او العزائي.

واحلام اليقظة ظاهرة طبيعية عادية لاضرر فيها ان التجأ الفرد اليها بمقدار. كما انها ليست دائما من النوع العابث العقيم. فالشعور بالرضا من الحل المؤقت للمشكلات في عالم خيالي جديد قد يخفي لفرد على تحقيق ما تدور عليه احلامه، وقد يزوده بخطة للتغلب على الصعوبة في العالم الواقع. كما ان حل الصراع النفسي حلا ناجحا في الاحلام قد يذهب بما لدى الفرد من سخط او وساوس عابرة. اما ان زحمت الاحلام الحياة النفسية فامتصت جزء كبير منها امست ضارة بالفرد وخيمة العاقبة. فقد يؤدي الاسراف فيها الى التباس الخيال بالواقع. او الى ان يقنع بها الفرد فتعفيه من التنفيذ الفعلي لرغباته واماله كذلك تصبح الاحلام ضارة متى اثرة في نشاط الفرد وصلاته بالناس. متى اصبح ملكا لها بدل ان تكون ملكا له... وتصبح امرا خطرا متى اثر الاحتماء بها والانطواء على نفسه كلما ارتطم بموقف مشكل. فمن الناس من يحلون مشاكلهم مع الناس في هذه الاحلام فيعتدون عليهم في الخيال، وهذا يكفيهم. من اخطارهم ايضا انها قد تكون بعيدة عن الواقع بعدا كبيرا فتقعدنا عن السعي خوفا من الاخفاق. ان كثير من حالات الاخفاق في الزواج ترجع الى ما كونه الفرد في احلامه من خيالات مضخمة عنه لا يحققها الواقع. ومن اشد اخطارها انها قد تسهل التورط في افعال اجرامية حين تتشابه ظروف الواقع والظروف التي يتخيلها الحالم.

واحلام اليقظة نشاط ذهني مشاع في كافة مراحل العمر. ولكنها تزداد حدوثها خلال فترة المراهقة ومرحلة الطفولة. واحلام اليقظة على هذا تعتبر ضربا من الاستجابات البديلة ونمطا استجابيا يرويه الانسان اثر صعوبة شخصيته او موضوعية بيئية قابلية في حياته وعجز عن مواجهتها... وهي حيلة ترجع الى الشعور بالدونية نتيجة عجز او ضعف فعلي واقعي او نتيجة شعور خاطئ للفرد عن نفسه او فكره غير صحيح عن قدراته اوصى اليه بها الغير.

8.2.1. الاعلاء او التسامي

وهي حيلة يسعى بها الفرد الى الارتفاع بالدافع او الرغبة او العاطفة المكبوتة الى مستوى ارفع او اعلى او اسمى.

فهي عملية تحويل الطاقة النفسية من ميدان وتوجيهه الى ميدان اخر ابعد مدى في جلب القبول الاجتماعي. فالشخص الذي يشعر بدافع عدواني قد يعلى هذا الدافع الى اعمال اجتماعية مقبولة مثل الصيد او الملاكمة او قطع الاشجار الى بعض ذلك المهن كالجراحة او الجزارة والشخص الذي يخفق في دراسته قد ينقلب الى رجل اعمال ناجح والمراهق الذي يلجا الى التفوق في الفن او الرياضة هو اعلاء للدافع الجنسي الذي يخفق في اشباعه فالشخص الذي يحال بينه وبين اشباع الدافع الجنسي قد يقوم في اعلائه ويلجأ الى كتابة القصص الغرامية او الشعر او عمل اللوحات الفنية وفي اعلاء تصريف كالطاقة الجنسية المكبوتة او انقاص من حدة التوتر. ولكنه ليس تصريفا كاملا ولا انقاصا تاما وذلك لان الاشباع الجنسي لا يحقق الدافع الجنسي وحده وانما يحقق كذلك كثير من الدوافع الاخرى المرتبطة به مثل الحاجة الى الرفيق والرغبة في الاعتماد على الغير والابوة والسيطرة، وهذه الدوافع لا يمكن اشباعها بالسلوك البديل الذي اعلينا به الدافع الجنسي.

9.2.1. النسيان

حيلة تحدث للكبت (الذي عرفنا انه وسيلة يتقى بها الانسان ادراك نزعاته ودوافعه التي لا يقبلها المجتمع). ويمكن تعريف النسيان بانه حيلة يلجا اليها الفرد للتخلص من الدوافع الغير مقبولة والرغبات التي استحال تحقيقها والذكريات المؤلمة، فتختفي اختفاء تام عن وعي الفرد وادراكه ويزول ما كان يمكن ان يترتب عليها من سلوك. فقد ينسى الانسان موعدا مع شخص لا يود في قرارة نفسه ان يراه، او ينسى اسم شخص يكرهه وقد يتسم نطاق النسيان فيشمل فترة من حياة الانسان مليئة بالخبرات والمواقف المؤلمة المكبوتة، بل وقد يمتد النسيان فيشمل حياة الفرد الماضية كلها، فلا يذكر عن نفسه شيئا مما مضى. والنسيان الذي يعتبر حيلة دفاعية ويحدث نتيجة للكبت يختلف عن النسيان العادي الذي يحدث عادة في حياتنا اليومية في ان الاخير يحدث نتيجة ضعف بعض الخبرات وزوالها من الذاكرة بسبب الارهاق او بسبب كثرة نواحي النشاط التي يقوم بها الفرد، ولكن من الممكن ان يسترجع الفرد هذه الخبرات المنسية من الجهد او اذا وجدت الظروف المناسبة لتذكرها، اما النسيان الناتج عن الكبت فهو حيلة دفاعية هروبية لا شعورية وليس من السهل تذكر ما كبت الا اثناء العلاج النفسي.

10.2.1. التحويل

نوع من الحيل العقلية تعالج عن طريقها القلق او الخوف عن نطاق الشعور بواسطة عراقيل الصراعات الداخلية او الدوافع المكبوتة الى منافذ خارجية موضوعية منها ماهو عرض جسمي تعبر بصورة رمزية استعارية عن تلك الدوافع التي استقبحها الضمير ومنها ما يتضمن تحويلا فسلوجيا يعبر في صورة وظيفية عن الدوافع والنزعات التي تبرء منها العقل الواعي تعبير سلوكي في صورة عدوان لا ينصب على الاشخاص او الاشياء التي اثارته وبدلا ممكن ان ينصب على مصدر الاحباط فانه قد ينصب على اول كبش فداء يلقاه الانسان في طريقه كالتلميذ الحاقد على ابيه الذي يصب حقده لا شعوريا على مدرسيه.

11.2.1. الانسحاب

وهي حيلة هروبية تهدف الى ازالة او تخفيف التوتر والالم الناتج عن عائق يحول دون اشباع الفرد عن طريق الابتعاد او الانسحاب عن موضوعها او غرضها تجنب المواقف التي تسبب الفشل او التي تؤدي الى النقد او العقاب فالشخص الذي يفشل او يلقى الصد في توفقه الاجتماعي قد ينصرف عن محاولة التوافق الاجتماعي ويتجنب المنبهات التي تسبب المشقة ويتجنب مصاحبة الناس ويفضل وسائل التسلية والاعمال الانفرادية عن تلك التي تتضمن مناقشة او مباراة، كما يكتفي في مشاركة الناس او بدلا من مشاركتهم في نشاطهم، وفي ذلك محاولة للتوافق لان الشخص الذي لا يحاول المشاركة الاجتماعية لن يعاني من الم الفشل او كثرة النقد او الصد المستمر او العقاب. وكثيرا ما يتصرف الاطفال لمثل هذه المعاملة اثناء تربيتهم وتساعد حالات الضعف او التشويه البدني او حالات المرض الطويل على استخدام هذا النمط السلوكي. فيصبح الميل الى العلة والوحدة والخجل وسيلة او وحدة يتجنب بها الفرد الاحباط الاجتماعي ومشاكل الحياة وعقبات التعامل مع الغير ويعتبر علماء النفس الحيل الانسحابية اكثر خطرا من الحيل العدوانية لانها اصعب في الكشف عنها، فهي لا تثير الانتباه الايجابي بل تمثل غالبا السلوك الهادي المنتظم الذي لا يضيق به بل يفضله الابوين والمدرسين. كما انها اشق في تعديلها لان الفرد يكون اقل رغبة او نشاطا في سعيه الى التوافق. وفي بعض الحالات المتطرفة من الانسحاب والعزلة يبدو الفرد كما لو كان ابله او ضعيف العقل، عسيرا في تجاوبه مع من حوله، يبدو علية الشرود وعدم الاكتراث، فيختلط الامر على من يلاحظه فيظن به ضعفا او مرضا عقليا. ومن الامراض العقلية فعلا ما يتميز بالسراف في الانسحاب والخبل المبكر الذي يرجع الى عوامل فسلوجية، ولكن يوجد لدى المرضى به تاريخ من الانزال السابق.

 12.2.1. تكوين الاستجابة المضادة او الانعكاسات

هي احد الحيل الدفاعية اللاشعورية التي يلجا اليها عقل الانسان السلوكي يصون الفرد ذاته ويبقى على ما اتسمت به من خلق كريم ويدعم سلامته. ويحدث ذلك عندما يغير الانسان استجابة مرزولة غير مقبولة اجتماعيا تتعارض مع الصفات التي يحرص الفرد على الظهور بها فيحوله الى عكسها.

وقد سبق ان وضحنا مفهوم الكبت الذي قد يكون سبب مثل هذا النوع من الحيل اللاشعورية فالدافع المكبوت الذي يتنافى مع توقعات المجتمع لن يبقى خاملا بل يعمل باستمرار ليخترق مجال الشعور متصارعا مع القوى الكابتة والتي تعمل على طمسه ولكن من النادر ان ينجح الدافع المكبوت في دخول مجال الشعور فيلجا الى حيلة لا شعورية كهذه للتعبير عن نفسه وتخفيف التوتر المترتب عليه.

ومن المظاهر المشابهة للفراط الزائد بالفضائح الجنسية او الاهتمام الزائد بالاحتشام محاولة لاخفاء الرغبات الجنسية المكبوتة او الاهتمام الزائد بالوقار الشخصي لعدم الاعتراف بالجهل او اقرار الخطأ او اخفاء الاحساس بعدم الكفاءة. وقد يظهر الانسان اهتماما زائدا بصحة الغير وهو بهذه العملية اللاشعورية يخفي شعورا او دفاعا غير مقبول، يجعله يتمنى الموت له لسبب او اخر. ومن امثلته ايضا اعلان الفرد الثورة والحرب على الاثم. والخطيئة بشكل لا هوادة فيه فيهاجم المنحرفين ويدينهم بقوة وعنف على اثام وقضايا وانحرافات اذا لم يكون هو نفسه قد ارتكبها في الماضي او الحاضر فهو على الاقل يتمنا اثباتها. فهو بقسوته على المنحرفين يدين نفسه فيهم ويعبر ضمانا عما يدور وهو بهذا يحارب ما في نفسه من دوافع رذيلة مستقيمة يأباها على نفسه ومن جهة اخرى يستعلى على الغير ويضع نفسه في مركز الرقابة على الاخلاق، وهو بهذا يقدم هذه الدوافع المرذولة لتتخذ صورة عكسية هي نقيض الصورة الاصلية.

ومن المرتكزات ما تعرف بالية العكس التي تعالج الكبت الناشئ عن تصارع دافعين او التهديد باحباط دافع معين فيظهر شعور او انفعال مناقض تماما للشعور الاصلي الكبوت، فقد يشعر الفرد بحب شخص يكرهه كي ينال منه بحبه الشديد ما لا يستطيع ان يناله بكراهيته المكشوفة فهو يعذبه ويعتبره بهذا الحب ويطويه تحت سلطانه ويحرمه من الاستمتاع بمناهج الحياة الاخرى. او كان يشعر الفرد بكره شديد او موضوع احبه نتيجة شعوره باخفاق هذا الحب العجز عن الفوز بحب متبادل او اذا شعر بان هذا الحب.

* باحث من العراق

...........................................

المراجع

1. المصادر العربية

لبيب، عثمان فراج و صبري، نعمان (ترجمة). التوجيه: فلسفته واسسه ووسائله. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، عام 1958.

محمود، عطية واخرون، الشخصية والصحة النفسية. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، عام 1959.

عماد، محمد الدين اسماعيل، الشخصية والعلاج النفسي. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، عام 1970.

فهمي، مصطفى، الانسان وصحته النفسية. القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، عام 1970.

د. مرير، عباس وسيج، الارشاد التربوي والصحة النفسية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية: جامعة القادسية، عام 1999.

محسن، فاضل الازيرجاوي. اسس علم النفس التربوي. دار الكتب للطباعة والنشر – الموصل، عام 1991.

2.المصادر الاجنبية

Abbatt, F. Teaching for Better Learning, A Guide for Teachers of Primary health Care Staff. England, 1992.

Guilbert, J. Eduactional Handbook for Health Personnel, WHO, 1980.

Hollingshead, A. B. & Redlich, R. C.: Social Class & Mental Illness. NewYork: Wiley, 1995.

Johodu, M.: "Toward a Social Psycology of Mental Disorder". NewYork: Norton, 1980.

Kaplan, L.: Mental Health & Human Relations in Eduation. NewYork: Harper, 1967.

Labi, F.: Principles & Public Health. Cario: Sherif Bookshop, 1971.

Occupational Health, a Manual for Primary Health Care Workers, WHO, 2002.

Redl, F. & Wattenberg, W., Mental Hygiene in Teaching. NewYork: Harcourt, Brace, 1959.

Young, B. & Burston, S. Primary Health Education. Longman, Harlow, Essex, 1987

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21/شباط/2012 - 28/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م