الإمَامُ العَسْكَرِيّ(ع) وَالكِفَاحُ السِّيَاسِّي

محمّد جواد سنبه

تثبت السُنن التاريخية أنّ سلاطين الظلم والاستبداد، أوّل ما يفكرون به لتثبيت أركان حكمهم، العمل على تأكيد ثلاثة محاور.

الأول: تفريق وتمزيق وحدة الرأي العامّ، حتى يتخلّصون من الأفكار التي يُجمع عليها النّاس، وتكون مصدراً لقوّتهم ووحدتهم.

الثاني: قتل القيادات المخلصة التي تشكل رأس الحربة، في مشروع المقاومة التي تعمل ضدهم.

الثالث: اعتماد منهج فكري محدد، واتخاذه كرمز فكري ومَعلَمِ ثقافي لسلطة الحاكم المستبدّ. والعمل على توظيف الأقلام المأجورة، لمناصرة هذا المنهج، وتأطيره بإطار الموضوعية والنضج، لغرض محاربة الفكر الذي يتبناه خصوم السلطة.(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

لقد عاش أئمة أهل البيت(ع)، هذه المعاناة واحداً تلو الآخر. وعندما جاء دور الإمام الحسن العسكري(ع)، وجد أنّ المعتصم العباسي عمل على تسييد الأتراك على المجتمع. فالمصادر التاريخية تذكر أنّ المعتصم جمع منهم عشرين ألفاً، وميّزهم عن غيرهم، فالبسهم أنواع الدّيباج والمناطق الذهبيّة والحلية المذهّبة. وسار على منهج أبيه المأمون في تبني فكرة (خلق القرآن)، كمنهج فكري خاص بالدولة، ومن يعارض هذا الفكر، فهو كافر ويستحق القتل. ففي سنة (219 هـ) احضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن، فلم يجب الى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله، وتقطع جلده وحبس مقيّداً.(الكامل في التاريخ/ نقلاً عن كتاب خلفاء بني العباس والمغول/السيّد حسن شبّر).

عاش الإمام الحسن العسكري(ع) في خضم ظروف سياسية متوتّرة، حيث كثرت المؤامرات والدسائس بين أقطاب السلطة، الأمر الذي أحدث ارتباكاً في الجو العام للمجتمع. فالمجتمع عندما يرى السّاسة منشغلين بشؤونهم الخاصة عن رعاية مصالحه، تنشأ فيه بيئة خصبة تروّج فيها الأفكار الشّاذّة. والتحليل الدقيق لواقع البنية الاجتماعيّة، في عصر الإمام العسكري(ع)، يقودنا إلى تفشي الفقر، وإرهاق ميزانيّة الدّولة بتبذير ثروات الشّعب، بصرفها على ملذّات وصراعات أقطاب السلطة. وشيوع الأفكار الضّالّة والهدّامة، إضافة إلى استخدام سياسة عزل المجتمع، عن أئمّة الهدى(ع)، باستخدام وسيلتين هما:

الأولى: إرهاب العامّة، للحدّ من تواصلهم مع الأئمة(ع).

الثانية: فرض الإقامة الجبريّة عليهم، واستخدام المخبرين السرييّن، لمراقبتهم ومعرفة تحركاتهم.

لقد عمل الإمام(ع) على تحفيز الحسّ الأمني عند مريديه، لتوفير أكبر مساحة ممكنة من الأمان، لأصحابه من سطوة السّلطة الغاشمة، حتى يتسنَ لهم العمل في السّاحة.

فعندما أودع الإمام العسكري(ع) السّجن، في إحدى المرّات، كان من بين المسجونين بعض من اتباعه. وكان مع السجناء أيضاً، شخص من مخابرات النظام، دسّته السلطة بين السجناء. فقال الإمام(ع) لأصحابه:(هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان، يخبره بما تقولون فيه(في السلطان)، فقام بعضهم(خلسة)، بتفتيش ثيابه فوجد فيها القصّة.)(المصدر السابق).

إنّ المجتمع إذا ما اتّصل اتّصالا مباشراً، والتحم فكريّاً وعقائدياًّ وثقافيّاً وروحيّاً، مع المنهج العقائدي والفكري والثقافي لأهل البيت(ع)، فإنّ ذلك لا يبقي الساحة في قبضة الحكّام المستبدين على الإطلاق، ولم يستطع أحد منهم الاستمرار في رئاسة الحكم.

و في فترة حياة الإمام العسكري(ع) نشطت الأفكار التي تجادل في صفات الخالق تعالى، فأخذ يعتقد قسم من الناس، بنظريّة تجسيم الخالق تعالى. ومنهم من يقول بأنّه سبحانه على هيئة جسم، والآخر يقول أنّه على هيئة صورة. وتفاقم الأمر حتى وصل بأنْ يظهر (الكندي)، كشخصيّة تبشّر بتناقض القرآن الكريم، بعضه مع بعض. فقد ورد في كتاب المناقب لابن شهرشوب: (أن يعقوب بن اسحق الكندي) أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله. وعندما عرف الإمام العسكري بمهمّة هذا الرجل، أمر أحد تلامذة(تلامذة الكندي)، بأن يقوم بمهمة ارشاد استاذه، وفق خطّة وضعها الإمام(ع) لإرشاد (الكندي) إلى طريق الصواب. وبعد أنْ تمّ ذلك للتلميذ مع أستاذه (الكندي)، أدرك الأخير أنّ هذه المحاججة، ليست من فكر تلميذه، فأقسم على التلميذ أنْ يخبره عن الحقيقة، فقال له التلميذ: أمرني بذلك الإمام الحسن العسكري(ع)، فقال (الكندي): (وماكان ليخرج مثل هذا الأمر، إلاّ من ذلك البيّت الذي زقّ أهله العلم زقاً))، فتراجع الكندي عن افكاره تلك.

أمام هذا الجوّ المشحون بتبلبل الأفكار والخوف والرّعب، بنى الإمام العسكري خطته النضاليّة، لمقاومة المستبدّين على أمرين.

الأوّل: الاعتماد على مجموعة من الأشخاص المناضلين المخلصين للإسلام وقيمه، أُطلق عليهم اسم الوكلاء.

والثاني: استخدام المراسلات السريّة بينه(ع) وبين وكلائه.

وحسب المصطلحات الإعلاميّة الحديثة، استخدم الإمام العسكري(ع)، طريقة الإتّصال الشخصي غير المباشر مع وكلائه. لقد كانت أخبار القواعد الجماهيريّة، تُجمَع وتصل إلى الإمام سراً، عن طريق الوسطاء. وبالمقابل كانت تصل تعليمات الإمام إلى جماهيره ومريديه بنفس الطريقة.

وكلما اكتشفت السلطة الغاشمة تأثير الإمام(ع) في الأوساط الجماهيريّة، عمدت إلى حبس الإمام(ع) وتغييبه عن التواصل مع الناس. ووصل الأمر أنّ المهتدي العباسي، يقسم بإبادة أهل البيت فيقول: (والله لأجلينّهم عن جديد الأرض)، ولكن الله شاء أن يقتل قبل أنْ يقوم بذلك.

عندما يتهاوى المجتمع تحت تأثير الضربات الموجعة، لعنف وإرهاب السلطة، ويسيطر عليه الخوف والفقر والجهل، تبدأ العامّة بالتحلل عن القيم الاخلاقيّة. ففي الازمات يبدأ المجتمع باتّباع سلوك الهروب من الواقع، (طبعاً ماعدا الشخصيّات الرساليّة الصلبة)، فيلجأ إلى المجون والخلاعة والغش والجريمة، كحالة من السلوك الإنعاكسي للظروف الثقيلة التي يمرّ بها. ورسالة الأئمّة(ع) التصحيحية، تأخذ مساراتها العمليّة في تغيير واقع الأمّة. وسيكون أثر هذا الفعل التصحيحي، أكثر وقعاً على السلطة، عندما يهتدي على يد الإمام أو أحد اتباعه، شخص يشغل منصباً في السلطة، وهذا ما حصل مع عدد من السجّانين، من ذوي الطباع القاسية الذين أوكلوا للتضييق على الإمام العسكري(ع) في سجنه، ومنهم (علي بن اوتامش) الذي تأثر بأخلاق وسلوك الإمام، وأصبح من أحسن الناس بصيرة وقولاً.

كما أنّ للإمام العسكري(ع) أسلوبه الحركيّ، للوصول إلى قلوب وأفكار ومشاعر الجماهير البعيدة عنه، بكسر أسوار الحصار عنه، وجعل الجماهير متعلقة بقيادته ومتابعة لأخباره ومتفاعلة مع شخصيته، عن طريق إطلاق الوصايا إلى اتباعه. فيوصي شيعته بأنْ يكون لهم دور في إرساء معالم السلام والتكافل الاجتماعي، حتى يأخذ كلّ منهم دوره الرّسالي في إصلاح المجتمع، فيوصيهم (ع) بقوله: (أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والإجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص). صِلوا في عشائرهم (أي اعتمدوا التواصل من خلال اقامة العلاقات الطيبة، بيّن اتباع الإمام(ع) وعشائرهم وبيّن عشائر الآخرين، لزيادة الكمّ والنوع الجماهيري الموالي لمنهج أهل البيت(ع)).

واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم فإنّ الرجل منكم إذا وَرع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع النّاس وقيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ موَدّة، وادفعوا عنا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل من حسن فنحن أهله، وما قيل من سوء فما نحن كذلك.)(انتهى النصّ).

أقول: لنرَ المنهج الربّاني، في ثنايا هذه الوصيّة العظيمة، ونلاحظ الأسلوب التغييري الهادف الذي يريده الإمام العسكري(ع)، أنْ يسود في أوساط المجتمع. ويا ترى هل نجحنا، في تطبيق نسبة من هذه الوصيّة في الوقت الحاضر؟.

إذا كانت الإجابة بالنفي، إذن نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة لسلوكنا، أليس كذلك؟.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 4/شباط/2012 - 11/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م