الرَسُوُلُ (ص) وَدَوْلَتُهُ المَدَنِيَّةُ

محمّد جواد سنبه

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(صدق الله العلي العظيم)

 

جاءت الرسالة المُحمديّة الخاتمة، بعد سلسلة من الرسالات السماويّة، التي توالت على البشريّة وإن كانت الفترات الفاصلة، بين واحدة واخرى طويلة، بحسابات عمر البشر. وجميع الرسالات السماويّة هدفها المحوري هو الانسان، وإن كان نضال كلّ رسالة من الرسالات، موجهاً لنقض القيم البالية والمتخلفة، السائدة في زمن الرسالة المرسلة. ويلاحظ ايضاً أنّ الرسالات السماويّة تقصد في مهمتها الرساليّة، محاربة القوى الكبرى السائدة والمهيمنة، على مسرح الحياة الاجتماعيّة في عصرها. فقصص انبياء الله (نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد) عليهم الصلاة والسلام، زاخرة بالصراعات الآيديولوجيّة، مع القوى المؤثرة في عصر كلّ منهم؛ (المشركون، نمرود، الفراعنة، عبدة الاوثان، الجاهلية). إنّ القرون الطويلة التي مرّت على البشريّة، وهي تكتوي بنار التعسّف والظلم والقهر، على يد قوى الاستكبار المناوئة، لأي حركة تحرر ترمي تخليص الانسان، من طوق العبودية داخلياً وخارجياً، (داخلياً عبادة الانسان لذاته ولشهواته، وخارجياً استعباد القوي للضعيف).

في ظل هذا الصراع الأزلي والمستمر الى يوم يبعثون، بين القوى الطاغوتيّة الظالمة، وهي تفرض قواها القاهرة المتسلّطة، على الانسان المؤمن وغير المؤمن ايضاً، وبين مبادئ العدل والحقّ والحريّة والمساواة، التي ظل يحمل شعلتها القليل جداً من المناضلين المؤمنين. تلك العناصر الرساليّة المؤمنة بقيم السماء، والتي تدفع ثمن إيمانها دماً عبيطاً يراق على مذبح الشهادة.

بعد ان قضى رسول الله محمد(ص) فترة الدعوة في مكّة، واخذت وقتها كمرحلة تاريخية، بلّورت أسس التضحية والمقاومة عند المستضعفين، في مرحلة كفاحهم ضدّ المستكبرين في مكّة. وبعدما انضجت التجربة المكيّة الرجال الرساليين، وصنعت منهم افراداً لا يخافون الموت ولا يرهبون الطغاة، ومارسوا عملياً الوقوف وجهاً لوجه، ضدّ قوى البغي والشرّ، وهم لا يملكون أيّة مقومات ماديّة، وكان سلاحهم الوحيد هو السلاح المعنوي، سلاح الايمان. ومع كلّ التحديات لم تلن عريكتهم أو تهن عزيمتهم أمام تيّار الصنميّة العنيف. لقد نجح الرسول (ص) بغرس فكرة الولاء للإسلام، قبل الولاء للقبيلة وللموروث الجاهلي، وهذه خطوة عظيمة جعلت من بعض تلامذته، يحملون عناصر الثورة ويبشرون بجذوتها، حتى بعد وفاة الرسول(ص). وبعد الهجرة من مكّة والاستقرار في المدينة، انتقل الرسول (ص) الى صفحة تأسيس الدّولة المدنيّة، الدولة التي ستخاطب العالم، وتبشّر بمفاهيم الإسلام المجيد.

الدّولة المدنيّة الجديدة، تحتاج لدستور ينظّم العلاقة بين متطلبات الدّولة، ومتطلبات المجتمع. وإذا كانت متطلبات الدّولة مدعومة بالتسديد الإلهي، فبالتأكيد أنّها تمتلك من التشريعات، ما يُمكّنها من بناء أنجح العلاقات المقامة، بينها كدولة وبين المجتمع المتنوع الذي ستحكمه. وبالرغم من عدم تجانس المجتمع في المدينة المنورة، ووجود مستويات من التفاوت الطبقي، والاختلاف القبلي والديني أيضاً. بيّد أنّ رسالة الإسلام قضت منذ البداية على أهم عناصر التمايز والاختلاف، فالزمت جميع المؤمنين بأهداف الرسالة لتطبيقها، باطلاق مجموعة من الثوابت الرسالية منها:

1. القضاء على الرّق. (الناس أحرار كما ولدتهم امهاتهم).

2. المساواة بين الناس قومياً (لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى).

3. ضرب الأسس الماديّة وإبدالها بقيم روحيّة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

وانطلق الرسول(ص) ببناء الدّولة بتأسيس أوّل وحدة، تدار منها مهام الدّولة، مسجد قباء. وأرسى كذلك الجانب الثاني من أركان الدّولة الحديثة، دستورها الذي يشكّل القانون الاساس، الذي تقوم عليه الدّولة، والذي أطلق عليه اسم الصحيفة. لقد نقل الرسول(ص) المجتمع من مرحلة كان لا يعرف فيها الناس غير الاعراف القبلية، الى مرحلة سَنّ القانون، وأنْ يكون ايضاً القانون فوق الجميع. وهذا مخالف للأعراف السائدة وقتذاك، حيث كان لكل قوّم سيّدهم وسائسهم، وهو صاحب الكلمة الطولى بينهم.

ولفهم الأسس القانونيّة للدولة المدنيّة، التي أسسها رسول الله محمد(ص) لابدّ أنْ نذكر بعض فقرات دستورها (وليس كلها)، توخياً للاختصار:

1. توحيد القاعدة الجماهيريّة، بالولاء للإسلام فقط (المسلمون أمّة واحدة).

2. التكافل الإجتماعي بين المؤمنين. (وأن المؤمنين لا يتركون مغرماً بينهم. (المغرم: مثقل بالدين، الكثير العيال).

3. لا أحد فوق القضاء، وأنْ يكُن الجميع مع الحقّ. (وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (كبيرة) ظلم او اثم او عدوان او فساد بين المؤمنين، وأن ايديهم عليه جميعاً ولو كان ولد احدهم).

4. القانون هو الذي ينظم الحياة بين الجميع (.... وإن ذمّة الله واحدة يجير عليهم أدناهم).

5. إشاعة الرّوح التضامنيّة والمواطنة الصّالحة، وهي مسؤوليّة المؤمنين قبل غيرهم. (وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس).

6. من يسير في خطّ الدّولة فله حقوق وعليه واجبات، وإنْ كان لا يعتنق الإسلام (بشرط أن لا يكون مشركاً).(وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم).

7. لا يجوز لأحد نصرة المجرم أو إيوائه. (وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ ما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه). (محدثاً: مجرماً).

8. عند الاختلاف، يكون القانون الإلهي مرجعيّة الجميع. (وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مردّه الى الله عزّ وجل، وإلى محمد).

9. يتحمل اليهود مع المسلمين، نفقات الحرب الدفاعيّة. (وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).

10. يتمتع اليهود بحريتهم الدينيّة. (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم – مواليهم وأنفسهم- إلاّ من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلاّ نفسه). (يوتِغ: يهلك)

11. يمنع أي مسلم من اجبار أي يهودي على الخروج من المدينة، ولا يجوز احتجازه ايضاً. (وإنه لا يخرج منهم احد إلاّ بإذن محمد، وإنه لاينحجز على ثأر جرح).

12. في حالة السلم، يتحمل المسلمون نفقتهم، واليهود يتحملون نفقة انفسهم كذلك. وأن يكونوا معاً على من يحارب أهل المدينة. (وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة).

13. تأسيس قاعدة العلاقات العامّة بين المسلمين واليهود، فيحقّ لليهود إبداء الرأي وتقديم المشورة باحسان وبدون غشّ. (وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم).

14. لا يعاقب شخص بجريرة غيّره، وأن يُنصر المظلوم. (وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم).

15. حرمة المساس بالمال العام والحقّ العام، والأمن العام. (يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة).

16. الأولوية للصلح والسلام، وليس للحرب والقتال. والعدو الرئيس للدّولة الاسلاميّة هو المحارب للإسلام. (وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، إلاّ من حارب في الدين).

17. لا يحمي هذا الدّستور الظالمين والمذنبين. (وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم).

18. القانون يحمي كل مسالم يبقى في المدينة أو يخرج منها، وإنّ القانون لا يحمي الظالمين والمذنبين، بغض النظر عن الدّين والجّنس والقوميّة واللون. (وإنه من خرج أمن، ومن قعد أمن بالمدينة، إلاّ من ظلم وأثم...).

أليس هذه المواد الأساسيّة من دستور دولة الإسلام، كفيلة بضمان الحريّات والمساواة، في الحقوق والواجبات بين افراد المجتمع؟.

ألا تعتبر وثيقة المدينة التي قدمها رسول الله (ص)، مادّة قانونيّة بإمكان المشرّع (الآن أو في المستقبل)، أنْ يستمد منها العناصر القانونيّة التي تعتمد عليها الدّولة المدنيّة؟.

ألا تعتبر هذه المواصفات صالحة، لإقامة حكم مدني تحت ظلال التشريع الإسلامي. وامكانيّة التشريع الإسلامي من انتاج دوّلة مدنيّة، على عكس ما يشيع البعض وبإصرار، أنّ الإسلام عاجز عن ذلك تماماً؟.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/كانون الثاني/2012 - 1 /ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م